وفي الصلاة يعرج الإنسان إلى الله، ومهما كان عروج الإنسان في صلاته أكثر كان أقرب إلى الله تعالى.
ما هي الغاية من الصلاة؟ وكيف نصلي؟
إنّ (الذكر) هو الغاية من الصلاة. يقول تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طه/ 14).
فالصلاة إذن ذكر، والغاية من الصلاة الذكر ولا يتأتى للإنسان الذكر من دون "حضور القلب" في الصلاة، فإنّ الذكر هو الحضور، والغفلة الغياب، ولكي يحقق الإنسان في صلاته حالة الذكر لابد له من إحضار القلب.
ولا قيمة للصلاة إلا بمقدار حضور القلب، وليس للمصلي من صلاته إلا ما أقبل عليها بقلبه. وقد دلت الروايات على ذلك. فعن رسول الله (ص): "كم من قائم حظه من صلاته النصب والتعب".
وعن الرسول الأكرم (ص): "إذا أقمت للصلاة فعليك بالإقبال على الله، فإنما لك من الصلاة ما أقبلت عليه بقلبك".
وقد تكون الصلاة فارغة تماماً من ذكر وإقبال على الله، وليس فيها من الصلاة إلا الشكل والمظهر.. فيضرب بها وجه صاحبها.
الخشوع في الصلاة:
فَمِنْ علامَةِ أحَدِهِم أنَّك تَرَى لَهُ... خُشوعاً في عِبادَة.
فما هو الخشوع وكيف يمكن تحصيل هذه الحالة من القرب إلى الله؟
الخشوع في اللغة: هو الخضوع والسكون. قال: (وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا) (طه/ 108). أي سكنت.
والخشوع في الإصطلاح: لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء، لأنّها تابعة له، فالخشوع محله القلب ولسانه المعبر هو الجوارح.
إنّ الخشوع في الصلاة، هو توفيق من الله جلّ وعلا، يوفق إليه الصادقين في عبادتهم، المخلصين المخبتين له، العاملين بأمره والمنتهين بنهيه. فمن لم يخشع قلبه بالخضوع لأوامر الله خارج الصلاة، لا يتذوق لذة الخشوع ولا تذرف عيناه الدموع لقسوة قلبه وبعده عن الله، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 45)، فالذي لم تنهه صلاته عن المنكر لا يعرف إلى الخشوع سبيلاً، ومن كان حاله كذلك، فإنّه وإن صلى لا يقيم الصلاة كما أمر الله جلّ وعلا، قال تعالى: (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة/ 45).
أهم أسباب الخشوع:
إنّ الخشوع ما هو إلا ثمرة لصلاح القلب واستقامة الجوارح، ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة الله جلّ وعلا، والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومعرفة أمره والعمل به، ومعرفة نهيه واجتنابه، ثمّ اقتران ذلك كلّه بالإخلاص. لذلك فإنّ مرد أسباب الخشوع كلّها إلى هذه الأمور.
1- معرفة الله:
وهي أهم الأسباب وأعظمها، وبها ينور القلب ويتقد الفكر وتستقيم الجوارح فالعلم اليقين بلا إلا إلا الله، يثمر في القلب طاعة الله وتوقيره والذل والانكسار له في كلِّ اللحظات، ويعلّم المؤمن الحياء من الله لإيقانه بوجوده ومعيته وقربه وسمعه وبصره. قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد/ 4).
2- تعظيم قدر الصلاة والاستعداد لها:
وإنما يحصل تعظيم قدرها، إذا عظم المسلم قدر ربه وجلال وجهه وعظيم سلطانه، واستحضر في قلبه وفكره إقبال الله عليه وهو في الصلاة، فعلم بذلك أنّه واقف بين يدي الله، وقد كان الإمام عليّ بن الحسين السجاد (ع) إذا توضأ اصفر لونه فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول: "أتدرون بين يدي من أقوم؟".
وليس من شك أنّ الاهتمام من عوامل الانتباه، وكلما يكون اهتمام الإنسان بأمر أكثر يكون انتباهه إليه أكثر وهذه قضية واضحة، فإنّ الإنسان إذا واجه أمرين وكان اهتمامه إلى أحدهما أعظم من الآخر انصرف إليه بقلبه.
وإنما ينصرف الناس عن صلاتهم إلى ما يهمهم من أمور دنياهم لأنّ اهتمامهم بها أعظم من اهتمامهم بالصلاة، إذن الخلفية النفسية لمسألة حضور القلب في الصلاة هي قضية الاهتمامات، وما لم يحوّل الإنسان اهتماماته من "الأنا" إلى "الله" ومن "الدنيا" إلى "الآخرة"... لا يتمكن من أن يؤدي الصلاة أداءً حسناً، بالإقبال والذكر والانشداد.
3- تفريغ القلب:
إنّ قلب الإنسان إناء واحد، لا يجتمع فيه أمران متضادان، يقول تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب/ 4). فإذا كان قلب الإنسان مشغولاً بشواغل الدنيا، فلا يستطيع أن ينصرف إلى ذكر الله تعالى، وتبقى هذه الشواغل تلاحقه، وتطارده، حتى في صلاته، وهذه الشواغل على نحوين:
شواغل خارجية، وأخرى داخل النفس، والثانية أشق من الأولى.
أما الشواغل الخارجية فهي ما تحيط بالإنسان وتشغل باله، مثل زخرفة مكان المصلّي ونقوش الفرش الذي يصلّي عليه الإنسان.
وأهم من الشواغل الخارجية الشواغل الداخلية في النفس، هي الاهتمامات التي تشغل المصلي عن صلاته وذكره، وتشتت باله، وترهقه بالطمع والحسد والجشع وطول الأمل.
4- منهج الخطاب:
عندما ننظر في كتاب أو نستمع إلى محاضرة قد نصاب بشرود الذهن، وكذلك الأمر عندما نقرأ كتاباً بصوت مسموع. ولكن عندما نخاطب أحداً أو نتلقى خطاباً من أحد بالمواجهة لا نصاب بالشرود، ففي حالة الخطاب ينشد الإنسان إلى "المخاطب" (بالفتح والكسر)، بسبب عامل الخطاب. إذن "الخطاب" من أهم عوامل الانشداد.
فإذا استشعر المؤمن خطاب الله تعالى له في القرآن، وخطابه له تعالى في "الصلاة" و"الدعاء" لم يصرفه عنه شيء، ولا يجد أمراً ألذّ إلى قلبه وعقله منه.
5- تدبُّر القرآن في الصلاة:
إنّ تدبُّر القرآن من أعظم أسباب الخشوع في الصلاة، وذلك لما تشتمل عليه الآيات من الوعد والوعيد وأحوال الموت ويوم القيامة وأحوال أهل الجنّة والنّار وأخبار الأنبياء الرسل وما ابتلوا به من قومهم وكلّ هذه القضايا تسبح بخلدك فتهيج في قلبك نور الإيمان وصدق التوكُّل وتزيدك خشوعاً على خشوع وكيف لا وقد قال الله جلّ وعلا: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر/ 21).
صلاة اللّيل:
"وأما اللّيل فصافون أقدامهم...".
إنّ النوافل هي مجال التنافس والتسابق، والتسامي في نيل الدرجات الزلفى عند رب العالمين، يوم القيامة.
قال تعالى: (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر/ 32)، ومن أهم هذه النوافل، صلاة الليل يقول الله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء/ 79).
ويقول تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة/ 16-17).
آثار صلاة الليل:
فمن آثار هذه الصلاة:
أوّلاً: إنّ صلاة الليل تثبت النور في قلب العبد، وقد ورد عن النبيّ الأكرم (ص) أنّه قال: "إنّ العبد إذا تخلّى بسيّده في جوف اللّيل المظلم وناجاه، أثبت الله النور في قلبه".
ثانياً: إنّ صلاة اللّيل تستوجب رضوان الله سبحانه وتعالى، وقد قرن الإمام الرضا (ع) بين صلاة اللّيل ورضا الله تعالى، فقال: "قيام اللّيل رضا الربّ".►
المصدر: كتاب المتقون/ سلسلة الدروس الثقافية (19)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق