• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مبدأ الصلح في القرآن الكريم

أسرة البلاغ

مبدأ الصلح في القرآن الكريم

    يثبت القرآن مبدأ الصلح بين الخصوم وأصحاب الخلاف والمشاكل والنزاعات أساساً للحل، كما ثبت العفو أساساً في مواضع أخرى من بيانه ومنهجه في إصلاح الأفراد والجماعة، وحل مشاكل المجتمع.. فان القانون قد يعجز عن الحل، وقد يكون لتطبيقه آثار سلبية، واعتبر القرآن الصلح خيراً من إجراء القانون، وحسم القضايا عن طريق المجازاة، أو الانتهاء إلى القطيعة والتوتر..

تحدث المفسر الشهير الراغب الأصفهاني عن معنى الصلح فقال :" ... والصلح يختص بإزالة النفار بين الناس، يقال منه اصطلحوا، أو تصالحوا، قال تعالى : (أنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلحاً وَالصُّلحُ خَيْرٌ وَانْ تُصْلِحوا وَتتقوا فأصلحوا بَينهما فأصْلِحُوا بَينَ أخَويْكم...).

ويدعو القرآن إلى سلوك سبيل الصلح في موارد متعددة من عرضه لمشاكل المجتمع والقبيلة والأسرة فيقول: (وَلا تَجْعَلوا اللهَ عُرْضَةً لِأيْمَانِكُمْ أنْ تَبَرُّوا وَتَتّقوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ وَاللهُ سَميعٌ عَليمٌ) (البقرة/ 224). (يَسْألونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتّقوا اللهَ وَأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنينَ)                                         (الأنفال/ 1). (وَانْ طَائِفَتانِ مِنَ المُؤمِنينَ اقْتَتَلوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَاِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلى الأُخْرَى فَقاتِلوا التِي تَبْغِي حَتّى تَفِئَ إلى أمْرِ اللهِ فَانْ فَاءَتْ فَأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَاقْسِطُوا إنّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ * إنّمَا المُؤمِنُونَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ وَاتّقُوا اللهَ لعَلكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات/ 9-10). (وَاِن امْرَأةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أوْ إعْراضاً فَلا جُنَاحَ عَليْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَاِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَانَّ اللهَ كانَ بِمَا تَعْمَلونَ خَبِيراً) (النساء/ 128). (وَاِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثوا حَكَماً مِنْ أهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أهْلِهَا إِنْ يُريدا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً) (النساء/ 35). ان هذه المجموعة من الآيات تتحدث عن الصلح بين الناس لفض المنازعات، وحل المشاكل التي تحدث في الأسرة بين الزوج وزوجته، وبين أفراد المجتمع بمختلف مواقع تفاعلهم وأنماط مشاكلهم، بدلاً من اللجوء إلى القضاء والمحاكمة..

    إنها دعوة إلى التعالي على الخلاف، ونسيان الخصومة، وإحلال التفاهم والمحبة بدلاً من التشاجر والشقاق.. فالصلح في منطق القرآن خير من الفرقة والخلاف وقطع العلاقة، أو انزال العقوبة والقصاص في الطرف الآخر. فانه يريد أن يبني مجتمع الحب والتفاهم والمودة والتسامح، ولا يريد أن تكون العلاقة بين الناس قائمة على الخلاف والمواجهة والعقوبة والقطيعة والقصاص.. وكما ثبت القرآن مبدأ الصلح والعفو والصفح لحل المشاكل، وإقامة العلاقات الطيبة بين الناس، دعا كذلك إلى التسامي على صغائر القضايا والمشاكل التي يحدث منها الجهال والحمقى مشاكل معقدة.. قال تعالى: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إن هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فسَوْفَ يَعْلمُونَ ) (الزخرف/ 88-89). (أُوْلئِكَ يُؤْتُونَ أجْرَهُمْ مَرّتيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئةَ وَمِمَّا رَزَقنَاهُمْ يُنفِقونَ * وإذا سَمِعُوا اللغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وَقالوا لنَا أعْمَالنَا وَلكُمْ أعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَليْكُمْ لا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ) (القصص/ 54-55). (وَالذينَ هُمْ عَنِ اللغْوِ مُعْرِضُون) (المؤمنون/ 3) (وَالذِينَ لا يَشْهَدونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرّوا كِرَاماً) (الفرقان/ 72). وهكذا تتضح صورة الشخصية الإسلامية في المجتمع الإسلامي شخصية تتمثل فيها صفات الرب التي يتعامل بها مع الخلق. فالرب عفو غفور رحيم، يريد الخير والصلاح لهذا الإنسان، دعاه إلى أن يعفو ويصفح، ويلجأ إلى الصلح.. وكم هو رائع ومعبر قول الإمام علي (ع) الذي جاء في كتابه إلى مالك الأشتر، واليه على مصر:" فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فانك فوقهم، وولي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحب الله فانه لا يَدَ لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ولا تندمنّ على عفو، ولا تَبْجَحَنَّ بعقوبة، ولا تُسرعنَّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمَّر، آمُرُ فأطاع، فان ذلك ادغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير". وقد يتأثر الإنسان بمواقف سلبية من أناس يحسن إليهم.. يقابلون إحسانه بالإساءة ، فيحدث في نفسه رد فعل.. فيرد على إساءتهم بالمثل، فيقطع عنهم إحسانه ومعروفه، ويحرمهم من العون المادي، أو الإسناد الأدبي الذي يقدمه لهم.. والقرآن يتسامى في منهجه التربوي على ردود الفعل تلك، ويطالب الإنسان المسلم أن يتسامى إلى ما هو أرقى من ردة الفعل التي يوقف فيها الإنسان عمل المعروف، بسبب إساءة المسيئين.. جاء ذلك في قوله تعالى:

    (وَلا يَأتَلِ أُوْلُو الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يَؤْتُوا أُولِي القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهاجِرينَ في سَبِيلِ اللهِ وَليَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لكُمْ وَاللهُ غَفورٌ رَحيمٌ)  (النور / 22). وهكذا يثبت القرآن للإنسان منهجاً أخلاقياً يوقظ حسّه ووجدانه كلما أسيئ إليه ، ووقف بين قراري العفو والعقاب.. يخاطبه القرآن : إذا اعف عن الآخرين واصفح.. لنقف أمام عظمة هذه الآية، وما فيها من دلالات تربوية، وأفق أنساني رحب ، وقيم أخلاقية فريدة .. وتزداد عظمة هذه القيم عندما نعرف سبب نزول هذه الآية..  لقد نزلت هذه الآية اثر حادثة الافك المعروفة والتي شكلت إساءة بالغة لشخص الرسول (ص) وطعناً كبيراً لكرامته المقدسة من قبل المنافقين والذين في قلوبهم مرض، الذين اختلقوا ذلك. الأمر العظيم.. وبغض النظر عن المقصود بتلك الإشاعة الكاذبة أكانت عائشة زوج النبي (ص) أم مارية أُمّ ولده إبراهيم لاختلاف الروايات التاريخية إلا أن من الثابت نزول القرآن ببراءة ساحة أهل النبي (ص) من تلك التهمة التي سماها القرآن افكاً وعوقب الذين افتعلوه وأشاعوه وكان فيهم من الفقراء الذين ينفق عليهم بعض الصحابة الذين أقسموا أن لا يقدموا العون لأي شخص خاض في حديث الافك ويقطعوا فضلهم عنه، إلا أن القرآن الحكيم ينزل في مثل هذا الجو المشحون بالعواطف والأحاسيس ليعدل من موقف هؤلاء الصحابة الذين قد آذاهم ما أتى به أصحاب الافك.. ولينهاهم عن منع المعروف والمساعدة المالية عنهم ودعاهم إلى بذل العفو عنهم والصفح لهم.. فتراجع أولئك الصحابة عن قرارهم وأعادوا النفقة إليهم.. ثم أتم الوحي بيانه بفقرة ذات دلالة تعبدية أخلاقية عظيمة وهي الربط بين العفو عن الناس وبين طلب العفو من الله سبحانه.. انه تذكير للإنسان الذي يسئ ثم يستغفر ويرجو العفو والمغفرة، من الله سبحانه، ان القرآن يثير في نفسه الإحساس الأخلاقي فيقول له: كما أنك تريد العفو من الله فأعط العفو من نفسك للناس.. فالله يعفو عنك.. فالموقف الطبيعي لمن يحب العفو لنفسه أن يمنحه من نفسه للناس.. ومن لم يفعل ذلك فانه يقع في إشكال كبير يمثل خللاً أخلاقياً ينبغي عليه إصلاحه.        

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الذينَ يَمْشونَ عَلى الأرْضِ هَوْناً وَإذا خَاطبَهُمُ الجَاهِلونَ قَالُوا سَلاماً)                                      (الفرقان/ 63). (وَقِيلِهِ يا رَبِ إنّ هَؤلاءِ قَوْمٌ لا يُؤمِنونَ * فاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقلْ سَلامٌ فسَوفَ يَعْلمُونَ) (الزخرف/ 88-89) (... فَاصْفَحِ الصّفْحَ الجَميلَ * إنّ رَبَّكَ هُوَ الخَلاقُ العَليمُ) (الحجر/ 85-86). 

وكما تحدث القرآن عن العفو عن المسيئ، لتحقيق أهدافه في الحياة، تحدث عن الصفح، والصفح الجميل، والإعراض عن الجاهلين.. ان القرآن يريد أن يشيع روح المحبة والتسامح.. ذلك لأن السعادة في المحبة، والشقاء في الحقد والكراهية.. فحيثما توجد المحبة، توجد السعادة.. والعقاب والقصاص، وان كانا عدلاً لردع المجرمين والمنحرفين، وإشاعة الأمن في المجتمع، إلا أنهما لا يحققان المحبة، وكلاهما ضروري للحياة العدل والتسامح.

    وفي هاتين الآيتين، نجد شكوى الرسول (ص) من أناس تنكروا للعقل والعلم، وأصروا على العدوانية وأذى الرسول (ص) ومواجهة الدعوة، وأغلقوا منافذ النور ، ليعيش الإنسان  في متاهات الظلام، والقرآن ينقل هذه الشكوى: [ وقيله يا رب] ويضع للرسول (ص) منهج التعامل مع هذا الصنف من الناس، ليفتح أمامهم مرة أخرى سبل العودة، ويهيئ الأجواء النفسية لتقبل الدعوة.. فتقبل الفكر والعقيدة مسألة يتفاعل فيها العقل مع المشاعر والوجدان، لذا أمر بأن يصفح عنهم ويقول لهم: " سلام ".. لم يطالبه بأن يواجههم بكلمة التعنيف والزجر والقطيعة والاستفزاز، بل طلب منه أن يصفح عن هذا الخصم العقيدي، ويقول: " سلام ".. ذلك هو واجبك أيها النبي الداعية أنهم سوف يتحملون مسؤوليتهم، سيلاقون ربهم فسوف يعلمون الحقيقة التي أنكروها وعادوها، وسيواجهون مصيرهم..

وفي مورد آخر نجد القرآن يوجه الرسول (ص) في أسلوب دعوته للإسلام ليخاطب الناس بأحسن الوسائل والأساليب، فان أعرضوا فليصفح عنهم الصفح الجميل.. الصفح الذي ليس فيه مطالبة بشئ، ولا حرص على شئ في أيديهم..

لذا خاطبه بقوله :(فاصفح الصفح الجميل) الصفح الجميل وليس صفح المتحامل الذي يضمر العداء ويخطط للكيد والانتقام انه الخلق الرباني، ونفحات الرحمة تشع من أفق القرآن.. إنها دعوة الرحمن إلى عباد الرحمن.. نقرأ ذلك واضحاً مرة أخرى في وصفه لعباد الرحمن الذين تشبعوا بخلق الرحمن.. نجد ذلك في قوله تعالى: (وَعِبادُ الرَّحمنِ الذينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْناً وَإذا خَاطَبَهُمْ الجَاهِلونَ قالوا سَلاماً) (الفرقان/ 63).

تلك سلوكية الإنسان المؤمن التي يريدها القرآن لا كبرياء ولا كراهية، بل التواضع والعفو عن الناس.. ومقابلة الجاهلين المسيئين بالعفو والصفح.. ان الجاهل المعادي وربما غير المعادي يطلق كلمة الإساءة والاستفزاز أو الإثارة.. ورد فعل المؤمن هو الصفح عن الجاهلين ومقابلة الإساءة بالإحسان بقوله: "سلاماً" لا رد بالمثل، ولا كراهية ولا عدوان.. انه روح الحب والسلام. وإذا فلنبن مجتمع العفو والتسامح، مجتمع الصلح والإصلاح مجتمع الصفح الجميل، مجتمع الإعراض عن اللغو، مجتمع العدل والإحسان الذي نادى به القرآن.

ارسال التعليق

Top