إن اللعب عند الأطفال قد يكون وسيلة لاكتساب المهارات وتجميع الخبرات وتنمية الذكاء، وأفضل وسيلة للتعليم هي اللعب وأنّ اللعب والمرح ليس اختياراً لولي الأمر كما أنّه ليس عيباً في الطفل حتى نقول عنه إنّه (لعبي مستهتر). إنّ ما يفعله هو طبيعة سنه وخاصية من خصائصه التي بدونها يصير غير طبيعي وما علينا إلا أن نرشده ونوجهه إلى اختيار ألعابه وأوقات اللعب، وكيف يستفيد من هذا اللعب واختيار من يلعب معهم.
اللعب وتنمية العلاقات الاجتماعية:
تدل الدراسات التي قام بها بارتن M. B. Barten على أطفال تتراوح أعمارهم فيما بين السنة الثانية والخامسة، على أنّ اللعب يتطور في خطوات متعاقبة ويستطرد في المدارج التالية:
1- مرحلة الملاحظات الشاغرة: ينتقل الطفل سريعاً بملاحظاته وانتباهه من موضوع إلى موضوع. فهو لذلك أخّاذ نبّاذ، يأخذ الشيء عليه نفسه ثمّ سرعان ما ينبذه لينتقل لموضوع آخر، وهو حينما لا يجد ما يشغل به نفسه يتحول بانتباهه إلى جسمه ويمضي يلعب بأعضائه المختلفة.
2- مرحلة الملاحظات المتطفلة: وتبدأ عندما يستمتع الطفل بملاحظة ألعاب الأطفال الآخرين، وهو غالباً ما يشترك بحديثه معهم دون أن يشترك في ألعابهم.
3- مرحلة اللعب الانعزالي المستقل: وتبدأ عندما يلعب الطفل وحده مستقلاً في نشاطه ولعبه عن الآخرين.
4- مرحلة اللعب الانعزالي المتناظر: وتبدأ حينما يقلد الطفل لذاته، وأترابه في ألعابهم وهو منعزل بعيداً عنهم.
5- مرحلة اللعب الانفرادي المتناظر: وتبدأ حينما يلعب الطفل مع الجماعة، مع احتفاظه بفريته وهكذا يجتمع الأطفال في مكان ما ليقوم كل منهم بنشاطه منفرداً عن نشاط الآخرين، ومقلداً لما يقومون به.
6- مرحلة اللعب التعاوني الجماعي: وتبدأ هذه الجماعة قبيل المدرسة وذلك حينما يخضع الطفل في لعبه لروح الفريق ويؤدي عملاً أساسياً معيناً ويخضع لرائد أو زعيم يوجه نشاط الجماعة في ألعابها.
هذا وتدل دراسات ذوبك J. P. Zubek وسولبرج P. A. Solberg (1) وغيرهما من الباحثين: على أنّ الطفل في المدرسة الابتدائية وخاصة في الطفولة المتأخرة يتخفف كثيراً من صلته بالراشدين، وتزداد ألفته مع قرنائه وأترابه من الصغار، وهكذا تبدأ مرحلة العصابات.
7- مرحلة الجماعات، تمتد هذه المرحلة من السنة السادسة إلى قبيل المراهقة ثمّ تتطور لتتخذ لنفسها صوراً أعمق خلال المراهقة، وهي بهذا المعنى تسيطر سيطرة كبيرة على أغلب نشاط الفرد، وتهدف إلى تكوين مجتمع صغير يحقق له رغباته وأحلامه بما يتفق ومراحل نموه، وتبدو هذه الظاهرة بوضوح عند الذكور أكثر مما تبدو عد الإناث، وهي في صورتها السوية تتطور إلى المنظمات التي يرعاها المجتمع كالكشافة والجوالة ومنظمات الشباب، وهي في صورتها الشاذة تبدو في رفقة السوء الذين يجتمعون على قارعة الطريق للسخرية من المارة أو للتدخين في الأماكن المنعزلة البعيدة عن الرقباء، أو للسرقة أحياناً وتقليد المغامرات السينمائية.
وتبدأ الجماعة بصداقة تقوم بين اثنين أو ثلاثة، وتجتذب هذه الجماعة الصغيرة أطفالاً آخرين فيزداد عدد أفراد الجماعة. وقد تجتذب جماعات أخرى صغيرة وهكذا تتكون العصابة ويزداد عددها تبعاً لزيادة أعمال الأطفال حتى تصل إلى أقصى حجم لها في سن التاسعة أو العاشرة، ثمّ يتناقص حجمها بعد ذلك حتى تتلاشى وتذوب في نوع آخر من العصابات هي عصابات المراهقين.
ولكلّ جماعة من هذه الجماعات قوانينها ونظمها، وعلى الطفل الذي ينتمي للجماعة أن يخضع لتلك القوانين، وأن يسير وفق نظامها. وهكذا يصل الأطفال في النهاية إلى إنشاء مجتمع لهم يساير خصائصهم النفسية ويلبي مطالب نموهم وكأنهم بذلك أنشأوا لأنفسهم دولة صغيرة ليحكموا أنفسهم بأنفسهم، بعيداً عن عالم الكبار وأوامره ونواهيه.
والجماعات لها مزايها وعيوبها، فهي إن استقامت في سلوكها أصبحت عاملاً رئيساً من العوامل التي تؤثر في النمو الاجتماعي للطفل، وإن اعوجت أصبحت خطراً يهدد نمو الطفل، بل قد يمتد ضررها إلى الحي الذي يعيش فيه الأطفال والأحياء الأخرى.
وتختلف الجماعات في تكوينها ونشاطها من حي لآخر، ويرجع هذا الاختلاف إلى طبيعة الحي نفسه، ومجالات الجريمة القائمة والقيود المفروضة على أطفاله.
وعندما تلتقي جماعة مع أخرى فإنّها لا تلتقي على خير، إذ سرعان ما يحتدم النزاع بينهما ويشعر أي فرد في الجماعة الأولى بتبعيته لجماعته وضرورة الدفاع عنها وعن أي فرد منها. وقد تتطور المعركة من الشتائم والسب إلى الضرب والتخريب.
وقد ينظر الكبار إلى جماعات الأطفال على أنّها جماعة شاذة غريبة لأنها لا تعبر عن نفسها بالطريقة المألوفة المهذبة التي صقلتها تجارب الكبار، فالأطفال في مثل تلك الجماعات يعبرون عن رغباتهم وحاجاتهم ونزعاتهم بطريقة فجة لا تتناسب وطرق وأساليب الكبار، لذلك ينفر منها هؤلاء الكبار.
لكن سلوك هذه العصابات مظهر من مظاهر حياة الأطفال أنفسهم في مرحلة من مراحل نموهم. لذلك فمن الطبيعي أن يصطبغ سلوكهم الفردي والجماعي بذلك المظهر. ومن الطبيعي أيضاً أن يعلق الطفل أهمية كبيرة على عضويته في تلك العصابات، وأن يتأثر بها، ويؤثر بدوره في تكوينها ونموها ومظاهرها السوية والمنحرفة. وعليه أن يخضع لمعاييرها التي شارك في صنعها وإلا عدته الجماعة خارجاً عليها، ولا يحق له أن ينتمي لها.
وهكذا يصبح سلوكه تعبيراً عملياً صادقاً عن الجماعة التي ينتمي إليها لأنّها هي التي تعلمه كيف يتنافس أو يتعاون مع أقرانه ليؤكد بذلك مكانته الاجتماعية. وليؤدي دوره المحدد لشخصيته في تفاعلها مع الشخصيات الأخرى التي تتكون منها الجماعة.
وهي التي تعلمه كيف يكتسب روح الفريق من العمل الجماعي الذي يؤديه فهو لا يعمل فقط من أجل نفسه بل يعمل من أجل الفريق الذي ينتمي إليه، وهذه الخبرة مرحلة رئيسة من مراحل التنشئة الاجتماعية الضرورية لنضج الطفل.
وهو عندما يشعر بروح الفريق ويؤكّد مكانته عن طريق تعاونه أو تنافسه مع غيره، فإنّه بذلك يتعلم كيف يحدد موقفه من الجماعة ويدرك معنى المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية. وعليه أن ينجز ما تكلفه الجماعة به وأن يؤدي دوره بالطريقة التي يرتضيها لنفسه وترضاها له الجماعة. وهكذا يتعلم كيف يكيف سلوكه مع سلوك الآخرين وتلك مرحلة رئيسة من مراحل التوافق الاجتماعي. وعلى الطفل أن يتعلم كيف يكيف نفسه وسلوكه مع البيئة التي يحيا في إطارها، طبيعية كانت هذه البيئة أم اجتماعية. "والعصابة" عامل من أهم العوامل التي تحدد له مسالك هذا التوافق وطرقه السوية غير السوية فهي بهذا المعنى قوة من القوى التي تشكل حياته الاجتماعية في نموها المقبل في مراهقته ورشده.
وهو يشارك زملاءه وأقرانه مشاعرهم وآراءهم واتجاهاتهم ويقلدهم في سلوكهم وطريقة كلامهم. ولذا فهو يحب أن يرتدي ملابسه بالطريقة التي يرتدون هم بها ملابسهم، وهكذا يخضع لمعاييرهم في كثير من ألوان سلوكه، وأنماط حياته. وعندما تتعارض هذه المعايير مع معايير أسرته وقيمها وتقاليدها فإنّه ينحاز إلى أقرانه ويؤثرها على أسرته، وعلينا أن نتقبل هذه الظاهرة بشيء من الحكمة وألا نثور في وجهه فنثير في نفسه روح العناد بل نسايره في اتجاهاته حتى نصادقه ونؤثر عليه في تغيير ما شذ من سلوكه ونشاطه.
المصدر: كتاب الإبداع في تربية الأولاد
ارسال التعليق