وبعد عشرين صيفاً وسنة، التقينا صُدفة في يوم شتائي، مع شمس ربيعيّة، في مقهى. تصافحنا على عَجَل، وتجالسنا كغريبين لا يتوقان إلى توطيد المعرفة. هكذا التقيت حباً قديماً هذا الصباح.
القدر حين يلعب معك سيضعك في لعبة، كعلبة هدايا غير متوقعة، وتعجز عن التعبير.
ماذا نفعل، وماذا نقول حين نلتقي بعد غياب طويل حبيباً لم يعُد حبيباً، ولم يصبح صديقاً، ولا حتى زميلاً أو حتى عابر سبيل؟ هكذا تلتقي الغائب، وتحدّثه بلا مشاعر ولا أحاسيس، مع أنك كنت يوماً تعيش معه ولأجله، بأرَقّ المشاعر وأعمق الأحاسيس، والكون لا يتسع لفيض نبضاتك.
رحنا نسرق من بعضنا نظرات متلصصة على ما جرى لنا، نتأمل شعر بعضنا.. الخصلات.. نسترق نظرة إلى الوجه بكل تفاصيله، أو نتجنب النظر إلى يدي حبيب سابق بلمساته.. أو نتحسس رنّة الصوت ونتلقّف مخارج الحروف ونفتّش عن الموسيقى في إيقاعات الكلام.
حين نلتقي الحبيب الذي كان ولم يعد له مكان، وحده القلب لا يتأثر. على الرغم من ذلك، يقودنا اللقاء إلى ما بعد اللقاء، حين نعود وحدنا. نركض إلى أقرب مرآة في المصعد الكهربائي لنتأمل الزمن الذي مرّ على كل مسام من جلدنا، نتفحّص الضوء في أعيننا، الارتباك يغمرنا، نرتبك مثل كوكب على مشارف انفجار، كأننا نبكي، ليس للحبيب، وإنما الحب الذي كان وصار زماناً بزمان.
حُب قديم تُجالسه ونعلم علم اليقين أنّه لن يتجدد، مات ولن يعود، ولكن حين تراه ترى عمرك على وجهه، كأنّه تشاهد قبر يفتش عنك ليدفنك.
حين التقيت حباً قديماً، لم أبْكِ على أطلاله، ولم أشعر بشغف، بقدر ما شعرت بثقل الزمن من زمني. وما لفتني أنها تحسَّست يدها وتلعثمت بأصابعها.. عيناها "تأتأتا" من رموشهما.. النطق صعب.. وكأنّ المفاجأة جعلتها تنتبه لثيابها.. هل كانت جميلة؟ وبينما انصرفتُ مُوَدِّعاً لها، أعدتُ السؤال على نفسي أنا أيضاً: هل كنت أنا متأنقاً.. جميلاً.. جذاباً.. شاباً؟
علينا أن ننتبه كل يوم إلى أناقتنا، فربما التقينا حُباً قديماً، لنُثبت له أننا مازلنا على قيد الجمال والحياة. لننتبه إلى تسريحة شعرنا، إلى صحّتنا، إلى رشاقتنا. يجب أن نكون مستعدين كل لحظة، لأنّ الزَّمَن قد يُباغتنا ويضعنا في مرآة غير كل أنواع المرايا.. مرآة الزمن التي لا يُحطّمها أحد.
ارسال التعليق