• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حاجتنا إلى الصلاة

حاجتنا إلى الصلاة
◄الصلاة شعار العبودية ومظهرها

إنّ الصلاة هي الشعار المتجدد كلّ يوم لعبودية المصلي لربه وخالقه – جلَّ جلاله –، والمصلي يعلن بصلاته عن هويته الإيمانية، ويرفع ذلك الشعار الذي يشاركه فيه إخوانه المؤمنون المصلون في كلّ زمان ومكان، فالولاية معقودة بينه وبينهم، وإن تناءت الأمكنة وتباعدت الأزمنة، قال الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 71).

والولاية معقودة بين المؤمنين وبين قبلتهم في صلاتهم: الكعبة المشرفة بيت ربهم – جلّ جلاله –، قال تعالى: (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الأنفال/ 34)، ويحتمل عود الضمير في الآية الكريمة إلى المسجد الحرام كما ذكر العلامة السعدي في تفسيره، فالله – عزّ وجلّ – جعل بيته الحرام لتوحيده وعبادته وقيام دينه. فالمؤمنون يتوجهون إلى بيت ربهم في صلاتهم خمس مرات في اليوم والليلة، يفعلون ذلك عبودية خالصة وطاعة لله – جلّ جلاله –، فهو سبحانه الذي فرض ذلك وأمر به في قوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة/ 150). فالمصلي في صلاته يعكس صورة العبودية التي فطره عليها خالقه، فهو في صلاته يحقق هذه الفطرة التي يحبها الله تعالى لأنّها الفطرة التي فطر الناس عليها. وأما صورتها (أي الصلاة) من الأفعال فإنها وضعت إظهاراً للعبودية، وسبباً لتطهير الموحدين، وستراً لمساوئ أعمالهم، فصُوِّرتْ أفعالها على أفعال العباد لتقابل تلك المساوئ فتسترها ليقدم غداً على ربه مستوراً. قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود/ 114)، فالعبد إنما خلق ليكون له عبداً كما خلق فيثاب على كونه هذا (أي كونه عبداً) فيصير غداً حرّاً ويكون في جوار الله ملكاً. ولما كانت العبودية غاية كمال الإنسان وقربه من الله بحسب نصيبه من عبوديته وكانت الصلاة جامعة لمتفرق العبودية متضمنة لأقسامها كانت أفضل أعمال العبد، ومنزلها من الإسلام بمنزلة عمود الفسطاط منه.

 

المؤمن يسعد بالصلاة

والمؤمن هو من أسعد الناس وأكثرهم بهجة وسروراً بالصلاة لأنّه يجد فيها ذاته حين يقف بين يدي سيده وخالقه يناجيه، ويثني عليه، ويدعوه، ويضّرع إليه، ويخرُّ بين يديه راكعاً ساجداً في تذلل، وخضوع، وانكسار يرجو رحمته ويطمع في مغفرته. وإنها للحظات من أجمل اللحظات وأطيبها في حياة المؤمن، فالصلاة فرضت في أفضل الأوقات، وأشرفها عند الله تعالى. والله – عزّ وجلّ – اختار لعباده المؤمنين هذه الأوقات الشريفة عنده ليقفوا بين يديه في صلاتهم بهيئة شريفة تدل على كمال الذل والعبودية والتعظيم له، فأي شرف أعلى من هذا الشرف، وأي عزة أعظم من هذه العزة؟ ينال المصلي ذلك كله ويكرم به في صلاته وهو يقف عبداً ذليلاً منكسراً، خاشعاً، قانتاً صاغراً لكبرياء الله تعالى وعظمته وجبروته، إنّه بعمله هذا يضع رجليه على مدارج الشرف والعزة والكرامة.

 

    الصلاة ميدان العزّة والكرامة

إنّ الصلاة ميدان واسع من ميادين العزّة والكرامة. ومَن أراد العزّة والكرامة فعليه بالصلاة. إنّ المصلي عزيز عند الله تعالى لأنّه يضع أشرف وأكرم أعضاء بدنه في الأرض عبودية لله تعالى وتذللاً له – جلَّ جلاله –، فالمصلي يلقى من الله الكرامة ظاهراً وباطناً، عاجلاً وآجلاً في الدنيا والآخرة، ويُلَقَّى يوم القيامة تحية الكرامة في دار الكرامة من ربه الكريم، قال تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا) (الأحزاب/ 44)، ولذلك كله وسواه عدت الصلاة (عمود الإسلام) وهي عمود عبودية المسلم لله تعالى، فمن تركها فقد هدم عمود إسلامه، وهدم عمود عبوديته، فمن لم يصل لله تعالى فهو متكبر من المتكبرين الذين يسيرون خلف المتكبر الأوّل إبليس عليه لعائن الله. فهو أوّل من عبَّد طريق الكبر، وأوَّل من سار فيه، وهو ومن سار خلفه سيكون مصيرهم إلى النار مصداقاً لقول الحقّ تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر/ 60)، وعمود الصلاة: السجود.

 

السجود سر الصلاة وركنها الأعظم

كان العرب قديماً يأنفون من الانحناء، فكان يسقط من يد الواحد سوطه فلا ينحني لأخذه وينقطع شراك نعله فلا ينكس رأسه لإصلاحه، فلما كان السجود عندهم هو منتهى الذلة والضعة أُمروا به لتنكسر بذلك خيلاؤهم، ويزول كبرهم، ويستقر التواضع في قلوبهم.

قال ابن القيِّم – رحمه الله –: "وشرع السجود على أكمل الهيئة وأبلغها في العبودية، والسجود سر الصلاة وركنها الأعظم وخاتمة الركعة وما قبله من الأركان كالمقدمات له فهو شبه طواف الزيارة في الحج فإنّه مقصود الحج ومحل الدخول على الله وزيارته وما قبله كالمقدمات له؛ ولهذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وأفضل الأحوال له حالٌ يكون فيها أقرب إلى الله، ولهذا كان الدعاء في هذا المحل أقرب إلى الإجابة، ولما خلق الله سبحانه العبد من الأرض كان جديراً بأن لا يخرج عن أصله بل يرجع إليه إذا تقاضاه الطبع والنفس بالخروج عنه، فإنّ العبد لو تُرك لطبعه ودوعي نفسه لتكبر وأشر، وخرج عن أصله الذي خلق منه، ولوثب على حق ربه من الكبرياء والعظمة فنازعه إياهما، وأُمر بالسجود خضوعاً لعظمة ربه وفاطره، وخشوعاً له، وتذللاً بين يديه وانكساراً له فيكون هذا الخشوع والتذلل ردّاً له إلى حكم العبودية، ويتدارك ما حصل له من الهفوة والغفلة والإعراض الذي خرج به عن أصله فتمثل له حقيقة التراب الذي خُلق منه وهو يضع أشرف شيء منه وأعلاه وهو الوجه وقد صار أعلاه أسفله خضوعاً بين يدي ربه الأعلى وخشوعاً له، وتذلّلاً لعظمته واستكانة لعزته، وهذا غاية خشوع الظاهر".

 

حاجتنا إلى الصّلاة

إننا بحاجة ماسة إلى ضرورة أن ندرك شأن الصلاة وأثرها وخطرها في حياتنا، لأنّنا ومن خلال هذا الإدراك سوف نحرص على أدائها ولا نفرط فيها. إننا من خلال ذلك سوف نعرف أننا محتاجون إلى الصلاة أكثر من احتياجنا إلى الماء والهواء والشراب والطعام، فهذه كلها تغذي الجسم، والصلاة تغذي أرواحنا وقلوبنا. ونحن إنما نسعد في الدنيا الآخرة بغذاء وسعادة أرواحنا وقلوبنا. فالكفار أجسامهم صحيحة ولكنه أرواحهم ميتة، قال الله تعالى: (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 198)، وقال سبحانه: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (الأنفال/ 55). وقال سبحانه: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ) (الطور/ 44). ►

 

*أستاذ التفسير بجامعة أم القرى

المصدر: كتاب تأملات في فضل الصلاة ومكانتها في القرآن والسنة

ارسال التعليق

Top