لاشكّ أنّ الأخلاق قابلة للتقويم، واكتساب الجيد منها والتخلي عن القبيح وبالعكس. بدليل أنّ الشرع أمر بالتخلق بالأخلاق الحسنة، ونهى عن التخلق بالأخلاق القبيحة، فلو لم يكن ذلك ممكناً ومقدوراً للإنسان لما ورد به الشرع. فالإسلام لا يأمر بالمستحيل وعلى هذا فإنّ لدى كلِّ إنسان أهلية للتقويم واستعداد لاكتساب الجيد من الأخلاق والتخلي عن القبيح منها. وإن كان الناس متفاوتين في مقدار أهليتهم واستعدادهم لهذا الأمر.
وهناك وسائل كثيرة لتقويم الأخلاق واكتساب الجيد منها والتخلي عن الرديء. والإسلام لم يدع وسيلة من الوسائل التربوية إلا استخدمها في هذا المجال.
ومن أهم هذه الوسائل ما يلي:
1- العلم، ويقصد به معرفة أنواع الأخلاق الحسنة التي أمر بها الإسلام وأنواع الأخلاق الرديئة التي نهى عنها الإسلام.
وهذا العلم ضروري لأنّه بدونه لا يدري المسلم بأي خلق يتخلق، ومن أي خلق يتجرد، وقد كفى الإسلام المسلم مؤنة البحث والاستنباط، فقد فصّل الأخلاق بنوعيها، وما على المسلم إلا أن يعرض نفسه على الأخلاق بنوعيها، ليعرف موضعه منها، ثمّ يعمل جاهداً؛ لتكون أخلاقه أخلاقاً إسلامية حقّاً[1].
2- الاهتمام الكامل بتقوية معاني العقيدة الإسلامية في النفس. وعلى رأس هذه المعاني الإيمان بالله واليوم الآخر وبرسالة محمد (ص)، واستحضار الجزاء على الأعمال صغيرها وكبيرها، فتقوية معاني العقيدة الإسلامية في النفس يؤدي إلى انفتاح النفس وتقبلها لمعاني الأخلاق الإسلامية؛ لأنّ هذه الأخلاق موصولة بالإيمان ومعاني التقوى، وهذه الصلة تشتد كلما قوي الإيمان في النفس، ورسخت العقيدة فيها، مما يجعل أخلاق المسلم الطيبة ثابتة راسخة لا تزول ولا تضعف؛ لأنها موصولة بالقوي العزيز، وتجد مادة بقاءها واستمرارها وصلاحها من هذا الفيض الذي لا ينضب.
3- مباشرة الأعمال الطيبة التي تساعد على تقويم الأخلاق، وتسهل على النفس قبول الأخلاق الزكية والنفور من الخبيثة: فالعلم وحده بدون عمل لا يكفي قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس/ 9)، ولم يقل سبحانه قد أفلح من تعلم كيفية تزكيتها، فلابدّ من تزكية فعلية بمباشرة الأعمال المحققة لزكاة النفس وتخليصها من أمراض الأخلاق الرذيلة ومن الأعمال الطيبة النافعة لتقويم الأخلاق، القيام بأنواع العبادات والطاعات المفروضة والمندوبة، لأنها تزكي النفس وتسهل عليها اكتساب الأخلاق الطيبة والتخلص من الخبيثة، فهي لها طهرة، وزكاة، وقوة، ووقاية. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعاني. فمثلاً في الصلاة قال الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 44). وفي الزكاة قال سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة/ 103).
وهكذا بقية العبادات بأنواعها المختلفة التي تزكي النفس وتسمو بالروح[2].
4- التدريب العملي والرياضة النفسية: فإنّ الممارسة التطبيقية ولو مع التكلف في أوّل الأمر، وقسر النفس على غير ما تهوى، من الأمور التي تكسب النفس الإنسانية الخلق الطيب، طال الزمن أو قصر.
وهذا المسلك يحتاج إلى تكرار ودوام حتى ينتج أثره، وهذا الدوام يستلزم الصبر وهو ضروري في هذه الحالة ضرورته للمريض الذي يتناول الدواء المر، فإذا صبر وداوم انقادت النفس وألفت الفعل ثمّ يصبح الفعل لها سجية. وقد ثبت في الصحيح أنّ الرسول (ص) قال: "ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله"[3].
5- الانغماس في البيئات الصالحة، وذلك بمخالطة المؤمنين ذوي الأخلاق الحسنة؛ لأنّ من طبيعة الإنسان أن يكتسب من البيئة التي ينغمس فيها ويتعايش معها ما لديها من أخلاق وعادات وتقاليد. ولذلك كان توجيه النبيّ: "لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي"[4] ولهذا كان السلف الصالح يأمرون بهجر أصحاب البدع والمعاصي وذوي الأخلاق الرذيلة.
6- القدوة الحسنة: والقدوة الحسنة هي المثال الواقعي للسلوك الخلقي الأمثل.
والقدوة الحسنة المتحلية بالفضائل الممتازة تعطي الآخرين قناعة بأنّ بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة، التي هي في متناول القدرات الإنسانية.
ومن المشاهد في مجال التربية أنّ كثيراً من الناس يرون بعض الأمور مستحيلة الوقوع؛ لأنّهم لم يعالجوا قدراتهم للقيام بها فإذا شاهدوا غيرهم يفعلها، أخذوا يطوعون قدراتهم حتى يكسبوها المهارات المطلوبة لذلك العمل[5].
وقد اتخذ الإسلام القدوة الحسنة وسيلة من وسائله لترقية المجتمعات المسلمة في سلم الكمال السلوكي عامة، ومنه الكمال الخلقي. وخير القدوة على الإطلاق رسولنا (ص) قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21). ففي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى للمؤمنين أن يجعلوا رسول الله (ص) قدوة حسنة لهم، يقتدون به في أعماله وأقواله، وأخلاقه، وكلّ جزئيات سلوكه في الحياة.
وجعل الله الذين آمنوا معه وصدقوا وأخلصوا واستقاموا، أمثلة رائعة يقتدى بها في معظم الفضائل الفردية والجماعية.
ولئن انتقل رسول الله (ص) إلى جوار ربه فإنّ سيرته التي تحتوي على جزئيات سلوكه ماثلة لنا. وفيما بلغنا من تراجم أصحابه – رضوان الله عليهم – ما يكفي لتجسيد القدوة الحسنة للمجتمع المسلم.
ثمّ إنّ كلَّ عصر من العصور من بعدهم لا يخلو من وجود طائفة من أمة محمّد تصلح؛ لأن تكون قدوة حسنة قلَّت هذه الطائفة أو كثرت، فقد بشر رسول الله (ص) بذلك في قوله: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك".
7- هجر البيئة الفاسدة: والفرار منها كما يفر المرء من المكان الموبوء، والتحول إلى البيئة الصالحة التي تضم الجماعة الصالحة من المؤمنين الطيبين.
ولا يجوز للمؤمن التعرض للبيئة الفاسدة بحجة أنّه متين الأخلاق؛ فإنّ هذا غرور ووهم، وفي السنة النبوية أمثلة مدللة على أهمية هجر البيئة الفاسدة والفرار منها.
ومن ذلك: ما حكاه النبي (ص) عن الرجل الذي قتل مائة نفس ثمّ سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فأتاه. فقال: إنّه قتل مائة نفس فهل له من توبة، فقال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإنّ بها ناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.. إلخ الحديث[6].
فهذا الحديث يدل على ضرورة التحول من المجتمعات الفاسدة إلى المجتمعات الطيبة؛ فإنّ العيش معها أدعى إلى سلامة الشخص واستقامته وابتعاده عن السوء[7].
8- ترويض النفس على قبول النصيحة: فالمؤمن يرى من عيوب غيره ما لا يرى الغير من عيوب نفسه.
9- الحرص على كلِّ صفة جميلة واعتبارها كالجوهرة النفيسة التي يجب صونها وحفظها وعدم التفريط فيها. وعدم الاستهانة بأي صفة قبيحة وإن بدت بسيطة قليلة الشأن – فرب صفة خبيثة تدخل المرء النار، ورب صفة طيبة ترفعه إلى درجات عالية[8]. وفي الحديث: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"[9].
وفي الختام:
إنّ اهتمام الإسلام بالأخلاق وتقويمها، وإقامة الحياة الإنسانية على أساسها قد بلغ شأناً كبيراً يؤكد أنّ الأخلاق الفاضلة، ضرورة ملحة لإقامة الحياة السعيدة في كلِّ مجتمع.
ومن الملاحظ أنّ حضارات كثيرة قامت على أساس متين من القوى المادية، ولكنها أهملت الجانب الأخلاقي، فلم تغن القوى المادية عنها شيئاً، وأصبحت أثراً بعد عين.
الهوامش:
[1]- عبدالكريم زيدان، أصول الدعوة، ص90.
[2]- عبدالكريم زيدان، أصول الدعوة، ص92.
[3]- رواه الخاري ك: الزكاة ب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى، عن أبي هريرة، 1/248.
[4]- رواه أبو داود في سننه ك: الأدب ب: من يؤمر أن يجالس 4/259، حديث رقم 4832، والترمذي ك: الزهد: حديث رقم 2574 وقال الترمذي: حديث حسن.
[5]- عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، الأخلاق الإسلامية وأسسها، 1/215.
[6]- رواه البخاري ك: أحاديث الأنبياء 2/261 عن أبي سعيد الخدري.
[7]- أصول الدعوة، ص94.
[8]- المرجع السابق نفس الموضع.
[9]- رواه البخاري ك: الزكاة ب: اتقوا النار ولو بشق تمرة، 1/246 عن عدي بن حاتم (رض).
المصدر: كتاب منهج القرآن الكريم في إصلاح المجتمع
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
محمود اسد
شكراً لقد عجبني كثيراً و افادني لكم منى وافر الشكر