أ. د. عبدالحميد أحمد أبو سليمان
المسلمون الذي مايزال ولاؤهم لشريعة النور، ورسالة الإسلام التي حفظها القرآن الكريم، والتي ما تزال ساكنة ومستقرة في قلوبهم، وما تزال نفوسهم متمنية أن تجد القدرة على التلبس بها، فإنّ نفوسهم قد توزعت بين أمرين أوّلهما بين ما يسكن في قلوبهم وضمائرهم من قيم ومبادئ سامية، ويجعل المادة لديهم وسيلة لغاية خيِّرة أعظم تتمثل في السعي بالحق والعدل، وتجسيد ذلك في واقع الحياة، واستخدام الحياة والطين والمادة وسيلة إلى تحقيق معاني النور وقيمه وغاياته ومقاصده الروحانية العليا، وتجسيدها، فيسمو الإنسان بذاته وبالمادة وتكون المادة حينئذٍ وسيلة نورانية خيِّرة، هذا من ناحية، وثانياً بين ما تنزع إليه نفوسهم – وعلى شاكلة فكر الغرب ومفاهيمه – من الرغبة في الحصول على الوفرة المادية المعيشية التي تدفع إليها حاجة الجسد الطيني ونوازعه الحيوانية وما يصحبها من المتعِ والراحةِ من ناحية، ولكن جهودهم بسبب غبش الرؤية بشأن منطلقاتهم وغايات شريعتهم بشأن المادة، وهل هي وسيلة أم غاية؟ لذلك كانوا تلاميذ فاشلين في تتلمذهم على الغرب دون إرادة أو عزم على غير حال أمم أخرى كاليابان وتتلمذت بعدهم ولذلك ما يزال سعي المسلمين حتى اليوم في تحقيق التقدم المادي يمنى بالفشل، وما تزال شعوبهم لا تستجيب، ولا تتحرك فيها كوامن العزم والطاقة؛ لأنّه لابدّ من وضوح رؤية هذه الشعوب في أمر المادة من منطلق الإسلام في أنها وسيلة ضرورية لتحقيق الغايات الروحية العليا من خلال المادة والوجود والعيش الحياتي المادي.
ولو أننا فهمنا ذاتنا ومنطلقاتنا وبناء ضمائرنا، وعرفنا المفاهيم والمنطلقات التي تحرك وجداننا، لأدركنا أنّ الضمير المسلم لا يمكن أن يقبل بالمادة والحاجة المعاشية لتكون غاية له، ولذلك نجد المسلم على الرغم من غبشه العقدي والفكري، وعلى الرغم من إقباله على تقليد الغرب في سعيه وتعلقه بالمادة وجعله الحاجة المعاشية المادية – تقليداً للغرب – غاية له، إلا أنّه يظل – بحكم تكوين ضميره – غير مقتنع بأنّ المادة هي الغاية، ولا يمكن للأُمة المسلمة أن تجعل المادة في أي يوم من الأيام غاية للحياة – وإن كان لابدّ منها للحاجة المعاشية – وذلك لأنّها ليست أصلاً في عقيدة المسلم وضميره وغاية وجوده؛ ولذلك كان الإنسان المسلم وسيظل فاتر العزم، متردداً في متابعة الغرب وتقليده، مما أفشل وسيستمر يُفشل مساعي نهضته وجديته في الإنتاج والإبداع لأنّه لا قوة ولا عزم دون رؤية واضحة وغاية محددة.
ومن الواضح هنا أنّ المسلم إذا أراد النهضة وحمل الرسالة يجب أن يكون أكثر جدية في تعامله مع المادة والأخذ بأسبابها، لتحقيق قيم الخير وغاياته، وتجسيدها في رحلة الحياة؛ لأنّه دون المادة لا يمكن تحقيق تلك الغايات، ولا تجسيد تلك المقاصد والقيم، والمادة حين تجسد معاني الخير والحق والجمال وشريعة النور فإنها تسمو وتصبح خيراً ونعمة ورقيّاً وتقدماً، أما إذا أصبحت غاية في حدِّ ذاتها، وأصبحت تجسيداً لغايات شريعة الغاب والظلم والعدوان والعنصرية والشرك والإلحاد فإنها تكون عند ذلك في الحقيقة ظلماً وشرّاً وفساداً في الأرض، وخداعاً وسراباً وهوىً وشهواتٍ، يقول الله تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة/ 148)، (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) (النساء/ 66)، (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ/ 13)، (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 3).
ويقول الله عزّ وجلّ: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77)، (وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) (المزمل/ 20)، (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة/ 215)، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا) (آل عمران/ 30)، (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ) (الإسراء/ 35).
ويقول الله عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) (البقرة/ 172)، (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) (النحل/ 114)، (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ) (الأعراف/ 32-33)، (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ) (النازعات/ 31-33)، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) (إبراهيم/ 32-33)، (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان/ 20)، (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال/ 26)، (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) (يس/ 35)، (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).
فإذا أراد المسلم أن ينجح في السباق الحضاري للأُمم فإنّه لابدّ له من أن يفهم منطلقاته العقدية دون غبش، وأن يتعامل مع المادة والحاجة المعيشية بصفتها وسيلة من أجل تحقيق غايته الروحانية الأبدية الكبرى في بناء حضارة الحق، وتجسيد مجتمع التعاون والعدل والفضيلة والتكافل الإنساني الصادق، وإلا فإنّه لن يستطيع أن يأخذ الحياة مأخذ الجد، ولن يكون خليفة مُصْلِحاً مبدعاً، ولن ينجح في مسعاه في هذا السباق الأممي، ولن يفلح في بناء حضارة الحق، وتمكين شريعة النور، وتحقيق عيش الأتقياء القادرين الشرفاء.
المصدر: كتاب الإنسان بين شريعتين (رؤية قرآنية في معرفة الذات ومعرفة الآخر)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق