• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التوحيد وتكريس قيم الصلاح والإصلاح/ ج (1)

التوحيد وتكريس قيم الصلاح والإصلاح/ ج (1)
◄لا يمكن لمجتمع أن يكون متحضِّراً – حسب الرؤية القرآنية – إذا لم يكن حريصاً على تجنب الأخطاء والخطايا حتى لا تقع، وحريصاً على إصلاحها إن هي وقعت. وما من شك في أنّ ذلك يحتاج إلى وازع ودافع، ولن نجد أفضل من مبدأ (التوحيد) لتحقيق هذا الهدف السامي، فإنّ الموحِّد يضع نصب عينيه دائماً وأبداً، رضا ربه ورضوانه، ولن يستثنى من ذلك سرٌّ ولا علنٌ، ولا خلأٌ ولا ملأٌ ولا حلٌّ ولا ترحالٌ. الأمر الذي يعني أنّ عليه انتهاج الحقّ قولاً وفعلاً، لأنّ الله تعالى لا يرضى بالباطل قل أو كثر، قال تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 89-90). وقال تعالى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى/ 42).

وهذه القيمة تعني في نفس الموحِّد (الفرد والجماعة):

أوّلاً: أن لا يفعل الخطأ.

ثانياً: أن لا يصر عليه إن هو فعله.

قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران/ 135).

وعليه، فإنّ الرؤية التوحيدية ترتقي بصاحبها فرداً ومجتمعاً إلى الحرص الشديد على تنقية الواقع الاجتماعي من أي شائبة تكون سبباً لتخلفه دنيا وآخرةً، وهذا ما لا يرضاه الله تعالى لأنّه لا يريد من عباده الخطأ والخطيئة ولا يرضاهما له، قال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الزّمر/ 7).

والتوبة بمعناها العميق والشامل تصب في هذا الاتجاه، ولا يصح قصرها وحصرها على المعاصي والذنوب بين العبد وربّه أخلاقياً وتشريعياً، ونحو ذلك، بل إنّها تتسع لتشمل أي سلوك إنساني يمارسه الفرد أو المجتمع تجاه:

أ) الذات

ب) الخالق

ج) الإنسان الآخر؛ مؤالفاً كان أو مخالفاً

د) الحيوان

هـ) الطبيعة

وبقيمة التوبة المتفرعة عن أصل التوحيد يكون هذا الأصل وما يتفرع عنه عاملاً أساسياً ورئيساً من عوامل الرقي الحضاري للموحِّد والموحِّدين، ومانعاً أكيداً من الوقوع في وهدة التخلف والانتكاس في أي صعيد.

وينبثق عن هذا الأصل العام مجموعة قيم فرعية تصب جميعها في قناة الصلاح والإصلاح، ولنذكر منها ما يلي:

 

1- الطهارة والتوبة:

حاكمية الله تعالى لازمة الاتباع لأنّه (الله)، وهو تعالى لا يرضى بالخطأ ولا بالخطيئة، ومن هذا وذاك مقاربة النساء في المحيض، كنموذج لحرص الله تعالى على نقاء المسلم والمسلمة من أي دنس. قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222).

وبالطبع، فإنّ هذا نموذج لما يحبه الله ويحرص على تجنيب عباده إياه، فكلّ ما يؤدي بالعبد إلى ما لا ينبغي له أن يذهب إليه فهو مرفوض محرم يجب التوبة منه لأنّ التوبة (طهارة).

فـ(التوحيد) يعين على دفع الموحِّد إلى أن يخلص نفسه من كلّ شائبة تشوه إنسانيته، وعلى رأس تلك الشوائب الوقوع في مخالفات شرعية، ومن لم يحرص على التخلص منها هو أعجز من أن يحرص على عدم الوقوع في العدوان على الغير. وما أحوج التحضر إلى العناصر الإنسانية الصالحة لإخراجه من عالم التنظير إلى عالم الواقع.

 

2- اتباع النبيّ (ص) دون التولي والإعراض:

الرؤية القرآنية تلفت أنظار المؤمنين إلى أنّ محبة الله تعالى يجب أن لا تبقى في حدود الشعار المعلَن دون تطبيقٍ على مستوى السلوك، وتؤكِّد على أنّ من لوازم محبة الله الحقيقية اتباع النبيّ (ص) وطاعته بالسير وفقاً لسنته. وخلاف ذلك يكون الإنسان (متولياً) أي أعرض وانصرف وانتهى به الحال إلى الكفر. قال تعالى: (ءاللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران/ 31-32).

ولا يخفى أنّ التولي والكفر أمران نسبيان.

 

المثابرة على العمل الصالح على أساس الإيمان:

الرؤية القرآنية تؤكد أنّ الله تعالى يحب الخير لعباده، ومن الخير أن يكون هؤلاء العباد مؤمنين عاملين بمقتضى إيمانهم، لأنّهم سيسمون أنفسهم بـ(الظلم) إن لم يكونوا كذلك. وعليه، فـ(التوحيد) إذا استقر في وجدان الموحِّد سيكون عنصراً هاماً في تحويله إلى طاقة هائلة تتفجر في جميع الاتجاهات ليسهم في التأسيس لحضارة ومجتمع (عامل مثابر للعمل للصالح)، وإلّا كان ظالماً. قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران/ 57).

ولا يخفى أن تكريس هذه القيمة الفرعية على أساس التوحيد سيدفع بمثل هذا المجتمع إلى الإنتاج لكلّ ما هو مفيد مادياً ومعنوياً.

 

4- فعل الإحسان:

يستمر زارع شجرة التحيد في قطف ثمارها الطيِّبة، ومنها (الإحسان). وهو مفهوم واسع وشامل، غير أنّ الآية هنا تعرّضت لمسألة الامتداد خارج الذات، لأنّ الموحِّد لا يمكن أن يكون أنانياً لا يبالي بآلام الآخرين، خصوصاً المحرومين والمستضعفين، ولأنّ الموحِّد يسعى للخطوة بمحبة الله فإنّه يجتهد في القيام بـ(الإحسان) من خلال (الإنفاق)، فقال تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة/ 195).

وما أحوج المجتمع المتحضِّر إلى هذه القيمة لنحصل على ما نفتقده في الحضارات غير التوحيدية من (الإحسان) الذي لا يقف عند فعل الخير مجرداً بل يتجاوزه إلى النية، ليكون كلٌّ من الفعل والفاعل موصوفين بـ(الحُسن).

 

5- إقامة القسط والعدالة:

لتبيان هذه القيمة المتفرِّغة على أصل التوحيد استعرض نصين اثنين:

النصّ الأوّل: قوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات/ 9).

فقد يقع بين جماعات المؤمنين خلافات يديرونها بطريقة غير حكيمة تنتهي بهم إلى احتدام الخلاف حتى الاقتتال. والمطلوب من جماعة المؤمنين أن يسعوا إلى حل الخلاف بالإصلاح قدر المستطاع وتحت الضوابط الشرعية العادلة والأخلاقية، بداعي إيصال الحقّ إلى أصحابه من المختلِفين فإن تعنّت طرف من الأطراف وكشف عن عدوانيته جاز مقاتلته ليفيء إلى أمر الله وشرعته.

النص الثاني: قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة/ 8).

والنصان معاً يبينان أهمية إقامة القسط والعدل في المجتمع التوحيدي في مقام التأكيد على أنّ التوحيد يتصدّع إذا لم يَقُم الموحِّدون – كما يزعمون – بالقسط والعدل.

والفرق بين النصين أنّ الأوّل يعالج إقرار العدل والقسط في المجتمع المسلم وبين أطراف مسلمين، فيما يعالج النص الثاني إقرار القسط والعدل مع جماعات غير مسلمة. وهذا وذاك يؤكدان على أنّ هذه القيمة مطلقة لا مناص من الإيمان بها وتجسيدها مع المؤالف والمخالف. ►

يتبع..

 

المصدر: كتاب دور التوحيد في بناء المجتمعات والحضارات (رؤية قرآنية)

ارسال التعليق

Top