• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإنسان في القرآن الكريم

الإنسان في القرآن الكريم
لعل الإنسان بدأ بالتساؤل عن نفسه منذ أن أخذ يشق طريقه للسيطرة على الأرض. وقصة الإنسان الذي تتبع آثار أقدام، لمعرفة صاحبها وانتهى به الأمر إلى أن يدرك أنها اقدامه هو، ما هي إلا رمزٌ لمدى ما يجهله الإنسان عن نفسه، وسعيه إلى اكتشاف المجهول بالبحث والدراسة. ويتعجب الإنسان من الكون وما فيه من ظواهر وأشياء؛ وينسى انّ الإنسان ذاته هو أكثر الموجودات دعوة للتعجب. فالإنسان أعظم عجائب العالم. ولذا فهو يستحق دراسة خاصة به، حتى ولو لم تكن نتائج هذه الدراسة سوى مجرد اشباع الرغبة في دراسة أبعاد العقل الإنساني والتفكير البشري. الإنسان لغز كبيرٌ قائم نصب أعيننا. ورغم تقدُّم البشرية في شتَّى الميادين الحياتيّة، ورغم تسخيرها لمعظم العناصر الطبيعية واستيلائها على العالم المادي؛ فإنّ الإنسان لا يعرف إلا القليل جدّاً عن نفسه. ولا شك في أن نجاح الإنسان العلمي والفني يدعو إلى الاعجاب. لقد اخترع الإنسان الطائرة والسفينة وغزا الفضاء وسخَّر كل ما في الكون لخدمته حتى أصبح سيد العالم المادي بلا منازع. ولكنّنا حين نسأله، عن عواطفه وانفعالاته وأفكاره، عن الأمور التي تفرحه أو تحزنه، نراه عاجزاً عن الجواب. نحن نرى انّ الإنسان يعرف عن العالم المحيط به، بتفاصيله ودقائقه التافهة، أكثر ممّا يعرفه عن نفسه بالذات. وبدلاً من ان يشْرَع، كل إنسان، في أيّة دراسة من دراساته، من علم الإنسان بالتحديد، نراه يتعلق بالعالم المادي ظنّاً منه أنّ التطور المادي كفيل بتخليصه مما هو فيه من آلام وأحزان، غير متنبِّه إلى انّ التطور المادي لا يحدُّنا بالتسامي النفسي ولا بالامتياز الفكري، ولا يمنحنا من السعادة إلا القليل، واننا لن نصل إلى التسامي والسعادة إلا بدراسة أنفسنا وفهم ذواتنا. والإنسان عندما يفهم نفسه ويعرف عالمه الداخلي يعرف السبب والغاية لكل شيء غامض، فيطّلع بذلك على سرِّ الكون؛ في حين انّ الجهل بالنفس علّة أولى لذنوب الإنسان من آلامه واحزانه. فالجهل يؤدي بالإنسان إلى الانزلاق والوقوع في الخطيئة. إذاً يحتاج الإنسان إلى معرفة صحيحة بحقيقة وجوده ونشأته ومصيره. وإلا ضلّ عقله وشقيت نفسه؛ لأنّه لم يفهم الحكمة من وجوده، ولم يجد تفسيراً لما حوله، فيعيش شاكاً متشائماً شقياً لا يعرف من أين جاء، وإلى أين يذهب، وما هو دوره. إنها أسئلة كل إنسان وموضوعات كل تفكير، ولابدّ لها من تفسير ومعرفة. غريبٌ أمر الإنسان... إنّ تجاوز القمر بعلمه، وما زال جاهلاً لا يقوى على معرفة نفسه، قاصراً عن فهم حقيقة عقله وتفكيره، عاجزاً عن التوصل إلى وضع تعريف لنفسه، واضح ومحدّد. إنّ تعريفات الإنسان قد كثرت وتنوعت. ومنها ما ورد إلى لسان الإنسان ذاته، وهي كثيرة وشائعة، ومن أمثلتها: الإنسان حيوان ناطق، مدني بالطبع، أفضل من الملائكة، أخبث من الشياطين، ومنها ما ورد في القرآن كما تدلُّ الآية (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30). ومنها ما ورد في الأحاديث القدسيّة، كما في الحديث الشائع "عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون". وعموماً، فإنّ معظم تعريفات الفلاسفة أو المتكلِّمين أو الصوفِّيين للإنسان، وإن اختلفت وتضاربت، فهناك حقيقة ثابتة هي أن في الإنسان طبيعتين متناقضتين هما الروح والجسد، فالإنسان من المخلوقات التي تتمتع بالقوتين العقلية والشهوانية معاً. أما الأقوال المتضاربة في تعريف الإنسان، فان هي دلت على شيء، فانما تدل على أنّه معرفة أسرار الإنسان والاحاطة بها هي من المسائل المستحيلة، لأنّها فوق قدرة البشر. والله تعالى يشير في كتابه الكريم إلى ذلك فيقول: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85). إذاً، الوقوف عند حقيقة الإنسان لا تتم بالمعرفة التجريبية أو العقلية أو الحدسية، إن ما نعرفه، عن طريق تلك الوسائل، لا يعدو بعض خصائص الإنسان بالقياس إلى أفعاله وآثاره، فالإنسان، باختصار، هو الذي يحاول أن يعرف نفسه على حقيقتها، ولكن دون جدوى. ما دمنا لا نستطيع معرفة الإنسان، أكثر المخلوقات أهمية، معرفة يقنيّة، أفليس من الأفضل، ألا نتطرّق إلى البحث في هذا الموضوع، كي لا نتوه في غياهب الظلمة والجهل. إنّ معرفة الإنسان لذاته، لنفسه، على حقيقتها، أمر ضروريٌ للغاية: هدفه ورؤية مستقبله. وفي غير ذلك، يجهل الإنسان طاقته وأهدافه فيعيش في ضياع وينتهي إلى جحيم. من هنا كان على الإنسان ألا يعدم وسيلة لمعرفة نفسه معرفة حقيقية؛ فهو وإن لم يتمكن من ذلك، بالوسائل المعرفية الآنفة الذكر، فبمقدوره أن يحصِّل معرفة ذاته بوسيلة أخرى عنيت بها وسيلة الدين والوحي. وإذا حاولنا ان نعرف الإنسان على حقيقته، فلابدّ من ابراز الجانب المادي والجانب الروحي فيه، مركِّزين على وجوب الموازاة بينهما. من هنا عمدنا إلى الكلام على طبيعة الإنسان خصائصه من جهة، وقيمته من جهة ثانية.   - طبيعة الإنسان وخصائصه: ما يهمُّنا أن نقف عنده الآن، هو الصفات الطبيعية للإنسان، والتي سنشرع بدراستها انطلاقاً من مفهومنا لأصل الإنسان وتطوره. إنّ التطور ممكن، في مجالات العلم والفلسفة والمجتمع والفن والدين، وذلك بتغيير الآراء والمعتقدات نحو الأفضل والأكمل. كذلك فإنّ تحوُّل الشيء من حال إلى حال جائز ضمن إطار حقيقته الجوهرية الثابتة. فالنّواة، مثلاً، قد تتحوّل إلى شجرة، والنطفة قد تتحوَّل إلى حيوان. لكن، ماذا عن تطور الكائنات الحيَّية؟ في الواقع وانطلاقاً من المبادئ والتعاليم الإسلامية، قد نوافق القائلين بتطور كل الكائنات الحية من نوع إلى نوع باستثناء الإنسان؛ لأنّ النصوص القرآنية تؤكد بأن خلق الإنسان كان مستقلاً من قبل الله، ولم يكن خلقاً تطورياً، كما في الآية: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة/ 31)، والآية: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ) (آل عمران/ 33)، والآية: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (الأعراف/ 19)، التي نستدلُّ منها على منزلة الإنسان عند الله، الذي لا يمكن ان يصطفي القردة والحيوانات البكماء، ولا يعهد إليها بدينه وأمانته ويسكنها فسيح جنانه. ونذكر من الآيات التي تدلُّ على خلق الله للإنسان: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر/ 28-29). (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ) (ص/ 71). (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) (الحج/ 5). (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (لقمان/ 11). (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ) (السجدة/ 7). (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) (الروم/ 22). (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء/ 104). (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (يونس/ 34). (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) (الزمر/ 6). (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (النحل/ 20). (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء/ 28). (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (الأنبياء/ 37). (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) (العارج/ 19). (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ) (الطارق/ 5). (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (ق/ 16). (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد/ 4). (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4). هذا، وآيات القرآن الدالة على خلق الله للإنسان كثيرة جدّاً، لا مجال لذكرها، في بحثنا المختصر هذا؛ ويمكننا، من الآيات السابقة، أن نستدلَّ على أنّ الإنسان وجد منذ اللحظة الأولى، بصورته وعقله، مسؤولاً عن أقواله وأفعاله. فعلى صعيد النظرية الداروينية، يمكن القول: إنّها لو تحرَّرت من فكرة الصدفة والتوالد الذاتي، لما وقف الإسلام منها موقف المتحفِّظ أو الرافض؛ لأنّ الإسلام لا يرفض التطوُّر. فالتطوُّر لا يناقض تعاليم الله ومعتقدات الإسلام. إنَ ما يرفضه الإسلام هو نسبة التطوُّر لى غير إرادة الله. إذاً، فالتطور والارتقاء لا يمكن أن يحدثنا من دون قوّة هادية إلى ذلك. حتى، ولو افترضنا حصول تطوُّر الإنسان بالشكل والهيئة لواجهتنا التساؤلات التالية: - كيف أخذ كلُّ عضو من أعضاء الإنسان مكانه المناسب به والمتناسق مع غيره من الأعضاء حتى جاء الإنسان بصورة جميلة وتقويم حسن؟ - كيف تطوَّر رأس الإنسان إلى أضعاف رأس القرد، ومن أين أتى عقل الإنسان بعد أن تحوَّل من أصله؟ - وإذا كان العقل الإنساني غريزة نبعث من المجتمع وتطوَّرت بحسبه، فهل نبع مخُّ الإنسان بما فيه من خلايا وأعصاب، تفوق مخّ القرد بمليارات، من المجتمع أيضاً؟ لو حاولنا الإجابة على تلك التساؤلات، لقطعنا بأنّ قوّة عليا خلقت الإنسان ووهبته قدرات ميَّزته عن سائر المخلوقات. من هنا، فإن امتياز الإنسان عن المخلوقات لا يكمن في شكله وصورته فحسب، ولا في قوّته ومنعته فقط، وإنّما في كبريائه وتفكيره وحضارته واختراعاته. لكن، إذا كان الله هو الذي خلق الإنسان، فهل للإنسان دور في عملية التكاثر البشري؟ لا شكّ في ذلك، فالله خلق في البداية نفساً واحدة، وخلق منها زوجها، ومنهما تكاثرت البشرية. وهذا ما يشير إليه القرآن صراحة في الآية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء/ 1). وهيَّأ الله الأرض للحياة وجعلها طيِّعة، وأمدَّها بما يحتاجه الناس منها، وسخَّر للإنسان كلّ ما في الطبيعة من مظاهر وكائنات، وأنعم عليه من النعم ما لا يعدّ ولا يحصى. وحدّد الله للإنسان غاية حياته ووجوده، تلك الغاية، التي تربطه بقانون الوجود وتجعل حياته عبادة في عبادة. وعندما يتسامى الإنسان بهذا التصوُّر ويعيش حياته خالصة لله، تصبح أقواله وأفعاله ضرباً من الاتِّصال بالقدرة الإلهية. بذلك يتَّسع تفكير الإنسان ويفهم ذاته على حقيقتها ويتحقق استخلافه في الأرض.   - قيمة الإنسان: يشكِّل الإنسان موضوعاً هاماً للدِّين والعلم والتشريع والطب والأدب والفن... من هنا كان موضوع الإنسان، من حيث قيمته ومنزلته محوراً هامّاً للدرس والبحث، في كلِّ زمان ومكان. وعندما نقوم بتقييم الإنسان، فلابدّ من أن نركِّز على المادّة والروح. إذ بالاعتماد على هذين الأساسين يتحوّل الإنسان من مجرّد آلة صمّاء إلى كائن خلق الكون لأجله. الإنسان كائن مستقلٌّ، يختلف في مشاعر عن سائر الكائنات. خلقه الله من الأصل نفسه، الذي خلق منه النبات والحيوان؛ لكنّه زوَّده بالعقل، وأعطاه الحرِّية، وحقَّق له السلطة على كلِّ الأشياء، حتى تفرّد الإنسان بصفاته عن الكائنات الأخرى. خلق الله البشر من مادة وروح. وتجسَّدت في الأولى رغبات المادة وشهواتها، وتمثّلت في الثانية رؤى العقل وأبعاد الفضيلة. وبسبب تلك الازدواجية في الإنسان؛ فإنّه لا يسمح له أن يهمل جانباً على حساب الجانب الآخر. فلا يجوز له أن ينغمس في عالم المادة ويتحرّر من قيم الحقِّ والخير. كما لا يجوز له أن يهمل في ذاته الجانب المادي؛ وإنّما عليه أن يوازي بين المثل العليا من جهة، والاستجابة لرغبات الجسد ومتطلباته من جهة ثانية. إنّ يمتلك قوّة جسديّة ينطلق بواسطتها، كما يمتلك قيماً إنسانية يضبط بواسطتها نفسه ويوجِّه سلوكه. إنّ في الإنسان مؤهِّلات كافية لأن تجعله مجرماً أو ملاكاً. نعم، إنّ تكامل الإنسان لا يقتصر على الجانب المادي فحسب؛ وإنما يشمل الجانب المعنوي أيضاً. نعم، إنّ تكامل الإنسان لا يقتصر على الجانب المادي فحسب؛ وإنما يشمل الجانب المعنوي أيضاً. إذاً، على الإنسان أن يتكامل روحيّاً وعقليّاً، إلى جانب تكامله جسديّاً. وهذا ما نذهب إليه الآية 67، من سورة المؤمن: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر/ 67). لقد كشفت هذه الآية عن مسيرة حتميّة للإنسان تنتهي به إلى أجل مسمى، ويدرك الإنسان في خلال تلك المسيرة انّ للكون هدفاً محدّداً وواضحاً. وكأنّ التكامل الإنسان إذاً، لا يقتصر على حياة الإنسان في الدنيا، ولا ينتهي بموته ورحيله من الدنيا؛ وإنما يستمر حتى بعد الموت إلى مرحلة نهائية من مراحل التطوُّر، مرحلة الكمال الكلِّي والمطلق... إلى الخالق عزّ وجلّ، كما في بعض الآيات: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 156). (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الإنشقاق/ 6). (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) (النجم/ 42). ولو نحن تساءلنا عن معنى رجوع الإنسان إلى الكمال اللامتناهي، أو لقائه ربّه بعد موته؛ لقلنا: إنّ الله خلق الأشياء كلّها لأجل الإنسان، وخلق الإنسان ذاته لأجله. فالله لا يعرف حق معرفته إلا من قبل الإنسان، ويخاصة الإنسان العاقل المتدبِّر العامل بالمنهج الإلهي. أوليس الإنسان العاقل العالم هو أشرف الموجودات والمعقولات؟ وكذلك، فإنّ قيمة الإنسان، تبدو، من خلال دراستنا للمجتمع الإنساني، فالمجتمع البشري لا يوجد بالفعل إلا بوجود الأفراد؛ لأنّ معنى الإنسانية والروحية هي تلاشي الأناني والإحساس بآلام الآخرين. فالمثل العليا هي إيثار المصلحة الجماعية على مصلحة الفرد. فالجماعة تضعف إذا وجد فيها ضعيف واحد. إنّها كالجسم إذا تألّم عضو منه تألَّمت سائر أعضائه. فمصلحة الفرد هي من مصلحة الجماعة، وحياته بحياتها. ومصلة الجماعة هي مصلحة جميع أفرادها؛ لأنّ الجماعة هي مجموعة الأفراد المكوِّنة لها. وخلاصة القول، فإنّ الإنسان غاية بنفسه، وأيُّ اعتداء عليه هو اعتداء على الإنسانيّة بأسرها؛ كما انّ الإحسان إليه هو إحسان للإنسانية. من هنا فإنّ الناس جميعاً مدعوون للتعاون فيما بينهم، ولو كانوا مختلفي الأديان والمذاهب، وموزعين في أطراف الدنيا، إنّهم مدعوون إلى تأمين حياة كريمة آمنة هادئة، لا اعتداء فيها ولا استغلال، ولا قهر ولا تسلُّط، ول حرمان ولا جوع. كما انّ الأديان يجب أن تهدف كلّها إلى اشباع حاجات الإنسان، لأنّه الغاية العظمى، ولذا، فإنّ الإسلام يهدف إلى اسعاد الإنسان وتحقيق الحرية له، ونشر المساواة بين أفراد المجتمع الإنساني. واختصار القول، فإنّ الإنسان يظلُّ غاية في نفسه، مستقلاً، مختلفاً في قيمه ومشاعره عن سائر الكائنات، متفرِّداً بعقله، الذي حقَّق بواسطته السيادة المطلقة على كل ما دونه من الكائنات. له وجوده المستقبل في جماعته، كماله حرِّية التي يعمل ويتحرك في إطارها، لا يفرض عليه عمل معيَّن. لقد نظر الإسلام إلى الإنسان على أنّه كائن اجتماعي بطبيعته، مشحون بالقيم الروحية والإنسانية، فضلاً عن الغرائز التي يمكن ان يوجِّهها توجيهاً صحيحاً. من هنا فإن مسؤوليات الإنسان لا تقتصر، في نظر الإسلام، على اشباع غرائزه وميوله فحسب؛ وإنما عليه، فضلاً عن ذلك، أن يمتثل لرسالة السماء فيحقِّق إنسانيَّته ويتسامى فوق سائر الكائنات. وأخيراً، يبقى عمل الإنسان انبعاثاً لكيانيه الجسمي والروحي، كما تظل قدرته فائقة وطاقاته كبيرة، يستطيع بواسطتها ان يسيطر على كثير من الأنواع والأشياء؛ ولذا فهو يحتاج إلى رقيب عادل بحدِّ سلوكه ويحدُّ من طموحاته ونزواته ويسمو به عن الظلم والقهر والتسلط والعدوان. ذلك هو الإنسان الذي يريده القرآن، ذلك هو دوره، وتلك هي قيمته.   * أستاذ في الجامعة اللبنانية – كلية الآداب

ارسال التعليق

Top