منذ أن استقر في حجرة السطح لم أرَ في وجود شريف ما يستعدي عليَّ ضميري من دون شك يستذكر فهو طالب بكلية التجارة.. ماذا لو رآني أحد السكّان أطرق بابه في مثل هذه الساعة؟ عن نفسي لا يهمني.. اعتدت كلام الناس حتى تشبعت به.. لكنّه هو دائماً يذكرني بالناس.. يعمل لهم ألف حساب.. هل يعقل إذاً أن أصعد إلى حجرته في مثل هذه الساعة فأحرجه حتى لو كان الأمر حدثاً في حياتي لا مثيل له؟ النور الذي يوشك أن يبدد الظلمات وينتشلني من الضياع؟ فتحت باب الشقة الصغيرة التي أُقيم فيها مع والدي السكير.. اعتدت الأمر.. أُمّي هجرته.. ظلمها الناس مثلما يظلمونني الآن.. كلا.. ليس كلّ الناس.. شريف كان مختلفاً.. لم ينبذني، بل حاول أن ينبهني إلى ضرورة احترام معايير الآخرين وقيمهم كان يقول لي: أنت بطبيعتك جميلة فخلصي جوهرك ممّا علق به شوائب.. أثق بك.. لماذا إذاً هذه التصرّفات الهوجاء؟ الظروف كانت أقوى مني.. أبي السكير وهروب أُمّي وفشلي في التعليم واضطراري إلى العمل بائعة في المحال.. قابلت شريف في الصباح.. نهرني قائلاً: اخفضي صوتك.. لا تتحدثي بهذه الطريقة الماجنة.. أتمنى أن أراك سوية.. قلت: حرام عليك.. حتى حينما أحبّ تريدني أن أكون متزنة؟ سأل هل أنت متأكدة هذه المرّة.. صحت: إنّه يحبنّي أنا التي ينبذني الجميع.. هذه المرة الأمر مختلف.. قال: أريد أن أطمئن.. هل هذا الشاب جاد في علاقته بك؟ أقلقتني لهجته.. قلت: الماضي في حياتي لا يعنيه.. هو جاء ولن يخذلني. أسعدني أنّ شريف بدأ يثق بصدق عواطفي بعد أن لاحظ التغيير في لهجتي وتصرّفاتي.. لكنّني ضعفت أمام حبيبي.. كانت المرّة الأولى في حياتي.. ضمني قائلاً: أقسم لك سنتزوج، سألت: متى؟ أجاب: أرجو أن يقتنع أهلي.. أُمّي بالذات.. فقد حدثوها عنك.. تزوجنا عرفياً بعد أن تحركت ثمرة في أحشائي.. قال شريف: كنت أتمنى لك بداية مختلفة. ما حدث بعد ذلك لا يصدقه عقل.. مات حبيبي في حادثة.. هرعت كالمجنونة إلى بيت أهله فطردوني شر طردة.. ووقف شريف وحده إلى جانبي، ووضعت طفلي فأنكره أهل حبيبي تماماً كما أنكروا الورقة العرفية. عشت مع أبي.. لم أعد وحيدة.. أصبحت مسؤولة عن فلذة بريئة.. إلى مَن ألجأ؟ إلى شريف.. ومَن سواه؟ كان قد تخرج لكنّه في انتظار الحصول على وظيفة، لا يزال يسكن حجرة السطح.. ألغيت كلّ المعايير وصعدت إليه.. قلت: أنت متباعد عني، إذا كان الشك انتابك أنت الآخر لفقدي الورقة العرفية التي تثبت زواجي بحبيبي.. فقلها صراحة، فأن تشك أنت بالذات يعني أنّ أحداً في الدنيا لن يصدقني. مرت لحظات قبل أن يقول: أصدقك. قلت: إذاً أخبرني.. لماذا يكذبني الناس جميعاً؟ قال: أنت استفززت الجميع.. حتى أُمّه.. دائماً بسلوكك تستعدين الناس عليك.. وأنت بتصرّفاتك التي ستفتحين كلّ الأبواب المغلقة.. عودي إلى العمل وكافحي بشرف، وتخلي عن التحدي، وسترين أنّ الناس هم الذين يسعون إليك. ومد يده واحتوى كفي هامساً: أنا لست بحاجة إلى دليل.. الآن.. ودائماً.. كان وجود شريف يستعدي عليَّ ضميري، الآن أصبح وجوده ضرورة تعينني على مواصلة المسيرة.. من أجل ولدي.. من أجل استقراري النفسي، وازدادت ابتسامتي اتساعاً.. ما أغباني.. لم أفهم رسالة شريف في حياتي إلّا مؤخراً.. لكن الحمدلله.. قبل فوات الأوان.
ارسال التعليق