أسرة
1- المربِّي الأكبر:
قال تعالى: (اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ) (الصافات/ 126).
التطبيق الحياتي: يُعرّف الرب بأنّه المتكفِّل بمصلحة الموجودات، وأنّ ربوبيّته (ملكهُ، وتدبيرهُ، وقيمومته وإنعامه) تمتدّ للناس جميعاً من قبل ومن بعد؛ لأنّها لا تختصّ بقومٍ لشمول خلقه ورعايته، وإشرافه وتدبيره.
والرب الذي (يملك) الشيء و(يصلحه)، وهو الذي يُنشئ الشيء حالاً فحالاً حدّ التمام، فأيّ شيء نستفيد كمربِّين من مثلنا الأعلى في التربية؟
أوّلاً: إنّنا يجب أن لا نكتفي بما نملك، بل لابدّ من أن نُصلح ما نملك ونرفده ونُعزِّزه.
ثانياً: رعايتنا يجب أن لا تقتصر على صنف الذرِّية دون صنف.
ثالثاً: إنّ إعالة أسرتنا وحدها ليست كافية، بل لابدّ أن نتكفّل مصلحة مَن يلوذ بنا من الأبناء والبنات.
رابعاً: أن نهدف من وراء تربيتنا لهم أن نصل بهم إلى مراقي الكمال ما استطعنا.
إنّ تربية الله لنا هي تربية ممتدّة مع الحياة، وخيرُ ما أدّبنا به تعالى هو أن نتخلّق – جاهدين – بأخلاقه؛ لأنّ ذلك هو منهج التربية الذي تربّى عليه الأنبياء (ع).
وإنّ معنى التربية مشتقٌّ من (الربوبيّة)، وهي العناية بالمخلوقات فكلّ مَن هو تحت ولايتك – أباً كُنتَ أم مُعلِّماً، أم مسؤولاً في مؤسّسة، أو رئيساً لدولة – أنتَ مسؤولٌ عن تربيته وتطويره وإنماء قابليّاته ومواهبه.
2- أصالة العمل:
قال تعالى: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ...) (الأنعام/ 135).
التطبيق الحياتي: على مكانتكم: أي على قدر منزلتكم وإمكاناتكم، وذلك هو خطاب الأنبياء (ع) لأُممهم، أن لا يتوقّفوا عن العمل، وأن لا يستندوا في أعمالهم على النسب، فالنّبي (ع) هو نفسه عمل وبلا هوادة، سواء في حمل الرسالة أو أداء الأمانة أو توعية الناس وتربيتهم.
وأصالة العمل هذه تُعلِّم المربِّين أن يُركِّزوا على مفهوم القُرب من الله والبُعد عنه، فعلاقة ابن نوح النسبيّة لم تشفع له في قِبال عمله غير الصالح، فكان من المغرقين.
ولذلك تجد أنّ النبي (ص) يُركِّز المفهوم في أذهان المقرّبين منه، حيث خاطب ابنته فاطمة (ع)، وعمّته صفيّة، وبني هاشم قاطبة، بالقول: "اعمَلُوا على مكانتكُم إنِّي عامل، ولا يقُولنّ أحدٌ إنِّي قريبٌ من رسول الله، فوَالذي نفسُ محمدٍ بيدهِ لو عصيت لهويت"!
فليسَ ثمّة امتيازات ولا محسوبيّة ولا منسوبيّة ولا قرابة بين أحد وبين الله، ولن توزّع الجنّةُ والنارُ يوم القيامة على أساس (الأنساب)، بل على ضوء (الأعمال) المستندة إلى الإيمان.
ويقول الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) لشيعته الذين رجحت بهم الأماني ظانِّين أنّهم بانتسابهم إليه سيدخلون الجنّة: "ليس بينَ اللهِ وبين أحدٍ قرابة، إنّ وليّ الله مَن أطاعهُ ولو كان عبداً حبشيّاً، وأنّ عدوّ الله مَن عصاهُ وإن كان سيِّداً قرشيّاً"!! ولا تنفع الشفاعةُ إلّا بإذنه.
3- تصحيح المفاهيم وتعميقها:
قال تعالى: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (هود/ 46).
التطبيق الحياتي: من وسائل التربية التي اعتمدها القرآن الكريم هو أن يُصحِّح المفاهيم المغلوطة والمتداولة عُرفاً أو المحدودة قيمةً، فابن نوح ليس من أهله الذين هم أهل الإيمان، ولأنّه كان عاصياً فالتقويم أو المعيار في العلاقة معه هو علاقته بالله قُرباً وبُعداً.
والبرّ ليس تولية الوجه قِبَل المسجد الأقصى أو البيت الحرام للصلاة، بل هو الإيمان والتقوى ورعاية المساكين من الناس والوفاء بالعهد والصبر في جميع الأحوال، وليس هو إتيان البيوت من ظهورها، ولكنّه تقوى الله بما في ذلك إتيان البيوت من أبوابها، لا بيوت السكن فقط، بل باب كلّ علاقة أو حرفة أو عمل، أي أنّه كناية عن التنظيم أيضاً.
إنّ مشكلة موسى (ع) مع قومه، وهي مشكلة جميع الأنبياء، هي أنّ المفاهيم التي كانوا يحملونها غير المفاهيم التي كان يحملها: يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار، أو على حسب تعبير الإمام علي (ع) في مخاطبته لرعيّته: "أريدكم لله وتريدونني لأنفسكم"!!
وهذا درس في تربية الأُمّة، فما لم ترتفع فأفكارها وعواطفها وسلوكها إلى مستوى أهداف قياداتها الرشيدة والصالحة، قعدت بها مفاهيمها الهابطة والمتخلِّفة، كما أنّ من أساليب القرآن التربوية تركيزه على رصد الخطوات العمليّة لأيِّ تجربة، والتعرّف على الملامح الخطأ والصواب فيها، لمعالجتها من الموقع نفسه، ليلتقي المسلمون بالمفهوم في حركة الواقع عندهم.
فمفهوم النصر عند الله هو أن تُعدّ الأُمّة أساليب النصر ومقدّماته، وليس هو أن تجلس في بيوتها وتدعو الله أن يُنزل عليها النصر كما أنزل على بني إسرائيل (المنّ والسلوى) في التّيه.
مفهوم النصر – كما يُثبِّته القرآن – هو: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد/ 7). والمجال لا يتسع لاستعراض أو استقراء هذا الأسلوب التربوي الراقي في القرآن، وإنّما هي إشارات نشير إليها.
4- مواجهة التحدِّيات:
قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران/ 173).
التطبيق الحياتي: هذا مثل حيّ لكلِّ حالة تحدٍّ يتعرض لها الإنسان كحالة خاصّة، أو يتعرّض لها المجتمع كحالة عامّة، فالهروب من المشكلة – كما يُقال – لا يُساعد على حلِّها، بل يُفاقم تعقيدها، ولذلك فإنّ (الفرار من الزّحف) – كما مرّ – إنّما عُدّ كبيرة لأنّه هروب من التحدِّي وليس مواجهةً له، والفرار من المشكلة هو كالفرار من الزحف لا باعتباره كبيرة، بل لأنّه انحناء أمام التحدِّي.
فليس (أبو سفيان) وحده الذي كان يُحشِّد للنّيْل من المسلمين، بل الأعداء في كلِّ وقتٍ يُحشِّدون للقضاء على الإسلام، ولكنّ الإسلام عمّر؛ لأنّه واجه التحدِّي بالتحدِّي والتهديد بالثبات، فلابدّ من الإستعداد الدائم للمواجهة صغيرةً كانت المشكلة أم كبيرة.
وهذا النوع من التربية هو التربية بالمواجهة النفسية للحرب النفسية.
قال تعالى في آيةٍ لاحقة: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 175).
وتجارب الإيمان الراسخ كثيرة وغنيّة في أنّ روحيّته هزمت أساليب التخويف والترهيب، فالشعور بالإنتماء إلى الله، وبمعيّته، وبقدرته المطلقة، يُفرغ الداخل من عوامل الضعف والإنهزام، كواجهة نفسيّة، ويأتي الاستعداد أو الإعداد للمواجهة الميدانيّة كظهير لتلك المواجهة، لتعمل المواجهتان كمواجهة واحدة بوجه أيّ تحدٍّ عاتٍ.
5- نفع الناس:
قال تعالى: (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ) (الرعد/ 17).
التطبيق الحياتي: التفتَ بعض المفسِّرين إلى التطبيقات الحياتية العديدة لهذه الآية التي تختزن في داخلها بُعداً تربويّاً يسري على كلِّ نفع يقوم به الإنسان لنفع أخيه في الإنسانيّة، حتى أصبح معيار الخيريّة في الإسلام مرهوناً بنفع الناس: "خيرُ الناس مَن نفعَ الناس".
إنّ الزّبَد لا يروي ضمآناً ولا يسقي أشجاراً، فليس له من الاستعمالات الحياتيّة حظّ، أمّا الصافي فهو أصل الحياة.
والزّبد هو الباطل المترف المستكبر العالي الصوت الفارغ المحتوى، أمّا الحقّ فقليل متواضع، لكنّه كبير المعنى ثقيل الوزن.
والحق مستند إلى نفسه واعتباره منه، أمّا الباطل فيسترق اعتباره من الحقِّ بتلبّسه بلبوسه، ولو فقدت البضاعة السليمة في الأسواق لوجدت مَن ينخدع بالبضائع المغشوشة؛ لأنّها ستنطلي عليه، كَوْن المقارنة بين الفاسد والصالح مفقودة.
والغاية التي تنتهي إليها الآية في إيحاءاتها ودلالاتها هي أنّ بقاء أيّ موجود مرتبط بمنفعته، وأنّ الباطل ليس له القدرة على الاحتفاظ بنفسه، فقد يصل إلى مرحلة معيّنة يُطرح فيها خارج المجتمع، ويُلقى به على الساحل مهملاً كما تلقي الأمواج بالزّبد أو تطرده إلى الساحل وكأنّها تقول له: أنتَ لست منّا، أنتَ غريب عنّا، ومَن هو ليس من جنسنا فمكانه ليس البحر، بل رمال الساحل أو ضموره.
نفع الناس خُلقٌ رباني، سعيدٌ وفائزٌ مَن تخلّق به. يقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة/ 164).
ارسال التعليق