◄الله.. سبحانه يحب أن يظهر لعباده حلمه وصبره وأناته وسعة رحمة وجوده. فاقتضى ذلك خَلْق من يشرك به ويضاده في حكمه ويجتهد في مخالفته ويسعى في مساخطه. بل يُشَبِّهه سبحانه وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات، ويرزقه ويعافيه، ويمكِّن له من الأسباب ما يتلذذ به من أصناف النعم، ويجيب دعاءه، ويكشف عنه السوء، ويعامله من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته، فلله كم في ذلك من حكمة وحمد. ويتحبب إلى أوليائه ويتعرف بأنواع كمالاته. كما في الصحيح عنه (ص) أنّه قال: "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم"، وفي الصحيح عنه (ص) فيما يروي عن ربه: "كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يُعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأما شتمه إياي فقوله: "إتخذ الله ولداً. وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد".
وليس أوّل الخلق بأهون عليه من إعادته. وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب، ويعافيه، ويدفع عنه، ويدعوه إلى جنته ويقبل توبته إذا تاب إليه، ويبدله بسيئاته حسنات، ويلطف به في جميع أحواله، ويؤهله لإرسال رسله، ويأمرهم بأن يلينوا له القول ويرفقوا به.
قال الفضيل بن عياض – رحمه الله –: ما من ليلة يختلط ظلامها إلا نادى الجليل جل جلاله: "من أعظم مني جوداً. الخلائق لي عاصون وأنا أكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا. أجود بالفضل على العاصي، وأتفضل على المسيء. من ذا الذي دعاني فلم ألبه. ومن ذا الذي سألني فلم أعطه. أما الجواد ومني الجود. أنا الكريم ومني الكرم. ومن كرمي أني أعطي العبد ما سألني وأعطيه ما لم يسألني. ومن كرمي أني أعطي التائب كأنّه لم يعصني. فأين عني يهرب الخلق، وأين عن بابي يتنحى العاصون".
وفي أثر إلهي: "إني والإنس والجن في نبأ عظيم. أخلق ويعبد غيري وأرزق وشكر سواي". وفي أثر حسن: "ابن آدم ما أنصفتني، خيري إليك نازل وشرك إليَّ صاعد. كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غنيٌّ عنك، وكم تتبغض إليَّ بالمعاصي وأنت فقير إليّ. ولا يزال الملك الكريم يعرج إليّ منك بعمل قبيح". وفي الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم".
فهو سبحانه لكمال محبته وكمال أسمائه وصفاته اقتضى حمده وحكمته أن يخلق خلقاً يظهر فيهم أحكامها وآثارها. فلمحبته للعفو خلق من يحسن العفو عنه. ولمحبته للمغفرة خلق من يغفر له ويحلم عنه ويصبر عليه ولا يعاجله. ولمحبته لعدله وحكمته خلق من يظهر فيهم عدله وحكمته. ولمحبته للجود والإحسان والبر خلق من يعامله بالإساءة والعصيان وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان. فلولا خلق من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها.. فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، ذو الحكمة البالغة والنعم السابقة. الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته، وله في كلِّ شيء حكمة باهرة.
المصدر: كتاب الله.. أهل الثناء والمجد
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق