• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

خُلق الكون في خدمة الإنسان

أسرة البلاغ

خُلق الكون في خدمة الإنسان

◄خلق الله الإنسان على سطح هذه الأرض، ويسر له سبل العيش والحياة فيها، فجعل الأرض وما فيها وما عليها لصالح الإنسان، وأحاطها بنظام كوني يلائم ظروف الحياة عليها.

    فجعل علاقة الشمس والقمر والجاذبية والغلاف الغازي.. إلخ  علاقة مناسبة للحياة على الأرض.

    وهيأ للإنسان على سطحها وفي باطنها كلّ مستلزمات الحياة والتطور فيها.. فجعل النبات والحيوان، والبحار والأنهار، والمعادن، كلّها في خدمة الإنسان، ومن أجل توفير مصالحه وتيسير حياته، وأحاطه بالنعم والخيرات، وآتاه من كلِّ ما يحتاج إليه في حياته، دونما نقص، أو خلل في نظام التكوين والعلاقة في عالم الإنسان والحياة.

    وانّ في هذا الإبداع والإتقان لمن يتأمله بوعي وصفاء لدليلاً على دقة التكوين، وإتقان نظام الخلق، بحيث لا يشاهدُ خللاً ولا يجد اضطراباً في نظام الحياة، أو في علاقة الإنسان بالطبيعة، فالإنسان يجد كلّ ما يحتاج إليه في هذا الوجود... من طعام، وشراب  وهواء ونور، وحرارة ورطوبة.. إلخ: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)  (إبراهيم/ 32 – 34).

 

    كلّ ذلك لئلا يضطرب نظام الحياة، أو يختل مبدأ التكوين الطبيعي لها.. فالإنسان يجد في الطبيعة، من الجاذبية وضغط الهواء ونسبة الأوكسجين وعناصر التربة ما يمكنه من العيش وممارسة الحياة بدقة وانتظام.

    ولولا هذا الإتقان والضبط في نظام التكوين لتعذرت الحياة على الإنسان ولاستحال العيش في رحاب الأرض.. وسبحان الله القائل: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل/ 88).

    ولولا إباحة هذه الأشياء جميعاً للإنسان إباحة تكوينية لكان عسيراً عليه التصرف بها والاستفادة منها ولكن الله بلطفه وعدله وحكمته قد مكن الإنسان من الاستفادة من هذه الموجودات جميعاً، ومنحه القدرة على استثمارها والاستفادة منها، ومن ثم أباحها إباحة تشريعية، بأن جعل للإنسان حقّ الانتفاع بها والاستفادة منها، في الحدود المقررة.

    ومن هذا الترابط بين مبدأي الخلق والتكوين الطبيعي للإنسان والحياة، وحاجة الإنسان إلى الموجودات من حوله، وارتباط كيانه الجسدي والاجتماعي بها من جهة، وبين إعطائه القدرة على الاستفادة من كلِّ موجود يمكنه الانتفاع به من جهة أخرى نستنتج أنّ مبدأ الإباحة هو الأصل في كلِّ مستلزمات الحياة الإنسانية – حسب الرأي المشهور -، وأنّ كلَّ شيء في هذه الحياة مباح للإنسان، ومن حقه أن يمارسه ويستفيد منه إلا ما حرّم عليه.

    وما حرم عليه إلّا كلّ ضار بنظام الحياة أو ما كان خطراً عليها، ومتناقضاً مع الأساس التكويني لها.

    قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (الأنعام/ 119).

    (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ...) (الأنعام/ 151).

    فالمحرمات في الإسلام هي أشياء معينة ومحددة، وما عداها فقد جعل الإسلام الحياة وما فيها مباحة للإنسان يتصرف بها كيف شاء، ويستمتع بها أنى شاء، وفق نظام ومنهج يحفظ مسيرة الحياة، ويوفر الانضباط والإتزان السلوكي في كلِّ نشاط وموقف إنساني..

لذلك استنكر القرآن مواقف أولئك الذين يضيقون الحياة على أنفسهم وعلى الآخرين ويجعلون ما أحل الله وأباحه للعباد ممنوعاً ومحرماً عليهم، وتساءل مستنكراً هذا التصرف من الإنسان: (قلْ مَنْ حَرّمَ زينَة اللهِ التِي أخرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطيّباتِ مِنَ الرّزق..) (الأعراف/ 32).

    فالإسلام إذن لا يستهدف من وراء مفهوم الحلال والحرام في الحياة حرمان الإنسان، وشل طاقاته، وجعله يدور داخل إطار من الزواجر والنواهي السلبية.. بل إنّ موقف الإسلام هو العكس من ذلك تماماً، وكما توضحه الآياتان السابقتان... فانّه يؤمن بإباحة كلّ شيء نافع ومفيد للإنسان ويحرم الضار من الأفعال والمواصفات التي تجلب الخطر أو تؤدي إلى الأضرار واضطراب الحياة الإنسانية.

    وقد أكد القرآن في مواضع كثيرة من بيانه الإلهي الحكيم على هذا المبدأ، وأوضحه بحصره للمحرمات في الخبائث والفواحش والمنكرات، فقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 33).

    (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف/ 157).

    وهكذا تؤكد هذه الآيات بأنّ سبب الحرمة كامن في ذات الموضوعات المحرّمة، وليس أمراً اعتباطياً هدفه التضييق والزجر الذي لا غاية ولا مبرر له، وقد ركز القرآن هذه الأسباب في ثلاث صفات أساسية هي:

    الخبث – الفحش – المنكر

    وهذه الأوصاف الثلاثة هي تشخيص لصفة القبح والضرر في الموضوعات المحرمة – سواء المادية منها أو المعنوية.

    وبالعودة إلى قواميس اللغة نستطيع أن نعرف الدلالات الحقيقية لهذه الألفاظ ونعرف من خلالها دواعي التحريم وغاياته.

    فكلمة (الخبيث) تعني في لغة العرب: (ما يكره رداءة وخساسة محسوساً كان أو معقولاً)[1].

    (وخبث وخبثاء وأخباث وخبثة وخبيثات وخبائث: المستكره، النجس، كلّ شيء فاسد، - كلّ حرام – وهو مستعار.

    الخبائث: ما كانت العرب تستقذره ولا تأكله، كالأفاعي والخنافس، والخبث ما كان في الذهب والحديد ونحوهما من الغش – ما لا خير فيه.

    أما كلمة فحش فتعني في لغة العرب (ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال).

    وأما كلمة منكر فنستطيع أن ندرك معناها إذا عرفنا أنّ العرب – تقول (تنكر الرجل تغير عن حال تسرّه إلى حال يكرهها – تغير عن حاله حتى ينكر -).

    ومن هذا التحليل اللغوي لعناوين المحرمات – الخبائث – الفواحش – المنكرات، نعرف أنّ الإسلام لم يحرم بعض الموضوعات المادية.. كبعض المأكولات والمشروبات... أو قسماً من السلوك الإنساني... إلا لأنّها تنطوي على هذه الصفات وتولد الآثار والنتائج الخطرة والضارة بحياة الإنسان.

الهامش:


[1] - الراغب الأصفهاني- معجم مفردات ألفاظ القرآن.

ارسال التعليق

Top