• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أسرار الدنيا

أسرار الدنيا
في إحدى القرى الهندية تعيش "جوليا" في بيت متواضع بصحبة أختها "كرين"، التي تقضي يومها بالعمل في الحقول والمزرعة لتوفير قوتها، وتدخر ما زاد على الحاجة. تذهب صباحاً، لرعي الماشية وتنظف الحقول وتسقي المزارع.. وبمرور الزمن أحست "كرين" بالكبر وصعوبة إكمال الواجبات اليومية كونها امرأة، أصبح عمرها يناهز الخمسين عاماً، فحاولت الاستعانة بالمقربين، لكن اعتذر الجميع عن ذلك كون كل شخص لديه واجبات ومهام متعددة في الحياة. فذات يوم رجعت إلى البيت ووجدت أختها "جوليا" ملقاة على المنضدة، اقتربت منها وبعد ذلك نادتها قائلة: "ابنتي، ابنتي، أختي..". لم ترد "جوليا" على النداء، فأصابت "كرين" الدهشة، معتقدة أنها كانت نائمة، فمسكت يدها ورفعتها إلى الأعلى فوجدت أنّ الذراع لا تتجاوب معها بمعنى أنها ميتة. انغمرت "كرين" بالبكاء من دون أن تسقط دمعة واحدة على خدها المليء بالخطوط والتجاعيد بفعل كبر السن ومعاناة الروتين اليومي القاتل. فكرت "كرين" في وضع جثة أختها "جوليا" في إحدى غرف المنزل لكي لا تتلاشى ذكريات الطفولة والأخوة والعشرة الطويلة.. فحضر عدد من المقربين في القرية وانشغلت "كرين" بمراسم الاستقبال والتوديع للحاضرين، وفجأة اختفت الجثة التي كانت مغطاة بقماش أحمر، ما أدى إلى زيادة الحزن والشوق. لم تكن السيدة "كرين" تفهم وتدرك معنى الحياة طوال الفترة السابقة بقرب حبيبتها "جوليا" كونها تخرج صباحاً للعمل وتعود ليلاً تتناول ما وجد من طعام بسيط لا يسد رمقها، واعتادت ارتداء ثياب رثة وبالية توحي ببساطتها والحالة التي تعيش فيها. وفي أحد الأيام، التقت المرأة صديقاً قديماً، وطلبت منه أن يساعدها في إيجاد حبيبتها وابنتها التي اختفت فجأة، ولم تستطع حتى الشرطة الريفية والمحلية العثور عليها. طلب منها رفيقها نقل الحقول والمواشي إلى المنطقة المجاورة للبحر، وهناك يمكنها نسيان شبح الحزن الذي لا جدوى من الفرار منه، وقال لها بحسرة: "أنت في حاجة إلى وطن جديد تستطيعين من خلاله العثور على سارق الابنة والأخت..". فردت "كرين" بصوت منخفض جدّاً قائلة: "هل يوجد أمل في الوطن الجديد، لا أعتقد ذلك، كوننا لا نملك الإنترنت ووسائل التواصل التقني والفني (وسائل التواصل الاجتماعي) مع من نحب ونريد.. فلهذا أريد من يشرح لي آلية تشغيل جهاز التلفاز من مكان بعيد دون القيام بأي حركة جسدية أو فكرية". ومر على القرية وقت صعب لعدم وجود إمكانية رعي الماشية وسقي الزرع لجفاف الأنهار ولقلة سقوط الأمطار.. فاضطرت السيدة الكبيرة إلى الاستعانة بالآبار، ما سببت موت جميع الماشية وفقدان ما تمت زراعته، فأصبح وضع المرأة المدبرة صعباً، بحيث سبب إصابتها بمرض نفسي يسمى القلق والحيرة أدى إلى وفاتها على المنضدة نفسها التي توفيت عليها الحبيبة والرفيقة "جوليا". لم يعلم بخبر وفاتها إلا شخص واحد اسمه "الظلام". حاول "الظلام" تشويه الصورة الحقيقية بصفة العتمة وإلغاء الضياء والنور والبهجة على الروحين البريئتين من أجل إيقاف عجلة التقدم والازدهار. وفي المساء، جاء الصديق القديم حاملاً بيده شمعة بيضاء، أنارت أجواء المنزل بضيائها، وضعها على المنضدة فاختفت الجثة، فجاء وجلس على الكرسي المتحرك بجوار المنضدة متأملاً في ثنايا الأجواء وأسرار الدنيا وخفايا الأمور، فوجد نفسه في ظلام كون الشمعة البيضاء وضيائها البهي قد انتهت فلم يستطع الرؤية ولا حتى التحرك، لكنه تذكر أن ثمة حبيباً وصديقاً هو الوطن الذي ينتمي إليه ويعيش فيه. وفي الحقيقة، لم يستطع تفسير ما حدث له حتى بزوغ فجر الصباح وظهور قطرات الندى على أوراق الأشجار المكتظة التي مر بها مسرعاً نحو الغابة. وهناك شاهد قرداً يتسلق على الأشجار التي لم يستطع معرفة أسمائها، فناداه ليسأله هل ثمة نهاية لهذه الغابة؟ فأجاب القرد: "لا يبقى سوى الظلام".

ارسال التعليق

Top