• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تأملات قرآنية في قصة يحيى وزكريا (ع)/ ج2

مائدة عبد الحميد

تأملات قرآنية في قصة يحيى وزكريا (ع)/ ج2
- حل تناقض ظاهري: قد يبدو لمن يقرأ القرآن بصورة عابرة ومن دون تأمّل أن هناك بعض التناقض في الآيات القرآنية وفي الآيات التي تعرض لنا حالة زكريا (ع) عند دعائه وعند تبشير الملائكة له واحدة من تلك التناقضات الظاهرية، حيث انّ زكريا (ع) هو نفسه يذكر أنّه قد كُبرت سنه وأنّه قد ضعف عظمه وامتلأ رأسه شيباً وأن إمراته عاقر وهو مع ذلك يريد من الله سبحانه وتعالى الولد، فإذا به حين تستجاب دعوته ويُبشر بالولد ولكأنه يفاجأ ويطلب توضيحاً عن كيفية ذلك مع صعوبته أو إستحالته بالنسبة لمن كان مثله. أننا إذا تأملنا ولو قليلاً في هذه الآيات نستكشف الكثير من الأمور – وهذا واحد من أسرار القرآن وبلاغته حيث ينقل سبحانه موقفاً بسيطاً ولكنه مليء بالدروس والعبر – وأحدها ما ذكرنا آنفاً حيث أنّ زكريا (ع) عندما يدعو الله سبحانه وتعالى ويطلب منه أمراً صعباً وفق المعايير التي إعتاد عليها الناس فهذا يُبين علمه بل يقينه بأنّ الله بحانه لا يصعب عليه العسير ".. وهو عندي كثير، وهو عليك سهل يسير..." وأنّ الصعاب ذليلة لقدرته "... ذلّت لقدرتك الصعاب"، بل أنّ الصعب والسهل عنده سيان فهو خالقهما وكل شيء في الوجود إنما هو مخلوق له سبحانه وهو مطيع له. لذا فهو يطلب من القدير ويعرض حاله على العليم ويسترحم أرحم الراحمين وهذا شأنه وشأن كل طالب يتأمّل أن يُستجاب طلبه، ثمّ إذا هو يُبشر بإستجابة مولاه لدعوته فهو يتسائل عن الأسباب لعلمه أنّه سبحانه قدّر لهذا العالم أن يكون عالم الأسباب فلا يتحقّق أمر إلا بتحقّق أسبابه "وتسببت بلطفك الأسباب" ومن الأسباب المعتادة للإنجاب ما يعلم بعدم توفّره فيه وفي زوجته فهو يستفسر عن الحكمة وهل هناك حكمة خاصة وراء إنجابه في هذه السن ومن زوج عقيم؟!! فيأتيه الجواب الإلهي بأنّ هذا خلق على الله يسير فكما خلقك ولم تكن شيئاً فكذلك هو يخلق ولدك، فيسأل الله سحبانه أن يعلّمه كيف يشكر نعمته وكيف يُهيّأ قومه ليتلقوا هذه المعجزة والكرامة الإلهية.   - المحطة الثانية: الإستجابة الإلهية تأمّل معي أيها المؤمن في الصورة الرائعة التي تخطها لنا يد الرحمة الإلهية في هذه الآيات التي تنقل لنا حالة هذا العبد المرضي عند الحق تعالى، وكيف قام بين يدي الله سبحانه وتعالى يدعوه ويتضرّع إليه غير آيس ولا شاكّ ولا مسيءٍ للأدب، بل هو منشرح الصدر، مقبل على ربه، عارف، خاشع، دؤوب، موقن بقدرة مولاه، راجٍ كرمه وفضله، فإذا بالإجابة الربانية تأتيه والرحمة الإلهية تغمره والبشرى تصله بصورة بهية ما أبهاها من صورة!! تأتيه البشرى عن طريق الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب، في ذروة العبودية، يُبشر هذا العبد فتأتيه الملائكة – وليس من واحد – لتزفّ إليه الحبوة الإلهية ليزداد إنشراحاً فوق الإنشراح وسروراً فوق السرور فلم يدعه الله سبحانه وتعالى حتى يولد الولد فيأتيه بشرٌ ليبشره، بل أراد المولى الحكيم أن تكون بشارته بهذه الصورة التي تفيض حناناً وعناية خاصة منه سبحانه، وتكريماً لعبده يفوق الوصف والكلمات التي يجدها الإنسان قاصرة في هكذا مواقف. ثمّ إنّ هذا الكلام – القاصر طبعاً – هو كله عن شكل هذه التحفة الربانية – ولكأننا نستكشف عظمة الهدية من طريقة إرسالها، وبيد مَن تُرسل، وكيف تُلف، وبماذا تُغلَّف – فماذا عن فحواها وما هي هذه التحفة وهل هي بقدر ما سأله العبد أم أنها بمقدار كرم المولى وجوده وقدرته، نترك الكلام في هذا عند الحديث عن يحيى (ع) ونرجع إلى هذا العبد، إلى زكريا (ع) هل غمرته الفرحة بهذه البشرى لدرجة أنسَته أن يؤدي شكر مولاه؟، كما نجد عند من تنقصه رباطة الجأش؟؛ أم أنّه إنشغال بحلاوة هذه البشرى عن حلاوة الحديث مع واهبها ومعطيها؟ كما نجد عند من يهمه ما أُعطي ولا يهمه مَن المعطي، أم أنّه ولّى وجهه بعدما أُعطي سؤله عن مولاه ولم يسئل حتى عن الحكمة في هذه الموهبة الإلهية والعطاء الإلهي النادر المثيل؟ كما نجد عند الفقير الذي تكون علاقته بالغني علاقة على قدر السؤال ومن ثمّ العطاء فيفرح ويشكر أو يُمنع فيتذمّر؟ أم أنّه لم يستغل وقت بشارة عظيمة كهذه ليتحدّث إلى بارئه فيزداد قرباً وحظوة عنده؟ كما نجد عند مَن لم يجرب عذوبة الحديث الإلهي ولم يذق حلاوة الكلام الرباني ولم يأنس بمناجاته سبحانه؟ كلا، وألف كلا فمثل هذا لا يليق بهذا العبد الذي قلّده الله سبحانه وسام العبودية وأغدق عليه الرحمة وذكره بالذكر العلي وحباه بالثناء الجلي في محكم قرآنه، وهذا وحده كافٍ للتعرف على شخصيته الفذّة الجليلة، ولكننا نجد أنّه بالإضافة إلى كل هذا أنّه سبحانه يصوّر لنا بعضاً ملامح شخصيته بمواقف تبدو للوهلة الأولى بسيطة، ولكننا أن دققنا النظر فيها قليلاً سنجدها عظيمة جليلة تستحق التأمل واستخلاص العبر. فنجده (ع) كما ينقل لنا القرآن الكريم أنّه أسوة وقدوة جديرة بالاقتداء، كما سيتبيّن لنا في السطور القادمة.   - المحور الثالث: علاقة زكريا (ع) بالناس: يعيش الإنسان المؤمن حياته متطلعاً للقاء ربه جاعلاً أيامه في هذه الدنيا سفراً إلى الحق تعالى وأعماله الصالحة قارباً ينقله إلى ساحل القرب الإلهي، فهو لا يرضى إلا حين يشعر بأن يومه أفضل من أمسه، وأن غده سيقرّبه أكثر من الحق تعالى، ولا يأنس إلا عندما يخلو بربّه فيحمده ويمجّده ويسبّحه ويقدسه ويبثّ له الآمه وشجونه، ويشكره على آلائه ونعمه، ويطلب منه العون والنصرة والفرج، ولكنه مع هذا كله لا يغفل عن عباد الله أمثاله، فهم رفقائه في هذا السطر إلى المولى الحق وهم نضرائه في الخلق – فهم مخلوقون معه لخالق أوحد بُغيتهم أن ينالوا رضاه – وهم معاونوه في البر والخير – فهو يبرّهم ويحسن إليهم لينال الدرجات العالية عنده سبحانه، وهو كلما وصل إلى درجة عالية إحتاج إليهم لأنّهم كثيراً ما يكونون وسيلة لإمتحانه ومن ثّم لترقّيه إلى درجات أعلى، وهم يحتاجون إليه أيضاً ليرشدهم ويهديهم ويعلّمهم ويدعو لهم. فهناك علاقة مترابطة متواصلة بين مخلوقيه جلّ وعلا. وهنا أيضاً نجده سبحانه وتعالى يخبر عن هذه العلاقة بقالب بليغ يحمل من المعاني الكثيرة العظيمة ما يحمل فتعالوا معي أيّها المؤمنون لنتوقف مع القرآن الكريم في عدّة لنستكشف بعض جوانب هذه العلاقة بين زكريا (ع) وقومه.   - المحطة الأولى: إطاعة الناس لزكريا (ع): يتعهّد الله سبحانه عبده المؤمن بكل أنواع التعهّد بشرط أن يكون عبداً وأن يخلص له سبحانه العبودية ومن هذا التعهد أن يكون مطاعاً من قبل الناس الذين يحيطونه حتى وإن لم يكونوا يعلمون بمقامه فتكون له الطاعة عليهم – بالإضافة إلى طاعة الموجودات الأخرى غير العاقلة – وهذا ما يلمّح إليه سبحانه ضمنياً عند الكلام عن البشارة فطلب زكريا من قومه أن يسبّحوا يُوحي بأنّهم سيطيعون، وإلا فإنّ هذا الأمر من زكريا سيكون عبثاً ولغواً إن كان هناك إحتمال المخالفة ثمّ إنّه يطلب هذا من قومه وليس من اتباعه ومريديه فقط، وهذا يؤكد ما قلناه آنفاً من طاعة مَنْ حوله له.   - المحطة الثانية: تعريف الناس بالنعمة: يولد الإنسان وهو غارق في نعم الخالق تعالى والذي لا تنقطع عطاياه في حال من الأحوال ولا تفتر في آن من الآنات وإلّا لإنتفى وجود هذا المخلوق الضعيف، المحتاج، الفقير في كل شيء إلى مولاه الحق. فنعمه تعالى متواصلة متواترة مترادفة مستمرة سواءً أحسّ بها هذا العبد أم لم يحس، شكرها أم كفرها وجحدها. ولكن نجد أن بعض هذه النعم لها طعم خاص يحس بها الإنسان بكل دقائق وجوده كنعمة الماء والإرتواء بعد طول الصدا، أو نعمة المطر بعد طول القحط، فهو إن كان على إتصال بمولاه، عارف لأولاه وأخراه، منتبه إلى حقيقة مصدرها – النعم – ومن أين تنبع فبها، وإن لم يكن كذلك وكانت له فطرة سليمة وعقل واعٍ فإنّه سيندفع ليتعرف على الواهب والمعطي ليؤدي له حقه من الشكر والثناء الجميل،وفي كلتا الحالتين يحسّ الإنسان أن سروره بهذه النعمة لن يكتمل وفرحته بها لن تتم إذا لم يؤدي هذا الشكر، لأنّ هذه المعادلة ستظل ناقصة (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى/ 11)، حيث ترشدنا هذه الآية إلى كيفية إستكمال هذه اللغة المعنوية ألا وهي النعم الإلهية التي لا تكتمل إلا إذا تحدّثنا بها للناس ليعلموا بنعمة الله علينا، وفي ضمن حديثنا نكون مادحين وشاكرين واهبها ومعطيها. وهذه النعمة التي يشير إليها سبحانه وتعالى في سرده لقصة زكريا (ع) هي واحدة من تلك النعم الإلهية والهبات الربانية التي وهبها سبحانه لعبده زكريا (ع) بعد كبر سنّه وعُقم زوجته، وهنا نجد أن سبحانه يرشدنا إلى أمرين في غاية الأهمية والحساسية في القدوة التي يُعرّفها لنا مستعرضاً لنا مواقفها الممتازة مؤكداً على النقاط المنيرة في هذه الشخصية العظيمة واضعاً اليد على مواطن القوة فيها: الأمر الأوّل: يشير سبحانه إلى بعدين في شخصية زكريا (ع). البعد الأوّل: التعلّم؛ فهو متعلّم بين يدي العالم المطلق يريد أن يتعلم منه كل شيء كل ما يقرّبه منه، فهو هنا يريد منه سبحانه أن يعلّمه كيف يشكر هذه النعمة العظيمة وكيف تظهر عليه آثارها كما يروى عن أبي عبدالله (ع): "إذا أنعم الله على عبد بنعمة أحب أن يراها عليه". فهنا يقول (ع): (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً...) (مريم/ 10 – آل عمران/ 41). البعد الثاني: التعليم؛ فهو معلم لقومه يريد أن يرشدهم إلى طريق الصلاح والنجاح وهو لا يألو جهداً ولا يتقاعس عن أداء مهمته وهو يريدهم أن يكونوا معه في تسبيحه وتقديسه عزّ وجلّ (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (مريم/ 11). الأمر الثاني: يقدم لنا سبحانه قدوة عملية ونموذجياً حياً للإنسان السائر إليه سبحانه، ماذا يعمل، وكيف يتصرف في كل حال من أحواله، وهذا ما أشرنا إليه سابقاً.   - المحطة الثالثة: النعمة الإلهية هنا لم تكن في رزقه لزكريا (ع) ولداً كأيّ ولد، بل هي رزق مميّز والفائدة التي ستكون من وراء هذا المولود لن تعود على أبويه فقط، بل ستعمّ قومه، ومن ثمّ البشرية أجمع. فهذا المولود المبارك يجب أن يُستقبل بالحفاوة والإشتياق من قومه فهنا يحضّرهم زكريا (ع) – معلمهم ونبيهم – لهذه الولادة الميمونة ويشوّقهم للسؤال عن سرّ هذه الدعوة لهم بالتسبيح بكرةً وعشياً، وإخباره إياهم بالرمز ووحياً، فهو يثير عندهم التساؤل، ويحفّزهم ويهيّأهم لإستقبال هذه المعجزة الربانية والرحمة الإلهية.   - المحطة الرابعة: السنخية بين النعمة وشكرها: هناك نقطة مهمة في مسألة الشكر وهي أن يعلم الإنسان كيف يشكر فإن لكل نعمة نوع خاص من الشكر، فشكر الله سبحانه على نعمة الأموال يكون بأن يصرفها الإنسان في الموارد التي حدّدها سبحانه وتعالى، ونعمة البصر في أن يستعملها في ما يرضيه سبحانه وتعالى ويتجنّب إستعمالها في ما يبغضه عزّ وجلّ، وهكذا، وهنا نجد أن شكر هبة الله سبحانه يحيى (ع) لزكريا (ع) وقومه، هي أن يسبّحوا الله بكرةً وعشياً، ولما كان هذا النوع من الشكر والتحضير لهذا المولود كان أمراً من الله سبحانه وتعالى لزكريا (ع)، وأمراً من زكريا (ع) لقومه – سواءاً قلنا أنّه من تلقاء زكريا (ع) أو أنّه أمر من الله سبحانه وتعالى بلّغه زكريا (ع) لقومه – فإن هذا يقودنا إلى التأمل في عظمة هذا المولود الذي يُستقبل بالتسبيح بكرةً وعشياً.   - إستنتاجات: حاولنا في ما سبق ذكر بعض الأمور التي يمكن أن يصل إليها الإنسان في تأمله للآيات القرآنية المباركة التي تسلّط الضوء على شخصية زكريا (ع)، وهنا توجد بعض الإستنتاجات التي قد تُستنتج من هذه الآيات التي تخصّ البشارة الإلهية لزكريا (ع) ومن ثمّ تبشيره (ع) لقومه، والله العالم. 1-       تذكر الآية أنّ الملائكة نادته وهو قائم يُصلي في المحراب (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ...) (آل عمران/ 39)، فتوحي عبارة (قائم يُصلي) أنها كانت صلاة الليل فكان هذا النداء الملائكي عند تهجّد زكريا (ع) في الليل. 2-       تكرّر لفظ المحراب في الآية التي أشرنا إليها أعلاه وفي الآية التي تخبرنا عن أمر زكريا (ع) قومه بالتسبيح (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ) (مريم/ 11)، يجر الذهن إلى الإعتقاد أنّه يُوجد تسلسل في هذه الأحداث وترتّبٍ في الأداء. 3-       أمر الله سحبانه وتعالى لزكريا (ع) بالتسبيح يقترن بأن يكون تسبيحه في العشي والإبكار (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ) (آل عمران/ 41)، مما يقوي النقطة الأولى بأنّ البشرى كانت في الليل بينما أمر زكريا (ع) لقومه كان بأن يسبحوا بكرة وعشياً (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (مريم/ 11). 4-       وجود الفورية في تنفيذ وتبليغ الأحكام الإلهية من قبل زكريا (ع) فهو حتى لم ينتظر حتى تكمل الأيام والليالي الثلاث فيستطيع أن يكلمهم بالصورة المعتادة بل كلّمهم وحياً وبالرمز، مما يوحي – بالإضافة إلى الفورية – بأهمية المسألة فكان خروجه من المحراب في صبيحة اليوم التالي من البشرى بقرينة (بكرةً) التي تقدمت على العشي عند الكلام عن القوم، ليأمرهم بالتسبح وعلى قاعدة أن كل ما يفعله هؤلاء العباد المنتجبون – الذين يذكرهم الله سبحانه في محكم كتابه الكريم – هو مرضي عنده سبحانه يجب أن نأخذ العبر والدروس عن مواقفهم ما صغر ودقّ وما عظم وجلّ على حدّ سواء. مهما يطول الكلام عن عباد الله المصطفين لا يزداد الإنسان إلّا شوقاً ورغبة فيه، فالكلام عنهم له حلاوة خاصة وفيه لذة عظيمة يستشعرها الإنسان فيجد روحه لا تعرف الملل ولا الكلل وقد تحدّثنا عن بعض ما يمكن لقارىء القرآن – المتأمل في معاني آياته وعظيم ما استودع فيها خالق الكونين وبديع السماوات والأرضين من أسرار وما خفي كان أعظم – أن يصل إلى كنهه على قدر ما تسعه أوعيتنا وتدركه أفهامنا تاركين مقامات أخرى لهذا العبد المكرّم – زكريا (ع) – لفرصة أخرى –آتية إن شاء الله –حيث أن هذا البحر لا ينضب وهو حي ينبض أمام كل من يقصده – ولما كان لكل كلام بداية ونهاية. في النهاية نختم هذا البحث الذي بدأناه كما بدأه القرآن الكريم نفسه عند الكلام عن زكريا (ع) بالكلام عن الصورة القرآنية للدعاء المستجاب بذكر بعض الأسباب للإستجابة الإلهية كما يذكرها القرآن الكريم: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء/ 89-90). نعم، هنا ثلاث مواصفات للنخبة المصطفاة يذكرها سبحانه بعد ذكر الإستجابة الإلهية فلنتأملها:   - الصفحة الأولى: المسارعة في الخيرات: فالأولياء المقربون لم يكونوا يكتفون بعمل الخير، بل كانوا يسارعون إليه فهم قد وطنوا نفوسهم على عمل الخير وعلموها الجد والاجتهاد في الطاعة وصبروها على مواجهة المكاره في هذا السبيل فهم يفرحون إن وجدوا من يقدمون له يد العون – مادياً أو معنوياً – ومن يستعين بهم يجدهم مسارعين هابين لندته غير مانين ولا راغبين عن عونه بل باذلين في ذلك الغالي والنفيس راجين بذلك وجه مولاهم (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) (الإنسان/ 9).   - الصفة الثانية: كيف يكون الداعي: الذي يتوجه إلى مولاه وهو عارف له مواظب على مناجاته مقبل عليه بروحه وبدنه لا يمل من مدحه وثنائه يدعوه ولا يدعو سواه بل لا توجد لذة في الدنيا تقاس إلى جانب لذة مناجاته لخالقه "جُعلت قرّة عيني الصلاة" كما في الحديث النبوي على قائله أفضل الصلاة والسلام فالدعاء الذي يكون مقروناً بالرغبة والرهبة يكون دعائاً ممن يعرف من يدعو وإلى من هو متوجّه بطلبته إلى القادر الجبار المتعال البر الرؤوف الرحيم... فهذا الدعاء يكون مستجاباً (بأحد أنواع الإستجابة: 1- التعجيل بقضاء الحاجة. 2- الذخر في الآخرة. 3- دفع بلاء أو إعطاء هبة بديلة إن لم تكن هناك مصلحة في إعطاء ما يطلبه الداعي) وهذه هي المقدمة التي لا تتخلف عنها نتائجها أبداً.   - الصفة الثالثة: الخشوع: صفة عظيمة يحس بها الإنسان تلازماً مع مقدار العلم الذي يحوزه فكلما كان الإنسان عالماً أكثر كان خاشعاً أكثر أمام الرب الخالق الحكيم المهيمن المحيي المميت... ومن العجيب أنّ هذه المعارف تزداد ترعرعاً في النفس الإنسانية كلما ذكرها الإنسان ورددها وفكر بها أكثر ولهذا نجد أنّ الدعاء المستجاب – كما تذكر لنا الروايات – يجب أن يبدأ بحمد الله سبحانه وتمجيده وتقديسه وهنا يحس الإنسان بالخشوع أمام هذا الرب الجليل العظيم فإذا حصل الخشوع كان علامة على حصول الإرتباط بين العبد ومولاه وإذا حصل الإرتباط فاض العطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ. يتبع...   المصدر: مجلة الكوثر/العدد 26 لسنة 2012م

ارسال التعليق

Top