إنّ النفس الإنسانية مجبولةٌ على الطاعة والخضوع أمام كلّ عظيم وكامل، أمام كلّ مَن يؤمّن لها سعادتها وراحتها وكمالها. وهذه الحقيقة وصمةٌ على جبين الإنسانية لا مفرّ منها أبداً. فالإنسان لا محالة عابدٌ ومطيعٌ، والسبب في ذلك فقره وضعفه ونقصه. ولكن هذا الإنسان إما أن يكون عابداً ومطيعاً لموجود فقيرٍ ومحتاجٍ مثله، وإما أن يكون خاضغاً لموجود كامل لا نقص فيه أبداً. وما يرجوه الإنسان من خضوعه وعبادته دوماً هو نيله السعادة التي يتوق إليها، ويبحث عنها في الليل والنهار، وهي السعادة الخالدة والدائمة التي لا نقص فيها ولا عوج، لا السعادة المحدودة الزائلة والفانية. وهذه السعادة بطبيعة الحال لن تكون عند مخلوق ضعيف مثله، لأنّه لا يمتلكها أيضاً، ففاقد الشيء لا يعطيه أبداً. وهو لو توجّه إلى موجود ضعيف ومحتاج مثله، فإنّه لن يزيده إلاّ فقراً ونقصاً، لأنّ الآخرين مثله محتاجون أيضاً إلى مَن يعطيهم السعادة والكمال، ولو أظهروا لنا خلاف ذلك. فلا مفرّ من العبودية والطاعة، ولكن الإنسان إما أن يكون عبداً لله تعالى وإما عبداً للدنيا والأهواء. والإنسان إذا أراد أن يدرك ما عند الله تعالى، الذي هو أصل كلّ غنىً وكمال، ومصدر كلّ جمال ومنبع، كلّ سعادة وطمأنينة وراحة في هذا العالم، فإنّه لن يحصل على مراده إلاّ بعبادته وحده، لأنّ العبادة ليست سوى التعبير العملي عن التوجّه نحوه عزّ وجلّ. عن مولى الموحّدين عليّ (عليه السلام) أنّه قال: «إنّه لا يُدرك ما عند الله إلاّ بطاعته». أما سعي الإنسان وراء الدنيا وإعمال الجهد في تحصيل ملذّاتها وكمالاتها الموهومة الفانية، فلن يزيد الإنسان سوى عطش وحيرة وضلالة». كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «مثلُ الدنيا كمثلِ ماء البحر، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله». والسبب في ذلك أنّ الدنيا الفانية والناقصة لا يمكن أن تكون بحالٍ من الأحوال غاية الأرواح الباحثة عن الخلود والسعادة، التي لا حدّ لها ولا منتهى. لذا أمر الله تعالى الإنسان بطاعته، وألا يشرك بطاعته أحداً، لأنّ الطاعة هي الترجمة العملية للخضوع والحبّ، وحبّ الله لا يمكن أن يجتمع معه حبٌّ آخر، كما قال تعالى في كتابه العزيز: «مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» (الأحزاب: 4)، فطاعة الله ومحبته لا تجتمعا مع طاعة غيره، قال تعالى: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ ش َيْئًا» (النساء: 36). وقال عزّ مَن قائل: «اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة: 21). ويحذّر من طاعة غيره، فيقول: «وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» (الأنعام: 121). إذاً التحقّق بالكمال الإنساني اللامتناهي لا يتم إلاّ بالارتباط الحقيقي والعميق بالحقّ جلّ وعلا. ونحن لو أردنا أن نعطي مرادفاً آخر للارتباط الفعلي والعملي بالله عزّوجلّ، فلن نجد أفضل من كلمة العبودية. فمن المتعذّر على الإنسان الباحث عن السعادة والكمال الإنساني المنشود أن يجد مطلوبه عند غير الله تعالى. والله سبحانه وتعالى اختصر وجود الإنسان في هذه الدنيا بكلمة واحدة هي العبادة. فالطريق الوحيد إلى الغاية الحقيقية هو الانقياد التام لله سبحانه، الذي يظهر بصورة اتّباع رسله وتطبيق شريعته. فالعبودية الحقّة لا تتحقق إلاّ من خلال الانقياد التام لله وترك التمرد والعناد. ونتيجة هذه العبودية: «يا ابن آدم: أنا غنّي لا افتقر، أطعني فيما أمرتك أجعلك غنياً لا تفتقر. يا ابن آدم: أنا حي لا أموت أطعني فيما أمرتك أجعلك حياً لا تموت. يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق