• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

فليكن المؤمن عزيزاً

د. أحمد الشرباصي

فليكن المؤمن عزيزاً

"العزة" كلمة فيها معنى القوّة والشدة والغَلَبة، والعزيز: هو الغالب لسواه، ولذلك عرّف القدماء العزة بأنّها صفة مانعة للإنسان من أن يغلبه غيرُه، وكلمة "العزة" مأخوذة من قول العرب: أرض عَزَاز، أي صلبة، ويقال: عزَّ فلان، إذا برئ وسلم من الذل والهوان، والمادّة كلّها توحي بمعاني القوّة والشدّة والارتفاع والامتناع، فيقال: عزّني فلان، أي غلبني، ومنه قول القرآن الكريم: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) (ص/ 23). ويقال: عزّ على نفسي غيابُك، أي صعب، ومنه قول القرآن: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) (التوبة/ 128)، ويقال: عزَّ الوفاءُ بين الناس، أي قلَّ وجوده، ومنه قول القرآن: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) (فصلت/ 41) أي يصعب مناله ولا يوجد مثاله.

ومن أوصاف الله تعالى وأسمائه: "العزيز" أي الغالب القوي، الذي لا يغلبه شيء، وهو أيضاً "المعز" الذي يهب العزة لمن يشاء من عباده، وقد تكرر وصفُ الله تعالى بوصف "العزيز" في القرآن ما يقرب من تسعين مرّة.

وقد أشار كتاب الله المجيد إلى أنّ العزة خُلُق من أخلاق المؤمنين التي يجب أن يتحلوا بها، ويحرصوا عليها، فقال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون/ 8)، وقال عن عباده الأخيار: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة/ 54)، وقال: (مُحمَّدٌ رَّسُول اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح/ 29). والشدّة على الكافرين تستلزم العزة وقال: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) (آل عمران/ 139). وهذا يقتضي أن يكونوا أعزاء.

وهذه الآية الأخيرة تُفهمنا أنّ كتاب الله جلّ جلاله يعلِّم المؤمنين (إباءَ الضيم)، وهو خُلُق يفيد معنى الاستمساك بالعزة والقوّة، والثورة على المذلة والهوان، وإذا كنّا قد عرفنا أنّ القرآن قد كرر وصفَ ذات الله القدسية بصفة "العزيز" ما يقرب من تسعين مرة، فكأنّه أراد بذلك ـ وهو أعلم بمراده ـ أن يملأ أسماعَ المؤمنين بحديث العزة والقوّة، فإذا ما سيطر عليهم اليقينُ بعزة ربّهم استشعروا القوّةَ في أنفسهم، واعتزوا بمن له الكبرياء وحده في السماوات والأرض، وتأبوا على الهوان حين يأتيهم من أي مخلوق، وفزعوا إلى واهب القُوَى، يرجونه أن يُعزّهم بعزته، وكأنّ الله عزّوجلّ قد أراد أن يؤكد هذا المعنى في نفوس عباده حين جعل كلمة "الله أكبر" تتردد كلّ يوم في أذان الصلاة مرّات ومرّات، ثم يرددونها في صلواتهم كلّ يوم مرّات ومرّات، فتشعرهم بأنّ الكبرياء لله جلّ علاه، وأنّ عباده يلزمهم أن يلتمسوا العزةَ من لدنه، وأن يستوهبوا القوّة من حماه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) (فاطر/ 10)، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 26).

ولقد أراد القرآن المجيد أن يَهدي المؤمنين إلى الطريق الذي يصون لهم العزة، ويحصنهم ضد الرضا بالهوان، أو السكوت على الضيم، فأمرهم بالإعداد والاستعداد لحفظ الكرامة والذود عن العزة، فقال لهم: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال/ 60) لأنّ القوّة تجعل صاحبَها من موطن الهيبة والاقتدار، فلا يسهل الاعتداءُ عليه من غيره من الضعفاء.

وعلّمهم القرآن الإقدامَ والاحتمال والثبات في مواطن اليأس، موقنين أنّ الله معهم، فقال لهم: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء/ 104).

وفي موطن آخر يقول لهم: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمّد/ 35).

وليس هذه دعوةً إلى بغي أو طغيان، وإنما يعوّد القرآن أتباعَه أن يكونوا أوّلاً على حيطة وحذر، فيقووا أنفسهم بكلّ وسائل التقوية والتحصين، حتى يكونوا أصحابَ رهبة في نفوس أعدائهم، وإلّا تطاولوا عليهم وعصفوا بهم، ومن هنا قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء/ 71)، ويقول: (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النساء/ 102)، ويقول: (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) (النساء/ 102).

وإذا شاءت الأقدار يوماً أن يلتقي المؤمنون في معركة مع الكافرين، فالواجب حينئذ على كلّ مؤمن أن يظل عزيزاً قوياً، وأن يثبت على مبادئه وعقائده، لا يخيفه الألمُ ولا التعب، بل يبذل جهدَه وطاقته، مستخدماً كلّ ما أعده قبل ذلك من سلاح وعتاد، واثقاً أنّه مربوط الأسباب بالله القوي القادر؛ وإذا شاء الله تعالى له لوناً من ألوان الاختبار والابتلاء، تحمله راضياً صابراً، محتفظاً بعزته وكرامته وشهامته، موقناً بأنّ احتمال الألم خيرٌ ألفَ مرة من التخاذل والاستسلام: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 155-157).

والإسلام ـ مع هذا ـ يدعو أتباعه إلى السلام العادل المنصف، الذي لا ينطوي على ضيم أو ذل، ويدعوهم أن يغفروا الهفوة إذا كانت عن غير تعمد أو كانت لا تبلغ مبلغَ الإهانة، أو لا تخدش العزةَ والكرامة، أما إذا كانت الخطيئة بغياً فعلاجُها الردّ عليها بما يغسل العار، ويدفع الضيم، ويصون الكرامة، ولذلك يقول التنزيل المجيد: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى/ 39-42).

ولم يكتفِ القرآن العزيز بتحريض المؤمنين على إباء الضيم وإيثار العزة تحريضاً يقوم على الأمر الصريح أو التوجيه المباشر، بل عمد إلى ضرب الأمثال من الأُمّم السابقة التي استجابت لدعوات الحقن وتابعت رُسلَ الله جلّ جلاله، واستشعرت العزةَ، وتمردت على المذلة، فكان جزاؤها كريماً، وثوابها عظيماً، حيث خاضت المعارك من أجل عقيدتها، ومبدئها، ولم تَهِن أو تضعف، بل صبرت وصابرت، وكافحت وناضلت، حتى ظفرت وانتصرت، وذلك فضل الله القوي الذي يحبّ الأقوياء الشرفاء، العزيز الذي ينصر مَن استمسك بالعز والإباء، يقول القرآن: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 146-148).

وفي نور النبوة الرائع ما يهدي أتباع محمّد (ص) إلى منهج الشرف وطريق الكرامة وصراط العزة، فإنّ هذا الهدي النبويّ الكريم يعلم الإنسان أن لا يرضى الدنية في دينه ولا في دنياه، بل يحفظ لنفسه حقّها ويذود عن هذا الحقّ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإن مات دونَهُ فهو شهيد، وإن فاز وانتصر عاش عيشةَ الأحرار، وباء أعداؤه بالسعير وبئس القرار.

جاء رجل إلى رسول الله (ص) وقال له: يا رسول الله، أرأيتَ إن جاء رجل يريد أخذَ مالي (أي اغتصاباً). قال الرسول: "لا تعطيه". قال الرجل: أرأيتَ إن قاتلني؟ قال الرسول: "قاتله". فقال الرجل: أرأيت إن قتلني؟ قال الرسول: "فأنت شهيد". فقال الرجل: أرأيتَ إن قتلتُه؟ قال الرسول: "هو في النار".

ولقد تردد في سُنة الرسول (ص) صوتُ الدعاء إلى العزة وإباء الضيم، فقال: "مَن تضعضعَ لغنيٍّ لينال مما في يده أسخطَ الله".. وفي رواية: "مَن جلس إلى غني فتضعضع له الدنيا تصيبه ذهب ثلثا دينه، ودخل النار".. وقال: "اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس، فإنّ الأمور تجري بالمقادير".. وقال: "إنّ الله يحب معاليَ الأمور ويكره سَفسافَها".. وقال: "مَن أعطى الذلة من نفسه طائعاً غير مُكرَه فليس منا".

والعزة ليست تكبراً أو تفاخراً، وليست بغياً أو عدواناً، وليست هضماً لحق أو ظلماً لإنسان، وإنما هي الحفاظ على الكرامة، والصيانة لما يجب أن يُصان، ولذلك لا تتعارض العزة مع الرحمة، بل لعلّ خير الأعزاء هو مَن يكون خيرَ الرحماء، وهذا يذكّرنا بأنّ القرآن الكريم قد كرر قوله عن ربّ العزة: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء/ 9) تسع مرّات في سورة الشعراء، ثم ذكر في كلّ من سورة يس والسجدة، والدخان وصفَي: (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء/ 9) مرّة.

ثمّ إنّ أغلب المواطن التي جاء فيها وصفُ الله باسم "العزيز" قد اقترن فيها هذا الاسم باسم "الحكيم". والحكيم هو الذي يوجد الأشياء على غاية الإحكام والضبط، فلا خلل ولا عيب.

وكما تكون العزة خُلُقاً كريماً ووصفاً حميداً، إذا قامت على الحقّ والعدل واستمدها صاحبُها من حمي ربّه لا من سواه: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (النساء/139).. تكون العزة الكاذبة أو الضالة خلقاً ذميماً حين تقوم على البغي والفساد، ومن ذلك النوع قوله الله تعالى: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) (ص/ 2) فعزة الكافرين تعزز كاذب، ولذلك جاء في الحديث: "كلّ عز ليس بالله فهو ذل". ومن ذلك أيضاً قوله تعالى عن بعض الضالين: (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ) (البقرة/ 206) والعزة هنا مستعارة للحمية الجاهلية والأنفة الذميمة، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (مريم/ 81) أي يحاولون التمنع بهم من العذاب: وهيهات، وهيهات.

ورضوان الله على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) حين أراد أن يوطد في نفس أبي ذر الغفاري قواعدَ العزة، عندما أرغمه بعضُ حكّام عصره على شدة تعرّضه لها، فقال: "يا أباذر، إنّك غضبتَ لله فارجُ مَن غضبت له، إنّ القوم خافوك على دنياهم، وخفتَهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب بما خفتَهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عما منعوك، وستعلم مَن الرابحُ غداً، والأكثرُ حُسَّداً، ولو أنّ السماوات والأرض كانتا على عبد رَتقاً، ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً، لا يؤنسنك إلّا الحقّ، ولا يوحشنك إلّا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبُّوك، ولو قرضت منها لأمِنُوك". أي لو ذللتَ ونلت من متاع الدنيا لما خافوك.

إنّ العزة ميراث المؤمن، فليحرص كلّ مؤمن على ميراثه.

ارسال التعليق

Top