• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإنسان والكدح الإيماني

محمّد محفوظ

الإنسان والكدح الإيماني

◄ثمة علاقة عميقة وصميمية تربط الأديان التوحيدية الكبرى في نصوصها التأسيسية بالإنسان، إذ إنّ كلّ التشريعات الدينية تتجه إلى الإنسان موضوعاً وغاية. وحتى في الحُقَب التاريخية واللحظات الزمنية التي تراجع فيها موقع الدين في الحياة العامّة، فإنّ السعي والكدح الذي يبذله المتديّنون أفراداً وجماعات، يتجه إلى إعادة الإنسان إلى الله، بصرف النظر عن طبيعة القضايا الجزئية والتفصيلية التي تتمايز من دين إلى آخر في ما يرتبط، وتجسيد الوجدان الديني في حياة الإنسان الخاصّة والعامّة.

وبمقدار ما ينفتح علماءُ الأديان ومتخصصوه على القيم والمبادئ الكبرى التي صاغتها النصوص التأسيسية للأديان، يتم بالقدر ذاته الانفتاح على الإنسان وقضاياه الملحّة. لذلك فإنّنا نعتقد أنّ الخطوة الأولى في مشروع صياغة رؤية ومشروع ودور الدين في بناء الإنسان، تتجسّد بانفتاحنا وتواصلنا مع النصوص التأسيسية للأديان التوحيدية، التي تختزن مضامين إنسانية سامية. وذلك لأنّ استغراقنا في القضايا اللاهوتية مع أهميّة بحثها والتحاور بشأنها، إلّا أنّها تنتمي إلى حقل غير الحقل الذي يجب أن نبحث فيه عن دور الدين ببناء الإنسان.

إنّ الحقل الثقافي الذي يتواصل بفاعلية مع القيم والخيارات الكبرى للأديان، هو الحقل والمدى الفكري والإنساني الذي يوصلنا إلى بلورة وصياغة رؤية مشتركة لدوره ووظيفة الدين في بناء الإنسان.

ولعلّنا لا نأتي بجديد حين القول في هذا الصدد، إنّ نقل الحوار بين الأديان من دائرة اللاهوت إلى دائرة الثقافة بكلّ أبعادها، هو الذي يضمن للجميع حواراً معاصراً وبعيداً عن كلّ العناوين والقضايا التي تمّ تجاوزها من قبل كلّ المجتمعات والأُمم. فالتفكير في القضايا البائدة، التي لا أثر ملموس لها في حياة الإنسان المعاصر، يعرقل مهمّة الدين ببناء الإنسان في مختلف الأبعاد والجوانب. لذلك ثمة ضرورة دينية وحضارية لإثارة القضايا والعناوين التي لها مدخلية مباشرة في حياة الإنسان المعاصر، ونبحث جميعاً من مختلف مواقعنا لصياغة رؤية تفيد حاضر الإنسان ومستقبله. وهذا بطبيعة الحال لا ينفي أهميّة أن تتضح رؤيتنا وفهمنا للآخر الديني، ولكنّنا نود أن نقول إنّ وضوح الرؤية والفهم للآخر تبدأ من إثارة القضايا الإنسانية المعاصرة والملحّة، والبحث عن إجابات وحلول على قاعدة الفهم والتواصل المتجدِّد للقيم والمبادئ الدينية، بحيث تتحرّك كلّ الإمكانات والقدرات لحماية الإنسان وصيانة حقوقه ومكتسباته بصرف النظر عن انتمائه الديني.

وإذا كُنّا نتحسّس من بعضنا البعض في دوائر الدعوة أو التبشير، فإنّ التزامنا بالإنسان مطلقاً وبقضاياه الملحّة، هو الذي يوفر الجوامع المشتركة، ويدفعنا باتّجاه العمل المتعدد الجوانب بما يفيد حياتنا المعاصرة.

ولعلّنا هنا لا نُبالِغ حين نقول: إنّ البابا بولس السادس استطاع أن يحقق للروح المسيحية الكثير بنشاطه السياسي في حركته من أجل القضايا الإنسانية العامّة في أكثر من موقع أو موقف. وكلّ شخصية دينية سواء أكانت مسلمة أم مسيحية أم يهودية، تستطيع أن تحقق الكثير حينما تتبنّى من موقعها الديني القضايا الإنسانية، وتعمل بوسائل مختلفة للدفاع عن الإنسان والشعوب المظلومة والمضطهدة. فالأديان دائماً بما هي قيم ومبادئ ومُثل، هي ضمير الناس وجسرهم للتعبير عن إنسانيتهم، ولحشد إمكاناتهم لمقاومة كلّ ما يُسيء إلى إنسانية الإنسان.

وبناء الإنسان بحاجة بشكل مستديم إلى قيم ومبادئ، تزيل رُكام الجمود والانحطاط، وتحفّز قيم الخير والفاعلية، وتُبرز البُعد الإنساني بكلّ تجلياته في حياة الإنسان. ولعلّ هذا هو الدور والوظيفة الأولى التي يقوم بها الدين في مشروع بناء الإنسان.

ومهمّتنا جميعاً، ومن موقع إيماننا الديني، أن ننفتح على قضايا الحرّية والعدالة والمساواة للإنسان، ونتحرّك بمحاولات ومبادرات مستديمة للوصول إلى الكلمة السواء في كلّ القضايا التي تهم الإنسان واستقرار وسعادة البشرية جمعاء، ولنحفِّز الفضاء الإنساني بأسره صوب المزيد من الانفتاح على ما لدى كلّ منّا من قيم روحية وأخلاقية وإيمانية مشتركة.

وفي هذا السياق، من الضروري القول: إنّ بناء الإنسان وتنمية مدارِكه ومواهبه، لا يمكن أن يتم إلّا بتنمية دوافع الخير والصلاح والمحبّة في نفس الإنسان. فالإنسان الذي يمتلئ قلبه محبّة للناس هو الذي يُمارس فعل الخير والتنمية في الفضاء الإنساني، والإنسان الذي يختزن في عقله قيم الحوار والالتزام، هو الذي يحوِّل حياته إلى شُعلة من النشاط والحيوية بما يفيد الإنسان الفرد والجماعة.

والدين بما هو منظومة قيمية وأخلاقية وإيمانية، هو الذي يُنمِّي في الإنسان دوافع الخير والصلاح، ويدفعه نحو تجسيد هذه القيم في الواقع الخارجي. لذلك فبمقدار تمكن قيم الإيمان من نفس الإنسان، بالقدر ذاته يُمارس الخير والمحبّة للجميع. فالإيمان ليس هروباً من الحياة أو انزواءً وانكفاءً عن قضايا الإنسان والتزاماته المتعددة، بل هو حركة في العقل، والتزام في الموقف والسلوك.

يقول تبارك وتعالى: (الذينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِم ويتفكّرونَ في خَلقِ السّمواتِ والأرضِ ربَّنا ما خَلَقتَ هذا باطِلاً سُبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّار) (آل عمران/ 191)، وقال عزّ مَن قائل: (قُل سِيرُوا في الأرضِ فانظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الخَلقَ ثُمّ اللهُ يُنشئُ النشأةَ الآخِرَةَ إنّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قدير) (العنكبوت/ 20).

فالتفكير والتأمُّل بظواهر الكون ومتغيراته وأسرار الإنسان وخباياه، هو الذي يقود إلى تعميق مفهوم الإيمان في نفس الإنسان. وبذلك يتحوّل الدين والإيمان بقيمه ومبادئه ونُظمه، حافزاً للعمل والبناء والعمران. لذلك نجد أنّ آيات الذِّكر الحكيم تحثّ وتحضّ على التفكير والتأمُّل حتى يتحرّر الإنسان من كلّ القيود والضغوطات، إذ قال ربّ العزّة: (قُل إنّما أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أن تَقُومُوا للهِ مَثنَى وفُرَادَى ثمّ تَتَفكّروا ما بِصاحِبِكُم مِن جِنّةٍ إنْ هوَ إلا نذيرٌ لكم بينَ يَدَي عذابِ شديدٍ) (سبأ/ 46).

وفي الوقت ذاته، هدد القرآن الحكيم أولئك النفر الذي يحتكرون المعرفة، ويكتمون ما أنزل الله من البيِّنات باللعنة الإلهية، إذ يقول تبارك وتعالى: (إنّ الذينَ يَكتُمُونَ ما أنزَلنا مِن البَيِّناتِ والهُدى مِن بَعدِ ما بَيَّنَاهُ للنّاسِ في الكِتابِ أولئكَ يَلعَنُهُم اللهُ ويَلعَنُهُم اللاعِنون) (البقرة/ 159).

ونبذ احتكار المعرفة لوحده لا يكفي من أجل خلق الشروط الضرورية لبناء الإنسان على أُسس الإيمان والحرّية والعلم. لذلك يؤكِّد القرآن الحكيم في العديد من آياته قوّة العلم وسلطان الحجّة. فالجدال ليس هدفاً بذاته، لذلك من المهم أن يستند إلى قوّة العلم والحجة والبرهان، يقول تعالى: (ومِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللهِ بِغَيرِ عِلمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِير) (الحج/ 8).

وبهذا تتأسّس كلّ شروط ومرتكزات البناء السليم للإنسان. فمشروع البناء الحقيقي للإنسان يبدأ من نبذ احتكار المعرفة وكتمان الحقّ، وحثّ العارفين والعلماء على نشر العلم والمعرفة وتعميمهما والاحتكام الدائم إلى الله والبرهان والخروج من كلّ دوائر الجدل الذي يبتعد عن الحقائق، أو لا يستهدف الوصول إليها. وتوّج الباري عزّوجلّ كلّ هذه القيم والمرتكزات بضرورة اتّباع أسلوب اللين والكلمة الطيّبة والطُّرق المرنة التي تفتح القلوب على الحقّ وتقرّب الأفكار إلى دائرة مفاهيمه وأحكامه، إذ يقول تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصِّلت/ 33-35).

إنّ الأساليب العُنفية والانفعالية في التعامل مع الآخرين، ليست من الإسلام بشيء، وهي أساليب تهدم ولا تبني. ووظيفة الأديان في عمليات البناء الإنساني تنطلق حينما يتحرر الإنسان من كلّ أساليب العُنف والنبذ والإلغاء التي قد يستخدمها البعض باسم الدين.

وحوار الأديان بكلّ مستوياته، من الأهمية أن يأتي في سياق الحوار الموضوعي، الذي لا يهدف إلى الانحباس في القضايا اللاهوتية، وإنما تأكيد وتعميق أُسس ومرتكزات مشاركة الأديان في بناء الإنسان وتطوير الحياة المعاصرة في أبعاد القيم والمبادئ والجوانب المعنوية التي يحتاجها الإنسان الفرد والجماعة في مختلف مراحل حياته.

وهذا يجعلنا نقرر حقيقة أساسية في هذا المجال، وهي: حينما تتجسّد قيم الإسلام في شخصية الإنسان المسلم، وتتجسّد قيم المسيحية في شخصية الإنسان المسيحي، وتتجسّد قيم اليهودية في شخصية الإنسان اليهودي، يتحرر الإنسان من كلّ القيود والكوابح التي تحول دون تقدّم الإنسان ورقيّه المادي والمعنوي.

الجدير بالذكر في هذا الإطار هو أنّ أُفق الرسالات الدينية السماوية رحبٌ وواسعٌ في نصوصها التأسيسية وخياراتها الكبرى، إلّا أنّ بعض الأتباع، ولعوامل عديدة ذاتية وموضوعية، يُغلقون الأُفق على الآخرين، ويضيّقون الوسع الذي تتميز به النصوص التأسيسية للأديان التوحيدية الكبرى.

لذلك من الأهمية التفريق بين الدين المعياري، الذي هو مجموع القيم والمبادئ العُليا التي جاء بها الدين، وبين الدين التاريخي والمعيوش، وهو تلك التجربة الإنسانية التي عملت على تجسيد قيم الدين، أو تسمّت باسمه. وفي تقديرنا أنّ فضَّ الاشتباك والالتحام بين المعياري والتاريخي يُساهم بتجلية وتظهير دور الأديان السماوية في بناء الإنسان. ولعلّنا لا نُجانب الحقيقة حين القول: إنّ الدين التاريخي في بعض حُقَبه التاريخية - وهذا الكلام ينطبق على كلّ الأديان - كان دوره سلبياً وسيِّئاً تجاه الإنسان وقضاياه الجوهرية. فحينما يخضع رجل/ عالم الدين كفرد أو مؤسسة للسلطان السياسي الغشوم، ويسوغ له كلّ أعماله وتصرّفاته، فإنّ هذا الدين المعيوش والممارس أضحى كابحاً للإنسان ومانعاً من نيله حقوقه وحرّيته. لهذا فإنّ مرجعيتنا في بيان دور الأديان في بناء الإنسان، ليس التجربة التاريخية بكلّ فصولها ومحطاتها، وإنّما بعض الحُقَب المجيدة بإطارها ومرجعيتها القيمية التي مارس فيها الدين دوره التاريخي والحضاري المأمول. لهذا فإنّ التحرر من عبء التاريخ والانعتاق من آسار الواقع وبعض قواه السياسية المحلية والدولية، التي تسعى لتوظيف حوار الأديان توظيفاً سيِّئاً وضيِّقاً، والتفاعل الخلّاق مع الأديان في نصوصها التأسيسية وحُقَبها التاريخية المجيدة فحسب، هو الذي يساهم ببلورة المناخ المواتي لكي تمارس الأديان دورها في بناء الإنسان والمجتمعات.

 

- الخاتمة:

إنّ المنظومة القيمية الكبرى للأديان التوحيدية، تدفع الإنسان لكي يكون مباركاً، أي نفّاعاً للناس، بحيث لا تتجمّد حياته في ذاته، ولكنّها تمتد إلى الناس الآخرين، وتتحرّك في حياتهم.

يحدِّثنا القرآن الحكيم عن هذه القضية المهمة (النفع المستديم للناس) من خلال ذكر قصّة السيِّد المسيح (ع)، إذ يقول تبارك وتعالى: (قالَ إنِّي عَبدُ اللهِ آتاني الكِتابَ وجَعَلَني نَبِيّاً * وجَعَلَني مُبارَكاً أينَ ما كُنتُ وأوصاني بالصّلاةِ والزكاةِ ما دُمتُ حيّاً * وبَرّاً بوَالِدَتي ولَم يَجعَلني جَبّاراً شَقِيّاً) (مريم/ 30-32).

والبركة التي تتحدّث عنها هذه الآيات ليست شكلية، وإنّما هي ممارسة وفعل متواصل. فهي تتحرك من خلال فكر الإنسان وجهده وطاقته في مستويات الحياة المتعددة. فالنفع والخدمة، هما عنوان الدين في علاقته بالإنسان. ولعلّنا لا نذهب بعيداً حين نقول: إنّ دور الأديان في بناء الإنسان، لا يخرج في مضمونه وجوهره، عن هذه الآيات التي توضح كيف جعل الله تعالى السيِّد المسيح (ع) مباركاً أينما كان. فحينما يكون الإنسان في سلام مع الله، يتحرّك في أطوار حياته في رحلة السلام، مع نفسه، ومع الناس. وبهذا تكون حياة الإنسان وفق الرؤية الدينية محبة وسلاماً وخيراً وبركة للآخرين.►

 

المصدر: كتاب حوار الأديان وقضايا الحرّية والمشاركة

ارسال التعليق

Top