يحتاج الطفل إلى بيئة اجتماعية توفّر له الظروف المؤاتية ليصبح راشداً يتمتع بشخصية صحّية ومتوازنة، وليس من الضروري أن يسير كلّ شيء على ما يرام وبشكل مثالي، بل يكفي أن تكون الظروف جيِّدة لينمو الطفل في جو من التوازن العاطفي والفكري، ويتمتّع بثقة بالنفس.
خمسة أُمور رئيسة تساهم في النمو النفسي للطفل:
الإحساس بالأمان
يحتاج الطفل إلى العيش في بيئة عائلية مريحة تشعره بالأمان. فمن الضروري أن ينمو في بيئة مستقرة ومطمئنة حيث يكون والداه موجودين جسدياً ونفسياً. فالبيئة العائلية المتوترة، وغياب الوالدين في معظم الأحيان بسبب ظروف العمل أو الطلاق أو غير ذلك، تشعر الطفل بالقلق فيبحث عن طُرُق لحماية نفسه، وبالتالي يفقد طاقته وحماسته للتعلُّم والانفتاح على الآخرين. إضافة إلى ذلك، يتعلَّم الطفل في البيئة التي يسودها العنف أو الإهمال، أنّ الحياة غير مستقرة، وأنّه لا يمكنه الاعتماد على الآخرين، فيجد وفقاً لمزاجه وظروف حياته، إستراتيجيات مختلفة للتعامل مع هذا الشعور بانعدام الأمان.
ماذا ينجم عن الشعور بعدم الأمان.. سوف يصبح راشداً يميل إلى:
* أن يكون حسّاساً جدّاً اتجاه التخلّي عنه، أو عدم اكتراث المحيطين به.
* الشكّ بالآخرين ويتجنّب بناء علاقات شخصية معهم.
* الخوف من حدوث كارثة، وأنّه قد يفقد أحبّاءه في أي لحظة، أو قد يتم التخلّي عنه في أي وقت.
* الخوف من الشعور بالوحدة، والشعور بالعجز وبأنّه الضحية، والشعور بالقلق الدائم.
* الاعتياد على عدم الاستقرار والعنف والانجذاب، من دون أن يدرك ذلك، إلى الناس والبيئات المضطربة والعنيفة.
الشعور بالحبّ والاحترام والفهم
يحتاج الطفل إلى الشعور بالحبّ والاحترام والفهم. فعندما يمنح الوالدان العاطفة والحنان ويقولان لطفلهما دائماً إنّهما يحبّانه ويلبيان احتياجاته ويشعرانه بقيمته لديهما وأنّهما يتفهمان عواطفه ويساعدانه على التعبير عنها بشكل صحيح، فإنّ هذا كفيل بأن ينشئ شاباً متوازن الشخصية.
أمّا إذا فشلت البيئة الأبوية في منح الطفل القليل من الاهتمام، أو لم تهتم به مطلقاً، أو ببساطة لا يبالي الوالدان بمشاعره، ولا يعطيانه الحقّ في الشعور بالحزن أو الخوف، فقد يشعر الطفل أيضاً أنّ والديه لا يحبّانه، أو أنّه غير مرغوب فيه، أو يظنّ أنّه قد خيّب آمالهما وتوقعاتهما.
وقد ينتج من ذلك تطوّر شعور الطفل بالنقص العاطفي فيقول: «لا يحبّاني، لم يهتمَّا بي لأنّني لست جيِّداً بما فيه الكفاية». ويمكن أن يترسّخ لديه الاعتقاد بأنّ لا أحد يحبّه حقّاً. وبالتالي فإنّه
حين يصبح راشداً سوف يميل إلى أن:
* يشعر بالفراغ الداخلي، والنقص العاطفي.
* يحتاج دائماً إلى الآخر مثل الأوكسجين وإلّا فإنّه يشعر بالعجز، أو أن لا معنى لحياته.
* التضحية باحتياجاته ليكون محبوباً، ويقدّم للآخرين بلا حساب، لجذبهم والاستحواذ على محبّتهم وهم سيستفيدون من كرمه. وعلى المدى الطويل، يشعر بالمرارة تجاه الآخرين لأنّ علاقته بهم ليست عادلة، وبالتالي يميل إلى القلق والاكتئاب.
* أو بالعكس يبتعد عن الآخرين، ويفضّل الوحدة أو يحافظ على علاقات سطحية حيث لا يسمح للآخرين حقّاً بمعرفته عن كثب.
تلقّي الدعم والتشجيع لتطوير استقلاليته
يحتاج الطفل إلى مساعدة البالغين من حوله لدعمه نفسياً، فكلّما كَبُرَ، طوّر قدراته على الاعتناء بنفسه. لهذا، يحتاج الطفل إلى المساحة والوقت لتعلُّم كيفية القيام بالأشياء، واكتساب مهارات جديدة. هذا يعني أنّ على البالغين أن يكونوا صبورين. على سبيل المثال، الانتظار حتى يرتدي الطفل ثيابه وإن استغرق الأمر وقتاً، وأن يتقبّلوا فكرة أنّه لم ينجز عمله بشكل جيِّد، وأنّه سيرتكب أخطاء. لذا، من الضروري معرفة متى يجب مساعدة الطفل، ومتى تُترك له حرّية تدبّر أمره. والمهم هو التحلّي بالصبر وتعزيز جهوده، وتشجيعه على تكرار المحاولة لاكتساب مهارات جديدة حتى يصبح جيِّداً. فهذا يساعد الطفل على تطوير استقلاليته وثقته بنفسه، فيصبح راشداً يمنح نفسه وقتاً للتعلُّم، ويشعر بأنّه قادر على الدفاع عن نفسه، ولديه أهداف وهويّة خاصّة به.
أمّا الطفل الذي يبالغ والداه في حمايته، فيتلقّى رسالة صامتة مفادها أنّ العالم الخارجي مليء بالتهديدات والمخاطر، وبالتالي لا يستطيع إنجاز أي عمل بشكل كامل. فبعض الآباء ينجزون الأعمال بدلاً من طفلهم إمّا للمساعدة، أو لتسريع وتيرة العمل. في هذه الحالة، لا تُتاح للطفل فرصة تطوير مهاراته وينتهي به الأمر بأن يصبح اتكالياً، أو غير واثق بنفسه ولا يعرف تدبّر أُموره. وحين يصبح راشداً يميل إلى:
* أن يكون خائفاً وقلقاً من العالم الخارجي.
* قد يعاني من الرُّهاب بأشكال مختلفة مثل الخوف من المرض والقيادة والسفر، وما إلى ذلك.
* عدم الثقة بقدراته.
* صعوبة في التكيّف مع الأوضاع الجديدة.
* صعوبات في المثابرة في إنجاز مشاريعه، بسبب الخوف من ارتكاب خطأ.
التشجيع على التعبير عن احتياجاته ومشاعره
الطفل، مثل جميع الكائنات، لديه حاجات فيزيائية، مثل الأكل والنوم، وعاطفية كالعناق على سبيل المثال. ومساعدته على التعرُّف إلى ما يحتاج إليه، واتّخاذ موقف استباقي للحصول على ما يريده، تعلّمه شيئين: أنّ احتياجاته مهمّة، وأنّ لديه المفتاح لضمان تلبيتها قدر الإمكان. فيدرك مشاعره المختلفة وكيفية التعبير عنها، ويعرف كيف يُسمّيها مثل: الحزن، الغضب، والخوف. فمن خلال إدراك ما يجعله سعيداً أو حزيناً، يمكنه تحديد خيارات في حياته تسير جنباً إلى جنب مع احتياجاته وشخصيته وما إلى ذلك. كما يتعلَّم أن يهدأ عندما يشعر بالقلق أو الغضب، وأن يعزّي نفسه عندما يكون حزيناً.
الطفل الذي لم يتعلَّم كيفية التعرُّف على مشاعره واحتياجاته، لن يكون على دراية بأسباب إحباطاته وأحزانه، ولن يكون مستعداً بشكل جيِّد للتخلّص من شعوره بالانزعاج. وعندما يصبح راشداً سوف يميل إلى :
* إنكار مشاعره واحتياجاته، فيكبتها ويختار ما يمليه عليه عقله فقط، أي ما يفترض أن يفعله وليس ما قد يقوم به فعلاً. وهكذا، عندما لا يكون سعيداً، لن يفهم السبب، لأنّه في اعتقاده يملك كلّ شيء ليكون سعيداً.
* ردود فعل قوية من دون فهم الأسباب، أو ربّما تبدو ردود أفعاله غير منطقية.
* مراكمة الإحباطات أو الحزن ثمّ ينفجر الصمّام في ما بعد، ممّا يزيد صعوبة قدرته على الربط بين الأحداث التي لا تناسبه وردود أفعاله.
وعند استهزاء الأهل بمشاعر الطفل، كأن يقول الوالد: «من السُّخف أن تبكي من أجل ذلك» فهو يستخف بآلامه وإحباطاته، فيشكّ الطفل بحدسه ولا يعود يعرف كيف يتفاعل أو ما يفترض أن يشعر به، فيتعلَّم كبت عواطفه. وهكذا، سوف يميل كشخص بالغ إلى:
* عدم الثقة في حدسه، لأنّه فقدَ التواصل مع جزء من ذاته، أي حدسه الذي يلهمه ما إذا كان الوضع خطيراً مثلاً، أو أنّ هذا الشخص غير مريح.
* يشعر بالذنب لمجرّد الشعور بالعاطفة، وهذا يمكن أن يؤدِّي إلى القلق، ونوبات الهلع، لأنّ هناك صراعاً بين ما يشعر به الشخص في أعماقه، وما إذا كان يملك الحقّ في هذا الشعور.
وفي المقابل، يحتاج الطفل أيضاً إلى تعلُّم احتواء مشاعره وإدارتها جيِّداً والتعبير عنها في المكان والزمان المناسبين. فالتعبير عن المشاعر لا يعني إطلاق العنان لها أينما كان وكيفما اتُّفق كأن يكسر كلّ شيء لأنّه غاضب.
إشراف جيِّد
يحتاج الطفل إلى تعليمات واضحة ومستقرة حول ما يمكنه فعله، أي ما هو ممنوع وما هو مرغوب. ومن المهمّ أيضاً أن تكون الإجراءات التي يتّخذها الأهل منطقية، وأن يعرف الطفل ما له وما عليه، وأن يكون على بيّنة من عواقب أفعاله قبل التصرُّف. كما من المهمّ بالنسبة إلى الطفل أن يكون لديه أيضاً روتين ونقاط مرجع تعلُّمه الانتظام. يؤسّس الوالدان روتيناً يناسب العائلة: على سبيل المثال، يبدأ اليوم بالتسلسل نفسه (تنظيف الأسنان، الغداء، والملابس)، وبالتالي فإنّ الطفل يتوقع الآتي.
وفي المقابل، عدم وضع قوانين وطقوس تُلزم الطفل، ومنحه مطلق الحرّية وغياب الرادع سوف تجعله يعيش حالة مستمرة من انعدام الأمن، لأنّ كلّ شيء مسموح به، ولا عواقب لما يفعله. لا يعرف ما هو الصواب وما هو الخطأ. قد يشعر أيضاً بالإهمال، لأنّ لا أحد يعتني به لأنّه غير مهم أو غير محبوب. إضافة إلى ذلك، لا يتعلَّم الطفل احترام السلطة. أمّا الآباء السلطويون بشكل مفرط، بحيث لا يتركون هامشاً صغيراً للحرّية فإنّهم يقوّضون ثقة الطفل بنفسه بحيث لا يعطونه الفرصة لإظهار قدرته على أن يكون مسؤولاً. وهذا يمكن أن يكون له تأثير سلبي يجعل الطفل قلقاً. أمّا إذا كان الوالدان يضعان القوانين بمزاجية، أي أنّهما يفرضان القوانين في شكل صارم، ويتراجعان عنها في اليوم التالي، فإنّ الطفل لا يعود يأخذ قراراتهما وقوانينهما على محمل الجد، بل سوف يعمد إلى تخطيها ليرى رد فعلهما.
ووفقاً لهذه السياقات الثلاثة... الشدّة والتراخي والإهمال سيكون الطفل راشداً يميل إلى:
* الحاجة إلى السيطرة على كلّ شيء للحدّ من قلقه، لأنّه غير معتاد على الاستثناءات.
* أن يكون صارماً جدّاً في تصوّراته عن العالم والآخرين، على سبيل المثال الخير والشرّ.
* بمجرد الحصول على حرّيته، يبالغ في ارتكاب الأفعال التي تتعارض مع القواعد الاجتماعية أو الأخلاقية، فيفعل كلّ ما كان ممنوعاً عليه.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق