• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

لقاء الغروب والشروق

محمود أحمد علي

لقاء الغروب والشروق
(1) لا أدري ما السر وراء إصرار وإلحاح أبي المتواصلين كي أتزوّج، وكثيراً ما سألته سؤالي الأوحد، راجياً منه أن يروي ظمئي بماء إجابته: -         لماذا تريدني أن أتزوّج؟ يجيب: "غداً.. غداً سوف تعرف". ولأن إجابته التي جاءت كماء مالح.. زادتني عطشاً على عطشي، ولأنني دائماً متعطش لمعرفة الإجابة، قررت الزواج. ثمّ تزوّجت.. متعطشاً رحت أسأله: -         ألم يحن الوقت لإجابتي؟ يبتسم في وجهي –أستبشر خيراً– ثمّ يقول: -         غداً.. غداً سوف تعرف.   (2) في إصرار وإلحاح متواصلين عاد أبي يسألني سؤاله الأوحد المتكرر كلما رأى زوجتي أمامه في (الرايحة والجاية): -         هل هناك شيء قادم في الطريق؟ أعود لأجيبه عن سؤالي بسؤال مثله: -         لماذا يا أبتي؟ يجيبني وعيناه تحدقان بشدة إلى بطن زوجتي: -         غداً.. غداً سوف تعرف. انتفخ بطن زوجتي.. وراح أبي يقطع أوراق نتيجة بيتنا، اليوم بعد الآخر منتظراً في شوق موعد ولادة زوجتي، حتى جاء يومٌ وقال لي مبتسماً: -         غداً.. غداً موعد ولادة زوجتك.. وجاء اليوم، وحانت لحظة الولادة، تلك اللحظة التي جعلت أبي متوتراً غير قادر على الجلوس لحظة واحدة، العرق يغسل وجهه، السيجارة تلو الأخرى، وأنا جالس في عجب من أمره. ومازال أبي يتحرّك كبندول الساعة أمام حجرة الولادة، وهو يردد في آلية منتظمة: -         يا رب ولد.. يا رب ولد.. خوفي الشديد على أبي جعلني لا ألتفت إلى صرخات زوجتي المتواصلة، حتى وجدتني أردد في همس: -         يا رب ولد.. ولد يا رب من أجل أبي.. -         واء... واء... واء... واء... واء... واء... واء... توتُّر أبي توقّف.. فور سماع صوت صرخات القادم، وقف أمام الباب منتظراً خروج القابلة القانونية في لهفة وشوق شديدين.. خرجت القابلة القانونية حاملة بين يديها ما لا نعرف له نوعاً.. تبسّمت في وجهينا ثمّ راحت تقول: -         بنت كما القمر.. لفنا الصمت.. هوت الصفعة قويّة على خد أبي.. راحت القابلة القانونية تنظر إلى أبي الذي تسمّر في مكانه يحدق إلى القمر، بعدما اتّسعت عيناه إستنكاراً ودهشة، وتلوّن وجهه بالسواد كلون الصدمة، ثمّ تلفتت ناحيتي لتجدني غارقاً في النظر إلى أبي..   (3) إصرار أبي عاد يستيقظ من نومه الطويل فور علمه (بفطام) قمرنا، ومن ثمّ راح يطلب منِّي في رجاء ملح أن أجعل زوجتي تحمل من جديد.. رميته بسؤالي: -         لماذا يا أبي؟ قال وفي عينيه لمعة من دمع: -         غداً.. غداً سوف تعرف. ولأن حبي لأبي لا يفوقه حب.. ولأن حب زوجتي لي لا يفوقه حب كما تردده دوماً، ولهذا لم ترفض ما تمنّاه، وألحّ في طلبه أبي.. ولأن ما نتمنّاه وننتظره دوماً لا يأتي، تماماً كما يقول أبي: "الدنيا لن تعطينا ما نحبّه". ولأن إصرار أبي لم يتوقف.. ولأنّه لم يمل الإنتظار.. ولأنِّي أحبّه.. ولأن زوجتي تحبّني.. ولأنّني متعطش للغد الآتي لمعرفة الإجابة.. ولأن.. ولأن.. راحت زوجتي مرغمة تلد طفلة قمرية كل عامين، حتى وصل عدد البنات في بيتنا إلى ثماني نعم ثماني، وها أنا ذا أقف أمام حجرة ولادة زوجتي لأفعل ما كان يفعله أبي قبل مرضه، ذلك المرض الذي لا ذنب لي فيه، كما تُردد زوجتي. وعلى الرغم من صحة قولها، إلا أنّني أشعر بأنّني المتسبِّب الوحيد في كل الأمراض التي ألمت به، حتى جعلته طريح الفراش. نعم أنا الوحيد المتسبِّب في كل هذه الأمراض وليس غيري. ففي كل مرّة تلد فيها زوجتي طفلة قمرية، أجده يصاب بصدمة.. تلك الصدمة التي يليها مرض ما، حتى أصيب أبي بالسكر، ومن ورائه ضغط الدم المرتفع، والقلب، والقولون العصبي. ومن ورائه... ومن ورائه... ومن ورائه... وآخر هذه الأمراض إصابته بالشلل النصفي. فقد راح يعدُّ لإبني، الذي هو آتٍ مؤكداً ذلك قول الطبيب عبر الأشعة التلفزيونية. فور بلوغه شهره الرابع في بطن أُمّه، كل ما هو جديد وفريد من نوعه يخص الأطفال، من ألعاب، وملابس و"سبوع"، وغيرها، حتى جاءت لحظة الميلاد التي انتظرها أبي في هدوء شديد على غير عادته، فإذا بالقابلة القانونية تخرج علينا وهي تصرخ فرِحةً: -         بنت كما القمر.. ليسقط أبي سقطته التي أقعدته طريح الفراش لعامه الثاني.. ولأن أبي لم يعد يستطيع الكلام.. ولأن إصراره داخله لم يمت بعد.. ولأن حبّي لأبي راح يزداد.. ويزداد.. ويزداد.. وعلى الرغم من تحذيرات الطبيب بعدم الإنجاب مرّة أخرى، رحت أطلب من زوجتي أن تحمل قبل أن تفطم قمرنا الثامن، وها أنا ذا أقف منتظراً، عن يميني حجرة أبي وإلى جواره رفيقة دربه، وعن يساري الحجرة التي تلد فيها زوجتي، وإلى جوارها رفيقتها على مدار سنوات الزواج، الست "أُم أحمد" الداية.. صوت أنفاس أبي عبدالله الخارجة بقوّة جراء ضيق التنفس لم تتوقف لحظة واحدة.. وصوت صرخات زوجتي لم يتوقف هو الآخر لحظة واحدة.. وما بين توحُّد الصوتين، وجدتني أردد كما كان يردد أبي: -         يا رب ولد.. ولد يا رب.. وما بين أنفاس أبي الحالمة، وصرخات زوجتي المتواصلة، وجدت رأسي يتحرّك تارة يمنة، وتارة يسرة. -         واء... واء... واء... واء... واء... واء... واء... خرجت عليَّ القابلة تصرخ فرحة: -         ولد.. ولد كما القمر. -         يا لهوي... يا لهوي... يا لهوي. أسرعت، حيث صوت الصرخات، وطفلي بين يديّ مازال يصرخ باكياً، وجدت أُمّي تلطم خدّيها حزناً على موت أبي المفاجئ. في خطى بطيئة متثاقلة رحت أتقدم من أبي، تعجّبت عندما رأيته يحدق مبتسماً إلى وجه طفلي الذي مازال يبكي.. وجدتني أنظر إلى الشرفة لأرى ضوء الشمس الآتي من بعيد يتهادى.. يعانق في شوق ولهفة خدي الغروب.. -         بابا.. بابا نسميه إيه؟ وجدتني أجيب طفلتي الواقفة إلى جواري: -         عبدالله.

ارسال التعليق

Top