• ١٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

معجزة محمد (ص)

د. محمد عبدالرحمن مرحبا

معجزة محمد (ص)

تتلخص معجزة محمد في قدرته الهائلة على صنع الأفكار وعلى جعل الآخرين مضخات للأفكار. وعلى جعل الأفكار المنبثقة في الأذهان، وقائع متحققة في الأعيان. ولشد ما يتجلى ذلك في الشجرة العطرة التي استطاع استنباتها يوماً في أرض قفر وحرِّ الهجير والهجر، وهي شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تلك هي معجزته الكبرى ودونها سائر المعجزات، لأنّه الوحيد الذي استطاع أن يجعل هذه الشجرة تنمو وتزدهر وتؤتي ثمارها بعد عناء طويل. لقد كان مزاجاً فريداً من كل ما يمكن لأُمّته وجيله وقبيلته وأرضه وتربته وتاريخه أن تعطي وتنجب. لقد كان راعياً وأباً وتاجراً ونبياً وخطيباً وقائداً وبطلاً ومشرعاً ومنقذاً... لقد كان كل هذا وأكثر من هذا. لقد حقق الحلم وانجز الوعد وغدت الجزيرة العربية والمنطقة المحيطة بها بعد محمد غيرها قبل محمد. وهذا حسبه.
كان محمد ذا طبيعة ثورية لا تعرف الراحة خارج العمل النضالي. لقد تحمل آلام الكفاح بكبرياء إنسان يصنع التاريخ. ففي قلبه جذوة إيمان، وفي اعصابه وقدة إرادة، وفي يمينه مشعل حرِّية وتحرر، وفي عينيه أشواق إنعتاق من الحدود والسدود. وعندما توفي كان النصر الكبير تاجاً للألم الكبير. لقد تحقق الأمل الكبير بعد العذاب الكبير!!
يقول لامارتين شاعر فرنسا العظيم وزعيم الحركة الرومانطيقية فيها:
"إنّ حياة كحياة محمد، وقوة كقوة تأمله وتفكيره وجهاده وهجومه على أساطير قومه وجاهلية شعبه وشدة بأسه في لقاء ما لقيه من عبدة الأوثان وثقته بالنصر... ان كل أولئك أدلة على أنّه لم يكن يضمر خداعاً أو يعيش على باطل، فهو فيلسوف وخطيب ورسول ومُشرِّع وهادي الإنسان إلى العقل، وناشر العقائد المعقولة الموافقة للذهن واللب، ومؤسس دين لا إفتراء فيه ولا صور ولا رُقَى وطلسمات، ومنشئ عشرين دولة في الأرض، وفاتح دولة روحية في السماء تعمرُ بها القلوب [فليت شعري] أي رجل أدرك من العظمة الإنسانية مثلما أدرك، وأي إنسان بلغ في مراتب الكمال مثلما بلغ".
ويقول ول ديورانت:
"وإذا حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس، قلنا انّ محمّداً كان من أعظم عظماء التاريخ. فقد أخذ على نفسه أن يرتفع بالمستوى الروحي والأخلاقي لشعب القت به الطبيعة في دياجير الهمجية وحر الجو وجدب الصحراء. وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحاً لا يرقى إليه أي مصلح في التاريخ كله، وقلَّ أن نجد إنساناً غيره حقق [في حياته] كل ما كان يحلم به؟... واستطاع في جيل واحد أن ينتصر في مئة معركة، وفي قرن واحد أن ينشئ دولة عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم في نصف العالم".
ولكن ذلك لم يأته على طبق من ذهب، بل بعد كفاح ونضال طويلين. فقد امتلأت دربه بالعنت فلم ييأس، ونبت فيها الشوك والعلقم فلم يحجم، وما هو إلا بعض حين حتى مشى الإسلام على قنطرة إيمان محمد فكان ملء سمع الدهر. لقد وقف على مثال المنار يرسل صوته الهادر قرآناً عربياً غير ذي عوج وحديثاً عذباً متدفقاً يُعدُّ من جوامع الكلم. لقد وقف على مثال المنار يمسح الظلام الحالك بالقبس الوضاء في يمينه، ليقضي على المعتقدات الذاوية الكسيحة والهرطقات المسيطرة والأوضاع الإجتماعية الفاسدة والتحلل الخلقي ويقظة الإباحية الماجنة.
لقد كان للنبي الحق الأوّل في كل ذريعة من ذرائع السلطان. كان له من سلطان الكفاءة والمهابة ما يعترف به العدو والصديق، ولكنه لم ينشأ – بل لم يخطر له_ إلا أن يكون الرئيس الأكبر بسلطان الأب الأكبر، والصديق الأكبر والراعي الأكبر بسلطان الحب والرحمة والحنان. وقد كان يدين نفسه بما يدين به أصغر اتباعه. وكان لا يستأثر برأي أو يستبد بفكرة، بل كان أكثر الناس مشاورة للرجال، وكان حب المساواة شرطاً من شروط الامامة عنده. روي انّه كان في سفر وأمر أصحابه باصلاح شاة. فقال رجل: يا رسول الله عليَّ ذبحها. وقال آخر: عليَّ سلخها. وقال ثالث: عليَّ طبخها. فقال المعلم: وعليَّ جمع الحطب. فقالوا يا رسول الله: نكفيك العمل. قال علمت انكم تكفونني ولكن أكره أن أتميز عليكم. انّ الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميِّزاً بين أصحابه.
لقد حرص النبي أشد الحرص على نقاء الإيمان عند أصحابه ومريديه. فهو لا يريد أن يدع شيئاً يشوب عقائدهم الصافية وتوحيدهم المطلق، أو أن تتسرب الترهات والأباطيل إلى إيمانهم. انّه لا يؤمن بالمعجزات والكرامات ولا يريد لأصحابه أن يؤمنوا بها، بل لقد كان يهتم كثيراً بأن يبعدوا عقولهم عنها كيلا ينساقوا في أوهامها. حتى لكان ينتهز كل فرصة تتاح له في هذا السبيل ليربي عقولهم وفطرهم ويسمو بهم إلى حقائق الإيمان الصحيح. انّه يردد دائماً انّ معجزته الوحيدة هي القرآن فلينأوا بأنفسهم عن التماس معجزة أخرى غيرها. وعندما توفي ابنه الوحيد إبراهيم بعد أن رآه يكبر ويشتد ساعده وبذل في تربيته الجهد والعرق، حدث كسوف كلي فظن الناس انّ الشمس حزنت على إبنه إبراهيم فتجلببت الاكوان بالسواد. فما كان منه عندما بلغه ذلك الا أن قال بحزم وبلا مواربة أو نفاق: "إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تكسفان لموت أحد ولا لحياته!". يا لروعة الرجل الذي يأبى الدجل والشعوذة. لقد سما عن الأباطيل، ويريد ليسمو بأصحابه عنها، وليربيهم على الحق والصدق والإخلاص وسلامة العقيدة. لا معجزة له سوى القرآن، وما عدا ذلك فإنّما هي أباطيل نسجها الوضاعون والمخرفون والبسطاء من بعده، ثمّ أخذ الخيال الشعبي يغذيها بالأخيلة والأوهام لعل في ذلك ما يزيد في عظمة الرجل.
لقد أسيء إلى محمد من قبل الأصدقاء فكيف لا يساء إليه من قبل الأعداء؟ إنّ الصديق الجاهل، لا يقل ضرراً عن العدو العالم. فقد أضاف الخيال الشعبي الكثير إلى محمّد، كأنّ محمداً يحتاج إلى ما يضاف إليه. انّ محمداً بما فعل وما لم يفعل، ومن غير تنقيحات وإضافات شعبية هو أعظم وانبل من محمد مصنوع مزخرفٍ. انّ الخيال الشعبي وضع حجاباً كثيفاً بين محمد الرجل ومحمد الأسطورة. لقد أفسدوا محمداً الحقيقة حتى لم يعد يرى الكثيرون سوى محمد الأسطورة، ظناً منهم انّهم بذلك يضفون رواء على محمد، وما دروا ان ذلك يسيء إلى محمد كما أساء إليه مناوئو محمد. لقد استوى الصديق الجاهل والعدو العالم والتقيا على صعيد واحد في الإساءة إلى الرجل الذي أحسن إلى الناس جميعاً. ولو تركه الأصدقاء الجاهلون على حقيقته لكان انقى واصفى.
كان مثلاً في الإستقامة ومكارم الأخلاق. وكان يُلقَّب بالأمين دون سائر الناس، وقد شهد له بذلك شانئوه فضلاً عن محبيه. لم يعبد الأوثان قط ولم يخالف قواعد الكرامة والخلق السليم قط. كان في مقدوره إستغلال حادث كسوف الشمس الذي وقع مصادفة في ذلك اليوم الأسود الذي فقد فيه ابنه إبراهيم ولكن لا. انّه لم يتعود غير قول الحق، فالحق احق أن يُتَّبعَ.
إنّه كبير في صدقه، كبير في أمانته، كبير في أخلاقه. لقد حمل العبء الكبير وقام بالعمل الكبير. لقد كانت الدنيا على عهده بحاجة إلى رسالة، وتصدى كثيرون قبله لحمل هذه الرسالة ولكن تأبى حقائق التاريخ إلا أن يكون هو صاحب هذه الرسالة، فكان احق بها وأهلها!!
إنّ الأفكار والمثل التي فجرها محمد بن عبدالله في قومه لم تكن فقط معجزة اقتصرت على تبديل المشركين بالله وجعلهم جماعات مهذبة موحدة لله، بل المعجزة أيضاً هي أن أولئك الذين صحبوه ولو لوقت قصير تحول كل منهم إلى قائد ورائد، وبالتالي أصبح هو أيضاً معجزة صغيرة. وكانت تلك العصبة من الأشخاص الذين نشأوا على يديه هم الذين حملوا رسالته إلى العالم. ثمّ انتشروا في الأرض بعزيمة لا تعرف الكلل أو الملل يبثون أفكاره وتعاليمه، ويضيفون إليها أفكارهم هم وتصورهم هم للدين الذي يحملون رسالته. لقد كانوا عظماء وجعلوا غيرهم عظماء. وغدا المسلمون بفضل هذا القرآن مدرسة للشعوب الأخرى وموئلاً لكل ذي موهبة محب للعلم والبحث والنظر. لقد حملتهم رسالته وإستشعار حمياه إلى مناطق لم يطؤوها. ففي فترة قصيرة استطاع هؤلاء أن ينقلوا الإسلام إلى جميع أنحاء العالم المعمور آنذاك، ويخترقوا به آفاقاً وسحباً وعوالم لم تكن بحسبان أحد. وكان تفاعل وكان تلاقح وكان اخصاب.
انّه حتى عهد قريب نسبياً في بلاد الغرب لم يخضع التأليف في سيرة محمد لما يخضع له التأليف عادة هناك من إعتبارات ومعايير وموازين اكاديمية ومناهج علمية. حيث يبدأ الموضوع على شكل نقطة أو نقاط صغيرة، ثمّ لا تلبث بفضل البحث والدراسة أن تتكشف غوامضه وترتسم له أبعاد جديدة وتتسع حدوده. لكن سيرة محمّد في الغرب ظلت قروناً مرتعاً للمباراة في التعصب والكراهية. ومن هذا المنهل غير الصافي نهل أبو موسى واشبع أحقاده وعلم تلاميذه كيف يكون الحقد والضغينة.
إنّ الأصل في السيرة – أي سيرة – أن تقدم بيانات عن شخص ما وعن ظروف حياته، على أن تكون البيانات صحيحة والمصادر موثوقاً بها. غير أن سيرة محمد بدأت في الغرب تقليداً مضاداً ومعرقلاً لوظيفة السيرة. لقد انطلقت من خلفيات أيديولوجية معارضة للإسلام وعلى هذا المنوال استمرت كتابة السيرة النبوية، وكان كل كاتب ينقل عن غيره ثمّ يضيف إليه جديداً في الاقذاع والتجني... ولم تتوقف الترهات والأباطيل الا لإلتقاط الأنفاس والاسترواح من شدة اللهاب. هذا الأسلوب في التشهير من شأنه أن ينسف كل حقيقة صادقة عن محمد. فكأن الغرب أبى الا أن يقرن الحروب الصليبية بالحرب النفسية والإعلامية. فإذا كانت هذه الحروب قد استمرت ثلاثة قرون، فإنّ الحرب النفسية والإعلامية لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا سواء في أوروبا أو أمريكا، بل في اصقاع واسعة من أفريقيا وشرق آسيا، حيث الجهالة العمياء والجوع الكافر والمرض الوبيل... وكل أولئك تربة خصبة لنشر التبشير الحاقد وتزييف صورة أي دين الا دين المستعمر الجاثم على الصدور. انّ هذه الحرب النفسية الإعلامية هي الوجه الآخر للحروب الصليبية التي بدأت وهيهات أن تنتهي.


المصدر: كتاب الفكر العربي في مخاضه الكبير

 

ارسال التعليق

Top