أ. د. محمد أديب الصالح
◄- البناء.. وتغيير ما في الأنفس وسورة الرعد:
أهل الإيمان الصادق والغيرة على أمة الإسلام، يؤرقهم الحرص على أن تستأنف هذه الأمة مسيرتها الخيِّرة في بناء الفرد والمجتمع على هدي كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن تنمي قدرتها العلمية ومواردها البشرية والاقتصادية، وتضعها بوعي ومنهجية على الطريق الذي يسمو بها – بإذن الله – إلى القوة الذاتية والوجود المتميز، لتعود إلى أداء رسالتها في العالمين إعلاءً لكلمة الله. ونشراً للقيم التي تسعد الإنسان وتحفظ عليه وجوده وكرامته وترتفع به – في ظل بنيان حضاري سليم بقيمه الإسلامية – إلى حيث يسعد في الدنيا ويوم الدين (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد/ 7).
والحق أنَّ هذه القضية الكبرى يرتبط تحقيقها بسلوك السبل المؤدية إليها والأخذ بالأسباب من أطرافها، على السنن الذي درج عليه أولئك الذين حملوا العبء وارتادوا الطريق عقيدة وعلماً وعملاً وجهاداً في سبيل الله.
ولذلك ما بدٌّ من أن تغير الأمة ما هي عليه من أسباب الضعف: حتى يغير الله ما بها.
في ظل هذه المقولة درج الكثير من أولئك المؤمنين الغيورين على الاستشهاد بداهة بقوله تعالى في سورة الرعد: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11).
وقوله في سورة الأنفال: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال/ 53).
ولكن الدلالة في الآيتين الكريمتين كلتيهما لا تعطي هذا الذي يراد الاستشهاد له، وحين أقول هذا لا أقوله تثبيطاً أو تخذيلاً لا سمح الله فهنالك الكثير من النصوص والوقائع التي تعطي أن نصر الله للأُمّة مرتب بأن تنصر الأمة ربها بالاستمساك بأهداب الدين اعتقاداً من داخل النفس وقولاً وعملاً، وتستأنف الحياة على سنن السلف الصالح به كما في قوله الله تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد/ 7)، وقوله جلّ شأنه: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران/ 160).
ولكن أحرص على الوقوف عند الذي تدل عليه ألفاظ الآية الكريمة وسياقها وما ورد في شأنها أو قاله العلماء على وجه العموم؛ ففي سورة الرعد وفي سورة الأنفال: ما تعطيه الكلمات القرآنية في هذا الصدد، أنّ الله، وهو المنعم المتفضل، لا يغير ما بقوم من النعمة فيسلبها عنهم حتى يغيروا هم ما بأنفسهم من التقوى والاستقامة والإخلاص له عزّ وجلّ.
وهاكم ما ورد في سورة الرعد نذكره هنا ونثني عليه من بعد فيما يأتي بما ورد في سورة الأنفال إن شاء الله. ذلكم قوله تعالى بدءاً من الآية الثامنة: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ) (الأنفال/ 8-11)، إنّ البنية الثقافية التي تنشئ التصورات بين يدي العمل: لابدّ أن تكون سليمة الارتباط عند المسلم بالأصول الأولى في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وتحرير الخطوة الأولى على طريق البناء على ذلك: ضرورة ملحة؛ لأنّ هذه الخطوة لها ما بعدها في إنشاء التصور وفي الحوافز التي تحفز إلى العمل والإسهام فيما يعود على الفرد والمجتمع بالنفع. ولله عاقبة الأمور.
- مع البناء.. وسنة الله في التغيير:
لا يعوز الناظرَ في معالم الكتاب العزيز وما لها من أبعاد في بناء الإنسان والمجتمع.. أن يقع على واحدة من ركائز المنهج الرباني كما هو في الفرقان الحكيم وبيان من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي أنّه لا يقتصر على الدعوة إلى البناء على الوجه المطلوب، ولكن يضم إلى ذلك دعوة إلى التذكر والتبصر عند النوازل والنكبات، من أجل أن يتبين الفرد والجماعة في حال انحسار العطاء عن الأمة وتغيير الله ما بها من النعم.. أن يتبينوا الأسباب التي أدت إلى الانحسار والتغيير، فحلّ بالأمّة ما حل من الضعف والتراجع عن موقعها القيادي في العالمين.
وصدق ربنا جلّ شأنه إذ يقول في سورة "هود": (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود/ 116-117).
وتبيُّن الأسباب بصدق وشجاعة: يسلم إلى قراءة جديدة متدبرة لمنهج البناء وطريقة القضاء على عوامل الهدم من داخل النفس ومن خارجها في توجيه وحركة لحياة، ذلك بأنّ لله سنة لا تتخلف في أمر التغيير – وهي أنّه لا يغير ما بقوم ما يحبون من النعمة والإمداد بمقومات الخير والنماء إلى ما يكرهون من انحسار ذلك عنهم، حتى يغيروا ما بأنفسهم من الطاعة والإنابة إليه سبحانه.
فطالما كانوا على الجادة استقامة على الطريقة، وسلوكاً لا يخالف عن أمره، فالفضل مستمر لا ينقطع، تغمرهم خيراته وثماره الطيبة في كل ميدان من ميادين الحياة.. حتى إذا غيروا ما بأنفسهم، فظلموا، وبدّلوا سوءاً بعد حسن حلت بهم النقمة، فغيّر الله ما بهم ووكلهم إلى أنفسهم والعياذ بالله.
وحرصاً على أن يكون المؤمنون على بيِّنة من أمرهم وهم يقطعون رحلة البناء على أرض التاريخ: جاء التصريح بالسنة الإلهية المشار إليها في أكثر من موضع من كتاب الله كما نرى في سورتي الرعد والأنفال وذلك بجانب دلالات لنصوص نقع عليها في عدد من المواطن.
ففي سورة الرعد نقرأ قول الله تعالى – كما أشرنا في كلام سبق: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد/ 8-11).
وتطالعنا سورة الأنفال بقوله جلّ شأنه: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال/ 52-53).
وإلى أن نلتقي على ضياء البصيرة القرآنية في هذه الآيات من سورة الرعد، وفيما نقرأ في سورة الأنفال إن شاء الله: أودُّ الإشارة إلى أنّ الحرص على تجاوز الواقع الذي يعيشه كثير من المسلمين، وإنشاء واقع جديد تستعلن فيه كلمة الله في كل ميدان، إقامة لشرع الله، وجهاداً في سبيل الله، وأمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، وموالاة لله ورسوله والمؤمنين: يقتضي – كما تدل الآية – مراجعة الأسباب الحقيقية للتخلف، والعمل على سلوك السبيل التي تعود بها النعمة والعطاء الإلهي وذلك بالبناء الصحيح على العقيدة، وطاعة الله بكل ما للطاعة من أبعاد، ثمّ الأخذ بأسباب العلم والعمل والجهاد وتنمية الطاقات الفاعلة المنتجة على هذه الساحات كلها، ولله عاقبة الأمور.
- البناء.. ولازم الرغبة في التغيير:
يقودنا المعلم القرآني وما تهدي إليه آيات سورة الرعد التي رأيناها من قريب إلى متابعة الرحلة المباركة مع تلكم الآيات، حيث يتضح أن سنة الله في أمر التغيير – أعني تغيير ما بالناس من النعمة على كل صعيد –: منوط بتغيير ما بأنفسهم من الطاعة والإنابة إليه سبحانه.. فإذا غيروا ما بأنفسهم من طاعته وتجاوزوا الحق إلى الباطل في العمل والسلوك، جانحين عن دين الله وشرعه: غيّر الله ما بهم، وحلّت الكارثة والعياذ بالله. وإنها للكارثةُ التي تنعكس آثارها على الفرد والجماعة والوجود الذاتي للأُمّة.. في أمور الدنيا والآخرة جميعاً (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
فإذا أرادت الأُمّة أن يعود إليها ما كان قبل أن يغير الله ما بها من النعمة ومقومات الرقي والنصر: فما عليها إلا أن تعود بإيمان وصدق عزيمة إلى ما كانت عليه قبل أن يتغير ما بالأنفس، فالله لم يغير ما بها حتى غيّرت ما بأنفسها.. فإن رجعت عن ذلك، عاد الله عليها بفضله وخيره العميم.
وهكذا يكون من لازم الصدق في رغبة الأمة أن يرجع إليها ما حجب عنها من التمكين وتأييد الله سبحانه. أن تحزم أمرها وتعمل على بناء الإنسان بناء سليماً يعيد إلى الفرد والجماعة ما به يُستدر نصر الله وعونُه، وفي الوقت نفسه لابدّ من أن يصاغ المجتمع في حركته ومسالك النماء في جوانبه جميعاً وفق هذا النهج الذي تدعو إليه السُّنة الإلهية الحكيمة.
والآيات الكريمات صريحة في هذا الذي نقول. ولنعد مرة أخرى إلى آيات سورة الرعد حيث يقول الله جلت قدرته: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد/ 8-11).
تشير الآيات كما نرى إلى عدد من مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته، ثمّ تشير إلى بعض من نعمه جلّ شأنه على الإنسان، وذلك في قوله سبحانه: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، فلكل ممن أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، ملائكة يحفظونه من الأسواء والحادثات، يتعاقبون في ذلك، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر...
وبعد هذا البيان جاء تقرير السنة الإلهية التي عمادها أنّ الله لا يغير ما بقوم، فيحوّل عنهم ما يحبون من النعم ومقومات الخير والنماء، إلى ما يكرهون من انحسار ذلك عنهم: حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وتبارك ربنا الحكيم في سننه التي تتحوّل، العليم بما هو الأصلح لعباده، الذي نزَّل الفرقان على مصطفاه من خلقه سيدنا محمد بن عبد الله ولم يجعل له عوجاً.
المصدر: كتاب بناء الأمة ومواجهة التحديات
ارسال التعليق