◄العهود كلها يجب الوفاء بها مادامت مرتبطة بالحق والخير والمعروف أو بالأحرى مادامت لا تخرج عن نطاق الدين الإسلامي، الذي أمر بالوفاء بالعقود أمراً عامّاً فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة/ 1)، وهذه الآية هي أجمع الآيات القرآنية لأنواع الوفاء.
انّ أساس العقود الثابت في الإسلام هو هذه الجملة البليغة المفيدة: أوفوا بالعقود، لأنها تفرض على كل إنسان مسلم أن يفي بما عقده وارتبط به، فكل قول أو فعل يعدّه الناس عقدا فهو عهد يجب أن يوفّوا به كما أمر الله تعالى مالم يتضمن تحريم حلال، أو تحليل حرام.
وإذا كانت العهود كلها مطلوب الوفاء بها، فإنّ العهود نفسها درجات ودرجة الوفاء تابعة لدرجة العهد، وأعلاها مكانة، العهد الأعظم الذي بين العبد ورب العالمين.
فالله تعالى خلق الإنسان بقدرته، وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقة وان يعترف بها: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يس/ 60-61).
هذا هو العهد الذي أخذه الله الناس أجمعين، فما مقتضى هذا العهد وهذا الموقف؟
إنّ مقتضى عبادة الإنسان لله وحده أن يخضع أموره كلها لما يحبه تعالى ويرضاه من الاعتقادات والأقوال والأعمال، وأن يكيف حياته وسلوكه وفقاً لهداية الله وشرعه، فإذا أمره الله تعالى أو نهاه، أو أحلّ له أو حرّم عليه كان موقفه فيه ذلك كله: سمعنا واطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.
فالمؤمن خرج من العبودية لنفسه وللمخلوقين إلى العبودية لربه وخرج من طاعة هواه إلى طاعة الله، فهو ملتزم بعهد يجب أن يفي به، وميثاق يجب أن يحترمه، ومنهج يجب ان يتبعه، وهذا التزام منطقي ناشئ من طبيعة عقد الإيمان ومقتضاه.
وفي هذا يقول القرآن الكريم: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا) (الأحزاب/ 36). ويقول عزّ وجلّ: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور/ 51).
- الظلم.. أبشع الصفات الممقوتة:
يعرّف اللغويون الظلم بأنّه وضع الشيء في غير موضعه.
وجاء في أمثال العرب قولهم: (ومن استرعى الذئب فقد ظلم). وهذا ظاهر في وضع الشيء في غير موضعه، إذ ينبغي ابعاد الذنب عن قطعات الغنم، لا جعله راعياً عليها حتى يفتك بها كما تهوى غريزته. والظلم بمعناه العام قد يكون من ظواهر قسوة القلب بفقدان الرحمة، وقد يكون من ظواهر الانحراف عن الحق.
لقد تحدّث القرآن الكريم عن الظلم والظالمين والعقوبات التي اعدّها الله في آيات كثيرة جدّاً، فيما يلي نستعرض طائفة من النصوص القرآنية لبيان صور الظلم وما اشتملت عليه:
1- انّ الشرك بالله لظلم عظيم، وقال تعالى: (إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/ 13).
حقا انّ الشرك بالله لظلز عظيم، وذلك لان حق الله على عباده أن يؤمنوا به، ويقول الله عزّ وجلّ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام/ 82).قد ورد تفسير الظلم من هذه الآية بالشرك.
2- ومن أفدح الظلم، الاعراض عن آيات الله بعد التذكير بها، وعدم الاستجابة لله فيما يدعو الله من الإيمان بالواجبات والأعمال الصالحة قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) (الكهف/ 57).
3- ومن الظلم تعدّي حدود الله، أي شرائعه التي حدد فيها لعباده أبعاد الحلال والحرام والواجبات، قال الله سبحانه وتعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة/ 229).
وتجاوز حدود الله التي حدّها لعباده معصية له، ومعصية الله ظلم لحقّه على عباده.
4- ومن الظلم منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه والسعي في خرابها، بل هذا من أفضع الظلم لأنّه صد عن سبيل الله ومنع للعباد من عبادة البارىء عزّ وجلّ، وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) (البقرة/ 114).
5- ومن الظلم كتم شهادة الحق، فقال الله جلّ شأنه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة/ 140).
6- ومن الظلم الكذب على الله تعالى لإضلال الناس بغير علم، كما هو مشاهد اليوم من الفتاوي المنتشرة في الساحة مثل التي تبيح الاختلاط والسفور والتبرّج وغيرها مما عظم أمره، قال سبحانه وتعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام/ 144).
7- ومن الظلم ظلم الناس في أنفسهم وأموالهم، قال جلَّت قدرته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(النساء/ 29-30).
فأكل أموال الناس بغير حق، وقتل النفس بغير حق، عدوان وظلم، وظلم الناس في أنفسهم وأموالهم أمره شديد عنه الله وعقابه مخيف. وعد الله لابدّ أن يلاحق الظالمين بالعقوبة على ظلمهم حتى تؤدى الحقوق إلى أهلها يوم القيامة.
- مواصفات النفس الظالمة:
وأرشد الرسول (ص) إلى محاسبة المسلم نفسه على الظلم ولو قضي له القاضي بما ليس فيه حق، فيوجد فريق من الناس، يستغل بخلقه المنحرف ونفسه الظالمة الآثمة، وما وهبه الله من قدرة التصرف بوجوده الكلام واقامة الأدلة والحجج، ليزين باطله فيجعله حقا، وتشويه حق غيره فيجعله باطلاً، انّه لا فرق بين هذا وبين من يستغل قوته الجسدية، أو حيلته الحركية، أو سلطته الاجتماعية في العدوان على حقوق الناس – كما هو حاصل اليوم – الا ان كل منهما وسيلة يتخذها للوصول إلى الظلم.
فالظلم ظلمات يوم القيامة، ودعوة المظلوم مستجابة لأن ليس بينها وبين الله حُجاب كما جاء في الحديث الشريف: وعلى الذين تحدّثهم أنفسهم بظلم الناس أن يضعوا في حسابهم انّ الله لهم بالمرصاد.
ان حال المجتمعات الإسلامية لا يحتاج إلى بيان، وانّ المأساة كبيرة والمؤامرة عظيمة، وهنا نعلم انّ المشكلة لا تحل الّا بتماسك المسلمين وعودتهم إلى إصالتهم في وحدتهم الشعورية ليرفعوا الظلم عن أنفسهم.
فأين نحن من المظالم التي تقع على عاتق أخوان وأخوات لنا في الله في بلاد شتى من بقاع الأرض، أولئك الذين تحمّل كل واحد منهم، جبهة يتصدى بها لأعداء الله، مدافعاً عن شرف الأُمّة وكرامتها في كل ناحية من الأ،حاء. انّ الله ينتقم من الظالم في عاجله وآجله.
والظلم قد حرّمه الله سبحانه في كل ملة، وقد جاء في كتاب الله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس/ 44). وغير ذلك من النصوص التي نهت أعظم النهي عن الظلم وجعلته مهدِّم للأُمم وللأفراد على السواء، والظلم محرّم بجميع صوره، فظلم الفرد نفسه، وظلم الفرد غيره. وظلم الفرد للجماعة، وظلم جماعة لأخرى، وظلم جماعة لفرد، كل هذه صور من الظلم حرّمها الإسلام وأباها، ودعا إلى ردّها ليتحقق العدل حسب منهج الله، فيسعد الناس ويأمنوا.
- الاختبارات وصقل الذات المؤمنة:
الابتلاءات والمحن والفتن، هي من سنن الله تعالى لاختبار عبيده والتمييز بين المخلصين والنعفيين، فيقول عزّ وجلّ: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت/ 1-3).
ووظيفة الابتلاءات واضحة في الآية السابقة وهي التمييز بين أهل الصدق والاخلاص، وبين أهل الكذب والنفاق، وهذا التمييز ضروري للعملية التبليغية والدعوية واستمرار عطاءها وبذلها الذي يقوم به الصادقون المخلصون الناشطون في سبيل المبدأ أو الغاية.
وقد تعرض الأنبياء (ع)، وهم قدوتنا وأسوتنا، للعديد من صور الابتلاءات والمحن، فابراهيم (ع) القي في النار واسماعيل (ع) تعرض للذبح، ويونس (ع) التقمه الحوت ويوسف (ع) القي في البئر، وعيسى (ع) تآمر عليه قومه ليصلبوه، ومحمد (ص) خير خلق الله عاش ألواناً عديدة من الابتلاءات والمحن، مما أفاضت في شرحها كتب السيرة العطرة.►
ارسال التعليق