• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التربية السلبية والنقد التربوي

التربية السلبية والنقد التربوي

يعتبر النقد هو الاستراتيجية رقم واحد التي يستخدمها الآباء لتحفيز أبنائهم على الطاعة والتغيير نحو الأفضل، والنقد هو الاستراتيجية رقم واحد التي يستخدمها الناس عموماً لتحفيز الآخرين، فالمدرسون يستخدمونها مع التلاميذ، والأزواج والزوجات يتعاملون بالطريقة نفسها، والأصدقاء يتعاملون بها أيضاً مع بعضهم، وأصحاب العمل يطبقونها مع الموظفين... والنقد الدائم بنية الإصلاح يمكن تسميته "النظرية السلبية في التغيير"، وهذه النظرية تعمل بالطريقة التالية: يقرر أحد الآباء أنّه يريد أن يربي أولاده تربية جيدة ليكونوا صالحين نافعين، ومن أجل تحقيق الهدف، يجد أن أفضل ما يفعله كأب هو أن يرشد أولاده إلى ما بهم من عيوب، وهذا لكي يصلحوا ويكونوا بحال أفضل...

وهناك سبب آخر يجعل الآباء يمارسون سياسة النقد والإدانة والاتهام مع أطفالهم، إنّه الميراث التربوي، فكلّ جيل من الآباء يتعلم هذه الطريقة من الجيل الذي سبقه، والمنطق الذي يحكم هذا الميراث هو: أنّ الأطفال يقعون في الأخطاء وليس لديهم خبرة بالصواب، ولذلك يكون على شخص آخر أن يرشدهم إلى عيوبهم، وعلى اعتبار أنّنا الآباء، فيجب علينا تحمل تلك المسؤولية، وبهذه الطريقة تجد هذا الأب الحاني يركز مع أولاده على كلّ ما هو سلبي وسيئ في سلوكياتهم، وعندما يستمر الأب في إخبار ابنه بأنّه كسول وغير مطيع، فالمرجع أنّ الابن سوف يصدق هذه الحقيقة عن نفسه، ويتصرف طبقاً لهذا التصور...

"عندما يسمع الطفل من والديه أنّه غبي، ويسمع الكلمة نفسها من معلمه ومدربه وأصدقائه، فإنّه سيصدق ما اتفق عليه الجميع، عندما ينظر في المرآة لن يرى إلّا شخصاً غبيّاً..".

أيها المربي الكريم؛ دعنا نقم برحلة قصيرة في الذاكرة، أنت تعلم أنّ المشي والكلام يعتبران أصعب شيء يتعلمه الأطفال في سنواتهم المبكرة، فهل تذكر عندما كنت تعلم أطفالك الكلام والمشي لأوّل مرة؟ يا ترى كيف قمت بتعليمهم تلك المهارات؟ بالطبع لقد استخدمت نفس الطريقة التي يطبقها جميع الآباء؛ لقد استخدمت التشجيع القوي والمديح الشديد والتصفيق الحاد، ومن المؤكد أنّك لم تقل لطفلك وهو يتعلم المشي قولاً ناقداً مثل: هذه هي المرة العاشرة التي تقع فيها اليوم، ربما يجدر بك أن تستسلم، بهذه الطريقة لن تتعلم المشي أبداً، ومن المؤكد أنّك لم تقل لطفلك وهو يتعلم الكلام: النطق الصحيح لكلمة كذا هو كذا، ألا تستطيع أن تنطقها بطريق صحيحة أبداً؟.. من المؤكد أنّك لم تفعل ذلك، ومن المؤكد أيضاً أنّك بدلاً من النقد كنت تبحث عن أي دليل (مهما كان صغيراً) على أنّ طفلك يسير في الاتجاه الصحيح نحو تعلم الكلام والمشي، ثم أخذت تثني على ذلك الدليل وتشجعه كأن تقول مثلاً: ما شاء الله، أحسنت، لقد خطوت أولى خطواتك، فهيا لتخطو خطوة ثانية، أحسنت، نعم أحسنت، ها أنت تمشي بالفعل، هيا تعالى نحوي، ثم أخذت طفلك في حضنك بحب ومرح، ثمّ طلبت من زوجتك في سعادة أن تنادي على الجد والجدة وعلى الجميع ليأتوا ويشاهدوا خطوات طفلك الأولى، ومن المؤكد أنّك عندما وجدت طفلك ينطق أوّل كلمة له – ويخطئ في نطقها بالطبع – هتفت فرحاً وأخذت تصححها له برفق وحب، وربما التقطت له صور الفيديو وهو يقولها، وبتلك الطريقة الحانية والنظرة الإيجابية المشجعة استطاع طفلك أن يمشي ويتكلّم بمهارة عالية، والسؤال: لماذا لا تستخدم تلك الطريقة لتشجع طفلك على طاعتك؟ لماذا تصر على طريقة "النقد الدائم" مع نتائجها السلبية؟

 

ورشة عمل:

يقوم المدرب التربوي بسؤال الآباء السؤال التالي: كيف تكافئ طفلك إن هو أطاعك؟ ويستمع لإجابات الآباء والأُمّهات وسيجد من بينهم مَن يقول: ولم أكافئه؟ فطاعتي واجب عليه، ويكون الرد بمنتهى البساطة: ولم يعطينا الله تعالى المكافآت (الجنة وغيرها) مع أنّ طاعتنا له واجبة علينا؟ ويجب لفت انتباه الآباء والأُمّهات إلى القاعدة التربوية القائلة: إنّ السلوك الذي لا يعزز يخبو ويموت، والطفل المطيع يتمرد ويرفض طلب أُمّه لأنّه لم يذق حلاوة طاعته ولم يجد ثمرتها...

 

كيف تصنع النظرة الإيجابية طفلاً مطيعاً؟

لنفترض أنّ هناك مشكلة بين وبين أحد أولادي لأنّه يعود إلى البيت متأخراً عن موعده باستمرار، فأوّل شيء سوف أفعله لعلاج تلك المشكلة هو أنّني سوف انتظر أحد الأيام التي يعود فيها إلى البيت في الموعد المحدد، ولنفترض أنّ أُمّه قد نبّهت عليه في ذلك اليوم أن يعود في تمام الثالثة ليتناول معنا طعام الغداء، ولنفترض أنّني لاحظت أنّه لم يعد فقط في الموعد المحدد بل عاد مبكراً عنه، كما أنّه ساعد والدته في تجهيز مائدة الطعام، وعندها سانتظر حتى يأتي المساء، وقبل أن يذهب إلى النوم، سوف أقول له: لقد سمعت أنّ والدتك قد نبّهت عليك أن تعود إلى البيت في الساعة الثالثة لتتناول معنا طعام الغذاء، وقد لاحظت أنّك قد عدت في الموعد المحدد، بل إنّك عدت مبكراً وساعدت أُمّك في إعداد مائدة الطعام، وهذا دليل على أنّك شخص دقيق في مواعيدك، وليس هذا فحسب، بل إنّك تساعد الآخرين وتراعي مشاعرهم، وأنا حقّاً أقدر فيك هذه الصفات الطيبة، ثم أقبله وأنصرف... ونتيجة لذلك قد يبذل الابن جهداً خاصاً في اليوم التالي حتى يعود إلى البيت في الموعد المحدد، وربما تشترك معي والدته وتشكره وهو ما سيجعله يشعر بالرضا، ولأنّ احترام المواعيد قد أكسبه هذا الشعور، فربما يكون ذلك حافزاً له على احترام المواعيد في مجالات أخرى من حياته، وعندما يفعل ذلك؛ فإنّ نظرته لذاته سوف تتطور إلى نظرة إيجابية مفادها أنّه شخص دقيق في مواعيده...

أيها المربيم الكريم، الثابت تربوياً هو أنّك إذا ذكرت لطفلك الدليل على أنّه يتحلى بصفة إيجابية، وكررت ذلك ثلاث مرات منفصلة، فهناك شيء واحد فقط سيحدث نتيجة لذلك، وهو أنّ طفلك سينطلق في الحياة لكي يثبت للعالم أنّه يتحلى – حقّاً – بهذه الصفة الطيبة...

معادلة تربوية

ابحث عن السلوك الخاطئ الذي تريد علاجه + انتظر المرة التي يتحسن فيها سلوك طفلك ويصوّب هذا الخطأ + إمدح سلوكه الطيب بصدق واعتدال + إفعل ذلك مرات عديدة = تغير نحو الأفضل بإذن الله تعالى

 

أربع طرق تخرج بها أفضل ما في طفلك:

هناك عدة طرق يمكنك من خلالها أن تركز على جوانب طفلك الإيجابية، وتظهرها وتمدحها حتى يؤمن بها ويزيد من ممارستها لتصبح واقعاً عملياً في حياته وخلقاً يتحلى به طوال عمره، ومن هذه الطرق:

الطريقة الأولى: التي يمكنك من خلالها أن تظهر لطفلك جوانبه الإيجابية هي الحوار المباشر بينك وبينه، ويستحسن أن يتم ذلك قبيل النوم، لأنّ كلماتك ستتردد في ذهنه مرات ومرات قبل أن يستغرق في نومه، وعندما يستيقظ ستظل هذه الكلمات تتردد في ذهنه، مما يجعله يسعى – وبمنتهى الحماس – إلى التصرف طوال هذا اليوم في ظل هذه الصفات الإيجابية التي أخبرته أنّه يتحلى بها...

الطريقة الثانية: التي يمكنك من خلالها تمرير معلومات إيجابية إلى طفلك؛ هي أن تتحدث مع شخص آخر في غير وجوده، مع الحرص أن تصل كلماتك إلى مسامعه، فيمكنك مثلاً أن تجلس مع زوجتك لتتحدثا معاً عن ابنكما خالد، وكيف أنّه قام اليوم بمساعدتها، وكيف أطاعها واشترى لها ما تريد، كلّ هذا وهو في حجرته والصوت يصله وكأن هذا غير مقصود منكما...

الطريقة الثالثة: وتتلخص في أن تنتظر حتى يستغرق أطفالك في النوم، ثم تقوم بكتابة الصفة الإيجابية التي فعلها ابنك وتريد التركيز عليها على ورقة صغيرة، كأن تكتب على سبيل المثال "ولدي العزيز؛ عندما سألتك بالأمس عن تلك المشكلة التي صادفتك في المدرسة، قمت بإخباري بالحقيقة كاملة، وقد تحدثت مع مدرستك اليوم بشأن تلك المشكلة، وأخبرتني بأنّك صادق وبأنّك قد قلت الحقيقة كاملة، رغم علمك أنّ قولك الحقيقة قد يوقعك في المشكلات، وهذا جعلني أعرف أنّك شخص صادق وأمين، ولقد كنت فخوراً بك أمام مدرسيك، شكراً لك يا بني لأنّك رفعت رأسي بينهم، مع حبي، والدك"... وبعد كتابة الرسالة قم بلصقها على مرآة الحمام أو دولاب الطفل دون أن ينتبه طفلك لذلك، الصق تلك الرسالة في أي مكان ظاهر بحيث تكون هي أوّل شيء تقع عليه عيني طفلك في الصباح، وهل تعرف ما الذي سيحدث لهذه الرسالة بعد أن يقرأها؟ ستجد أنّها قد اختفت، والاحتمال الأكبر هو أنّك لن تراها بعد ذلك أبداً، والسبب هو أنّها قد اختفت هناك في قلبه، حيث من المستحيل أن تختفي بعد ذلك...

الطريقة الرابعة: قدم طفلك لأصدقائك وأقاربك بطريقة إيجابية تظهر مواطن الخير التي تريد دعمها، فنحن نقدم للطفل حينها معلومات كثيرة عنه دون أن نشعر، فعندما نكلم صديقنا عن طفلنا فإنّنا حينها نخاطب طرفين دون أن نشعر، نخاطب صديقنا وفي الوقت نفسه تصل الرسالة نفسها إلى طفلنا الحبيب، فمثلاً عندما يذهب الأب إلى محل البقالة ومعه ابنته فيلتقي هناك بأحد معارفه، ومن الطبيعي في مثل هذا الموقف أن يقوم الأب بتقديم ابنته إلى هذا الشخص قائلاً: "أقدم لك ابنتي سارة، إنّها طلفتي الذكية بحقّ، فهي تحصل باستمرار في المدرسة على أعلى الدرجات، وأنا وزوجتي نعتقد أنّها ستكون الأولى في مدرستها إن شاء الله، وهي بمجرد أن تعود من المدرسة تقوم أوّل شيء بعمل واجباتها، إنّني فخور بها بحقّ" انتهى كلام الأب، ويمكنك الآن أن تتخيل "سارة" وهي تتشبع بكلّ هذه المعلومات الإيجابية التي تتلقاها عن نفسها...

وفي الموقف ومع أب آخر قد يأخذ الحوار شكلاً آخر، تخيل الأب يلتقي بأحد معارفه أثناء تواجده في محل البقالة ومعه ابنه "سامر"، فيقدم الأب طفله قائلاً: "هذا ابني سامر، سامر اذهب وأعد هذا الشيء إلى مكانه قبل أن تكسره، هذا الطفل المتعب، إنّني لا استطيع السيطرة عليه، ولا أعرف كيف يستطيع مدرسوه التعامل معه؟ إنّه طفل مثير للمتاعب، والواجب المنزلي كارثة بحقّ، لقد فقدنا الأمل في أن يتحسن أداؤه المدرسي، وهل تدري ما عمره؟ إنّه في السابعة، لكنه يتصرف كطفل في الثانية، ولا يطيع أُمّه أبداً، آه إنّ كلّ الأطفال متعبون"، انتهى كلام الأب، ويمكنك الآن أن تتخيل "سامر" وهو يتشبع بكلّ هذه المعلومات السلبية التي يتلقاها عن نفسه...

أيها المربي الكريم، عندما تمدح طفلك بمثل هذه الطرق الأربع البسيطة؛ فإنّك لا تشجعه على تنمية ما فيه من خير فقط، ولا تحيى فيه معاني الخير والفضيلة فقط، وإنما أيضاً تقوي العلاقة بينكما، وسيأتي اليوم الذي تصبح فيه العلاقة بينكما أكثر صلابة من الفولاذ، قد تستجيب مرة للانثناء لمرونة فيها، ولكنها لن تنكسر بإذن الله أبداً...

 

وصفة سحرية:

1-    كلّم طفلك دوماً عن سلبياته.

2-    اجعله يسمعك وأنت تتحدث مع الآخرين عن مساوئه.

3-    اكتب له رسالة تشرح له فيها ما اكتشفته في شخصيته من عيوب جديدة.

4-    قدم طفلك للآخرين بصورة كريهة ومنفرة.

افعلها كلّها مع طفلك، ونضمن لك النجاح الباهر في قتله!!

 

الخبير التربوي: عبد الله محمد عبد المعطي

المصدر: كتاب أطفالنا كيف يسمعون كلامنا؟

ارسال التعليق

Top