• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

نحـن والقرآن

نحـن والقرآن

سؤال: ما هي وظيفتنا الفعلية تجاه القرآن الكريم؟

الكثير منّا ينشد إلى أن يفهم القرآن فهماً صحيحاً، وأن يقف على أسراره وتعاليمه، وهناك مقدّمات ضرورية وضعها العلماء في فهم القرآن:

1- الفهم الإجمالي للقرآن الكريم لا يختص بفئة معيّنة، فقد جاء القرآن ليستفيد منه الجميع. وفي التاريخ قصص عديدة تحدّثت عن أفراد كانوا كافرين بالإسلام ويعارضونه؛ ولكنهم بعد أن استمعوا لبعض آيات القرآن وأدركوا معانيها تعلّقوا بالإسلام تعلُّقاً شديداً واستهدوا بهداه.

2- إنّ القرآن الكريم مع كون معظمه مُيسَّراً لفهم العامّة قد نزل باللغة العربية لغة عصر النبيّ (ص)، وكان خطابه شفهياً وليس خطياً.. وعلى المهتمّين بدراسة القرآن وفهمه أن يولوا هذه المعطيات – وما يترتب عليها – اهتماماً كبيراً، وذلك من خلال ثلاثة شروط:

الشرط الأوّل: الإحاطة باللغة العربية من خلال المعرفة الجيِّدة بالصرف والنحو واللغة، وقابلية الاستفادة من الكتب اللغوية، مع الالتفات إلى أنّ لبعض المفردات عدّة معان، الأمر الذي يقتضي مقدرة نسبية في الاستفادة من الكُتُب اللغوية لتحديد المعنى المناسب.

الشرط الثاني: ضرورة الإطلاع على ثقافة اللغة العربية في الحجاز ونجد واليمن ومناطق التداول في عصر النبوّة، ويعلم كلُّ مَن لديه معرفة باللغات أنّ اللغة عند كلّ الشعوب تتطوّر وتتغيّر. فإنّ هناك مفردات لغوية تعطي الآن معنىً مغايراً للمعنى الذي أعطته قبل ألف وأربعمائة عام. ومثال ذلك كلمة (هلك) التي ليس لها مدلول سلبي في اللغة في ذلك الزمن، بينما تعطي هذه الدلالة في عصرنا هذا. ويضم إلى معرفته باللغة إحاطته بالظروف الاجتماعية وغيرها التي تكتنف عصر صدور الموضوع، لأنّ الخطاب القرآني عاش في وسط تلك الأجواء، لذلك ثمة مجموعة من القرائن تساعد على فهم قصد المتحدِّث والكاتب.

الشرط الثالث: إنّ القرآن ليس مؤلفاً على شكل كتاب، وإنما هو مجموعة من الآيات والسُّوَر التي تنزّلت على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، وفي مناسبات مختلفة، ولظروف متنوّعة، ثمّ جُمعت بهذا الشكل. ولم يكن تنظيم الآيات وترتيبها حسب نزولها ووحيها. من هنا، فإذا رأينا أحياناً أنّ المعنى الظاهر والواضح لآية لا يرتبط ارتباطاً كاملاً مع موضوع الآيات اللاحقة أو السابقة، فيجب أن لا يستولي علينا الشكّ والريب، فنحاول عبثاً أن نفرض معنى للآية كي نوجد الترابط بينها وبين تلك الآيات.

3- الملاحظ في آيات القرآن الكريم أنّ بعضها تناولت نفس الموضوع في فترات مختلفة ونتيجة لتغيُّر الظروف، تعالج ما استجدّ من أُمور وتكمل الموضوع السابق، لذلك فإذا أردنا أن نُبيِّن رأي الإسلام في موضوع معيّن فيجب استقصاء كلّ الآيات ذات العلاقة بذلك الموضوع وتنظيمها وفق التسلسل الزمني لتنزلها.

4- ينبغي أن ندرك أنّ القرآن بحكم كونه كتاباً عالمياً وخالداً لا يمكن أن يقتصر محتواه على ظروف ذلك العصر، بل يتجاوزها ليشمل كلّ زمان ومكان. مثال ذلك ما رُوي من أنّه: قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحد، فأسلم. فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله. وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود. فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي (ع) يسأله، فلمّا قرأ الكتاب، كُتب: "يُضرب حتى يموت". فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلّة، فكتب (ع): "بسم الله الرحمن الرحيم (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (غافر/ 84-85)"، فأمر به المتوكل، فضُرب حتى مات.

فالإمام الهادي (ع) قد استنبط حكم الموضوع من آية مباركة، لا يذكرها الفقهاء في عداد آيات الأحكام، غير أنّ الإمام لوقوفه على سعة دلالة القرآن، ولسعة امتدادات الآيات القرآنية في الحياة، استنبط حكم الموضوع من تلك الآية.

5- قد يزعم البعض أنّ لغة القرآن رمزيّة، وهنا يجب إيضاح المقصود من هذا الزعم: فإذا كان المقصود منه أنّ لغة القرآن كالرسائل المشفرة المتداولة بين السياسيين والعسكريين التي تُكتب بإشارات ورموز متفق عليها مسبقاً، فنحن نرفض ذلك. فالقرآن ليس كتاب رموز وإشارات، إنّه كتاب مُبين بمفاهيم بيِّنة ومُبيَّنة، وأنّ القسم الأعظم والأساسي فيه هو الآيات المحكمات بمعانيها الثابتة والقريبة من فهم العامّة. أجل هناك قسم من الآيات القرآنية يُسمّى بالمتشابهات، وهي رمزية إلى حدٍّ ما؛ ولكنها لا تُشكِّل سوى قسم قليل من الآيات.

وأمّا إذا كان المقصود أنّ ثمة مفاهيم ومعاني أعلى في القرآن، إضافة إلى المعاني القريبة من فهم الجميع، بحيث يدركها بصورة أفضل أولئك المتقدِّمون فكرياً أو اجتماعياً، دون أن تتنافى مع تلك، إنما هي مرحلة فوقها، فنحن حينئذ نوافق على هذا الفهم ولا ضير فيه.

6- في القرآن آيات متشابهة، وهناك نوعان للمتشابه:

أ) المتشابه الكامل: مثل قوله تعالى (ألم)، (ألر)، (كهيعص).

ب) المتشابه النسبي: بمعنى وضوح معنى العبارة إلى حدٍّ ما.

وعندما يتردد الإنسان في فهم المعنى من العبارة بحيث تعطي معنيين متقابلين، نُرجع المتشابه إلى المحكم.

7- هناك مَن ينسب تفسير آية أو موضوع قرآني إلى النبيّ أو الإمام بمجرّد أنّه وجد رواية واحدة أشارت إلى ذلك المورد؛ لكن مَن قال إنّ أي رواية في واقعها صادرة عن النبيّ أو الإمام إذا نسبت لهما في أي كتاب؟ نعم، إذا ثبت أنّ الرواية التفسيرية صادرة عن النبيّ أو الإمام فلا نقاش في ذلك، فإنّها تلعب دوراً مهماً في فهم القرآن؛ ولكن مقدار الروايات التفسيرية التي يمكننا الجزم بأنّها صادرة عن النبيّ والأئمة قليل.

 

المصدر: كتاب بساتين الإيمان

ارسال التعليق

Top