• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ظاهرة العنف.. محاولة للفهم والتفسير

زكي الميلاد

ظاهرة العنف.. محاولة للفهم والتفسير
ظاهرة العنف لا تتحدد بزمن معيّن أو بهويّة محددة. علماء النفس وعلماء الاجتماع وعلماء السياسة وعلماء التربية والأخلاق تناولوا دراسة هذه الظاهرة. العنف بحسب صورته العامة ينقسم إلى فردي وجمعي وحكومي. والعنف بحسب مجاله ينقسم إلى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي. بحسب مشروعيته ينقسم إلى عنف مشروع وغير مشروع. عوامل العنف: اجتماعية واقتصادية ودينية وايديولوجية وسياسية وعسكرية.   -       طبيعة العنف: العنف ظاهرة قديمة ومعقدة ومركبة، وقد ارتبطت هذه الظاهرة بالاجتماع الإنساني في كافة مراحله وأطواره، القديمة والحديث والمعاصرة، وفي مختلف التقسيمات الأخرى، التي وضعتها العلوم الاجتماعية والإنسانية لتطور وتحول الاجتماع الإنساني، ومهما تعدّدت وتباينت الملامح والمكونات الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الاجتماع الإنساني، ومهما اختلفت وتباينت الملامح والمستويات المدنية والحضارية. فظاهرة العنف لا يمكن أن تتحدّد بزمن أو بعصر معيّن، فقد كانت لها تشكلات في جميع الأزمنة والعصور. ولا يمكن أيضاً أن تتحدّد بدين أو عقيدة خاصة، فقد ارتبطت بجميع الديانات من حيث الانتساب البشري، وكانت لها تشكلات في المجتمعات اليهودية والمسيحية والإسلامية. كما لا يمكن أن تتحدّد بثقافة أو هوية محدّدة، فقد كانت لها تشكلات في مختلف الثقافات والهويات. وهكذا من جهة تباين المستويات الحضارية والمدنية، فالعنف ليس ظاهرة خاصة بالمجتمعات غير المدنية أو الأقل تمدناً، فهو يمثّل ظاهرة حتى في المجتمعات التي توصف بالتمدن والتحضّر. لكن الذي يختلف بين هذه التقسيمات والتصنيفات، هو صور التعبير عن العنف، وطبيعة أنماطه السلوكية، ونوعية المسوغات التي تبرز له، أو تكسبه مشروعية، أو تحدّد له مصلحة. وليس المقصود من هذا التصوير والإطلاق، إعطاء العنف صفة التحكم والبقاء، أو التبرير له بأي صورة كانت. وإنما المقصود تجريد العنف من أي صفة ثابتة تلصق به أو تتلازم معه، فالعنف لا دين له ولا هوية ولا ثقافة، ولا حتى مدنية. هذا من حيث أنّ العنف ظاهرة قديمة.   -       ظاهرة العنف والعلوم الاجتماعية: لقد توقفت العلوم الاجتماعية والإنسانية كثيراً أمام ظاهرة العنف، دراسةً وتوصيفاً وتحليلاً. دراسة لمعرفة كيف تنشأ هذه الظاهرة وتتطور وتتجذر، وتوصيفاً لمعرفة كيف تنشأ هذه الظاهرة وتتطور وتتجذر، وتوصيفاً لمعرفة ملامحها وأنماطها وصورها، وتحليلاً لمعرفة عناصرها ومكوناتها ومنطقها الداخلي. وقد عكست هذه العلوم خبرتها المعرفية والمنهجية في التعامل مع هذه الظاهرة، التي فرضت وجوداً يستدعي الاهتمام بها بدرجة عالية، بسبب حساسيتها وخطورتها من جهة، وبسبب آثارها وتداعياتها من جهة أخرى. ولأنّ العنف ظاهرة قابلة للإنقسام والتعدّد من حيث توصيفاتها وأنماطها، فقد خضعت هذه الظاهرة إلى دراسات وتحليلات عديدة بحسب تعدّد العلوم الاجتماعية والإنسانية، فعلماء النفس حاولوا دراسة هذه الظاهرة من ناحية نفسية، باعتبار أنّ العنف في نظرهم يمثّل سلوكاً عدوانيّاً، له دوافعه النفسية الغريزية أو المكتسبة. الغريزية كالغضب والانفعال، والمكتسبة وهي تلك المؤثرات المتراكمة التي يتعرض إليها الفرد في داخل بيئته الأسرية أو بيئته الاجتماعية، فالإنسان الذي يتعرض إلى العنف باستمرار، أو يعيش في بيئة يمارس فيها العنف، تكون له قابلية أكبر في أن يصدر منه سلوك عنيف. وعلماء الاجتماع حاولوا دراسة هذه الظاهرة من ناحية اجتماعية، باعتبار أنّ العنف يمثّل ظاهرة اجتماعية تأثراً وتأثيراً، وليس مجرد ظاهرة فردية. تأثراً من حيث الدواعي والمسببات، وتأثيراً من حيث النتائج والتداعيات. وعلماء السياسة حاولوا دراسة هذه الظاهرة أيضاً، باعتبارها ظاهرة سياسية، ترتبط بمفهوم السلطة من حيث التأثير عليها، أو من حيث العمل على الوصول إليها. وهكذا علماء القانون، حاولوا دراسة هذه الظاهرة باعتبارها تتصف بسلوك يتجاوز القانون، ويعتدي على حرمة النظام العام. بالإضافة إلى علماء التربية والأخلاق، الذين حاولوا دراسة هذه الظاهرة باعتبارها تتسبب في إيذاء الآخرين والإضرار بهم، ولأنها تنطلق حسب رؤيتهم من دوافع عدوانية، وتتشكل في سلوك عدواني يتناقض مع قيم التربية في بناء الإنسان الصالح، ومع قيم الأخلاق في تهذيب النفس وإصلاحها. لهذا ينبغي الاستفادة من خبرات هذه العلوم ومعارفها ومنهجياتها في طرائق النظر لهذه الظاهرة، وأساليب التعامل معها، وفي فهمها وتوصيفها وتفسيرها. وهذا من حيث أنّ العنف ظاهرة معقدة.   -       مركب ظاهرة العنف: العنف ظاهرة مركبة من ثلاثة عناصر متصلة ومترابطة. العنصر الأوّل ويتصل بعالم الأفكار، العنصر الثاني ويتصل بالبيئة الاجتماعية التي يتولد فيها العنف، العنصر الثالث ويتصل بالنشاط السلوكي للعنف. ولا يمكن أن نفهم ظاهرة العنف بدون النظر إلى هذه العناصر بصورة مركبة ومتصلة فيما بينها، أما النظر إليها بصورة أحادية ومفكّكة، فإنّه لا يساعد على تكوين فهم ناضج وعميق لهذه الظاهرة. فعالم الأفكار هو العنصر الخفي لكنه الأكثر جوهرية في معرفة المنطق الداخلي لظاهرة العنف، بالأفكار هي التي تقوم بدور تشكيل المسوغات، وبناء القناعات، وإضفاء الشرعية على هذا النط من السلوك. وبهذا اللحاظ يمكن القول أنّ العنف ظاهرة فكرية، تعبّر عن نفسها في نشاط سلوكي، يتصف باستخدام وسائل القوة، وهذه القوة تصبح المظهر الخارجي، في حين تصبح الأفكار هي المعبرة عن المظهر الداخلي لهذه الظاهرة. والبيئة الاجتماعية بحسب طبيعتها وملامحها ومكوناتها، هي التي تساهم في توليد البواعث والمحرضات الحسية، وخلق الانطباعات والصور الذهنية المحركة لهذا السلوك. والأفكار لوحدها لا تكون مؤثرة، ولا تتحول إلى ظاهرة سلوكية إذا لم تجد ما يبرر لها، ويحفز عليها من داخل البيئة الاجتماعية. وبمعنى آخر: إنّ الأفكار لا تكتسب قوة التأثير إلا إذا اتصلت بسياق تتفاعل معه، وبدون هذا السياق لا تتحول الأفكار غالباً من عالم النظرية إلى عالم السلوك، أو من عالم القوة إلى عالم الفعل بحسب اصطلاح أهل المنطق. والبيئة الاجتماعية هي التي تشكل السياق الذي يحرّض تلك الأفكار لأن تتحوّل إلى نشاط سلوكي، وإلى ظاهرة تنزع نحو العنف واستعمال وسائل القوة، لأنّ العنف ظاهرة ليست طبيعية مؤتلفة أو حتى مقبولة، لهذا فهي بحاجة إلى ما يبرز لها، ويحرّض عليها، ويكسبها قدراً من المشروعية، ولا يتحقق ذلك إلا بواسطة مجموعة من الأفكار، إلى جانب ما يصدّق هذه الأفكار من البيئة الاجتماعية، على صورة وقائع وظواهر تتصف بالانتقائية والتوظيفية، وتفسر بحسب تلك الأفكار وطبيعة منطقها الداخلي، الذي لديه الاستعداد لتقبل هذا النوع من النشاط والتبرير له. والنشاط السلوكي للعنف تتحدّد صورته ونمطيته بحسب طبيعة الأفكار المكوّنة له من جهة، وبحسب طبيعة البيئة الاجتماعية التي يتولد منها ويظهر فيها من جهة أخرى. وباختلاف هذه البيئات الاجتماعية قد تختلف أو تتعدّد صور ظواهر العنف وأنماطها. ويمكن أن تتحد هذه الظواهر أو تتقارب من جهة عالم الأفكار، لكنها تختلف وتتعدّد من جهة اختلاف وتعدّد البيئات الاجتماعية. فالصورة التي ظهر عليها في مصر، هي غير الصورة في المجتمعات الأخرى. والاختلاف بين هذه الصور والأنماط ليس ناشئاً من اختلاف عالم الأفكار فحسب، بقدر ما هو ناشئ من اختلاف طبيعة البيئات الاجتماعية وتركيبتها الثقافية والسياسية والاقتصادية والجغرافية. وهذا التحليل يصدق فقط على عنف الجماعات وليس عنف الأفراد، وعلى العنف المنهجي أو المنظم وليس على العنف العفوي أو الطارئ. وهذا يعني أنّ العنف ظاهرة مركبة، وليس ظاهرة بسيطة بحسب اصطلاح أهل الفلسفة حين يتحدثون عن المركب والبسيط، ويقصدون بالمركب كل ما يتكوّن من أجزاء منفصلة ومتصلة يتوقف بعضها على الآخر توقفاً ضرورياً، أما البسيط فيقصدون منه ما لا يتركب من أجزاء تشعر بالحاجة والنقص.   -       أنماط العنف: هناك تقسيمات عديدة لصور وأشكال وأنماط العنف. فتارة يقسم بحسب صورته العامة، ومن هذه الجهة يقسم العنف إلى ثلاثة أقسام: العنف الصادر من الأفراد، والعنف الصادر من الجماعات، والعنف الصادر من الحكومات. وتارة يقسم بحسب مجاله، ومن هذه الجهة يقسم العنف إلى أقسام عديدة، منها العنف الاجتماعي كالعنف الذي يمارس ضد المرأة مثلاً، ومنها العنف الاقتصادي كعنف الجرائم المنظمة الذي ينطلق بسبب دوافع مالية وتجارية، ومنها العنف الثقافي كالعنف الذي يمارس بسبب حرية التعبير، ومنها العنف السياسي كالعنف الذي يمارس بسبب المطالبة بالحريات العامة.. إلى غير ذلك. وتارة يقسم بحسب المشروعية، ومن هذه الجهة يقسم إلى عنف مشروع وعنف غير مشروع. وتارة يقسم العنف بحسب زمنه، ومن هذه الجهة يقسم إلى عنف عفوي أو طارئ كالذي يحدث بسبب ارتفاع الأسعار مثلاً: وإلى عنف منظم ومستمر. وتارة يقسم العنف بحسب الهويات الدينية والثقافية، فيقال عنف يهودي، أو عنف مسيحي أو عنف إسلامي، من جهة انتماء الأشخاص وليس الدين. وتارة يقسم العنف بحسب الدول والقوميات، فيقال عنف جزائري مثلاً، أو عنف باسكي نسبة لإقليم الباسك بين إسبانيا وفرنسا. وهكذا بحسب الطوائف والجماعات إلى غير ذلك من تقسيمات.. وتكشف هذه التقسيمات عن مدى اتساع وانتشار ظاهرة العنف بين الدول والمجتمعات والهويات والثقافات، وكيف أنّ العنف لا مكان له ولا زمان، ولا حتى هوية ولا دين ولا وطن. كما تكشف أيضاً عن تعدّد الأسباب والخلفيات المباشرة وغير المباشرة، الأولية أو الثانوية في تشكل هذه الظاهرة. وتكشف من ناحية ثالثة عن تزايد الاهتمام بهذه الظاهرة، وتوجه الأنظار إليها على نطاق واسع. لهذا ينبغي أن نحدّد العنف الذي نقصده بالحديث، لكي تتحدّد لنا الظاهرة بصورة يمكن ضبطها وتشخيصها، وتوصيفها بدقة ما أمكن، لا أن نتعامل معها بطريقة تتصف بالاختزال والإطلاق والتعميم. والضبط والتحديد هو من شرائط ومقتضيات التحليل العلمي والمنهجي، خصوصاً وأننا أمام ظاهرة لها قابلية التعدّد والانقسام، والتشكل في صورة وأنماط مختلفة.   -       نظريات واتجاهات في التفسير والتحليل: بعد تلك المقدمات النظرية نقترب من جوهر القضية التي نحاول أن نشتغل عليها تفسيراً وتحليلاً بواسطة عوامل واتجاهات متعددة. وفي البدء لابدّ من القول بأنّ العنف الذي نقصده بالحديث هنا هو عنف الجماعات وليس الأفراد. وتحديداً عنف الجماعات السياسية والدينية التي ظهرت في العالم العربي والإسلامي. وذلك لمعرفة كيف تحوّل العنف إلى سلوك في هذه الجماعات؟ أو كيف تقبّلت هذه الجماعات اتخاذ العنف سلوكاً لها في نشاطها وحركتها؟ فهل هذا السلوك كان باختيارها وإرادتها؟ أم أنها أكرهت عليه، أو اندفعت نحوه نتيجة ظروف ووضعيات مرت بها؟ وبعبارة أخرى هل إنّ العنف هو من طبيعة هذه الجماعة التي اتخذت منه سلوكاً؟ أم أنّه جاء نتيجة تحولات مرّت بها هذه الجماعات؟ والمقصود بالسلوك هنا ليس السلوك الطارئ أو العفوي الذي يزول بسرعة بزوال السبب أو الظروف المتصل به. وإنما السلوك الذي يمتزج بالرؤية السياسية والثقافية في هذه الجماعات. ومن تلك المقدمات النظرية، يتأكد لنا ضرورة دراسة ظاهرة العنف، ليس بطريقة أحادية أو بالاعتماد على عامل واحد فحسب، مهما كانت قوة هذا العامل وفاعليته، وإنما بطرائق وعوامل مختلفة ومتعدّدة، لكي نتمكن من الإحاطة بفهم وتفسير هذه الظاهرة المعقدة والمركبة. وفي هذا المجال يمكن تطبيق ثلاثة عوامل أساسية، هي: 1- العامل الاجتماعي والاقتصادي. 2- العامل الديني والأيديولوجي. 3- العامل السياسي والعسكري. وكل واحد من هذه العوامل يفسّر جانباً أساسياً لظاهرة العنف في الجماعات، وكيف يتحوّل العنف إلى سلوك في هذه الجماعات.   -       أوّلاً: العامل الاجتماعي والاقتصادي: يحاول هذا العامل أن يقدم تفسيراً لظاهرة العنف من جهتين، من جهة عامة، ومن جهة خاصة. من جهة عامة وترتبط بالبيئة الاجتماعية التي تكوّنت فيها ظاهرة العنف، وعلاقة هذه الظاهرة بطبيعة التكوينات الاجتماعية والاقتصادية في تلك البيئة، وذلك لمعرفة وتحديد نوعية المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية، وحجمها ووزنها في التأثير على تلك الظاهرة. ومن جهة خاصة وترتبط بظاهرة العنف نفسها باعتبارها تمثّل ظاهرة اجتماعية، وترتبط بمفهوم الجماعة أو الجماعات. بمعنى أن من ينتهجون مثل هذا السلوك يتشكلون في أنماط جماعية. والبحث من هذه الجهة يتصل في محاولة تفسير هذه الظاهرة والكشف عنها، بتطبيق المنظور الاجتماعي والاقتصادي عليها. وفي نطاق هذا العامل الاجتماعي والاقتصادي، هناك العديد من النظريات التي حاولت أن تقدّم تفسيرات وتحليلات وحتى استشرافات لظاهرة العنف. الظاهرة التي انتشرت وتوسعت بشكل فادح وخطير للغاية. ومن بين هذه النظريات، سوف أكتفي بالحديث عن ثلاث منها، قد تكون من أهم النظريات التي يرجع إليها المشتغلون في الدراسات الاجتماعية، والمطبقة في هذا الشأن. النظرية الأولى: هناك من يرى أن ظاهرة العنف لها علاقة بطبيعة التكوين الاجتماعي الذي يتصل بجانب السن. وحسب هذه النظرية أنّ العنف يظهر عند الجماعات التي يغلب عليها أو على زعامتها الجيل الشاب. ويستدل على ذلك بأدلة حسية وموضوعية من الواقع التطبيقي، تفيد بأنّ معظم الجماعات التي سلكت نهج العنف هي جماعات شابة من حيث تكوينها البشري. وهذا يصدق على معظم الجماعات التي ظهرت في العالم العربي. وتعضد هذه الأدلة بتحليلات تفيد أن بعض الجماعات تجاوزت وتخلّت عن مسلك العنف حينما تجاوزت مرحلة التكوين الشبابي. وذلك باعتبار أن مرحلة الشباب هي المرحلة التي يغلب عليها الحماس والاندفاع، وسرعة الانفعال، وعدم تقدير المواقف والأمور بعقلانية هادئة وبنظر بعيد. النظرية الثانية: وهناك من يرى أنّ ظاهرة العنف لها علاقة بطبيعة التكوينات الاجتماعية التي تتصل بجانب نوعية البيئة. وحسب هذه النظرية فإنّ العنف يظهر غالباً عند الجماعات التي تنتمي إلى بيئات تتصف حياتها العامة بالقسوة والخشونة، كالبيئات التي لها تكوينات صحراوية أو جبلية. وتزداد القناعة بهذا الرأي عند الدارسين إذا صاحب تلك البيئات انخفاض وتراجع في مستويات التمدن العام. ولهذا يقال أنّ العنف في مصر ظهر في المناطق القبلية أكثر من المناطق البحرية لهذا السبب. وهكذا الحال في مناطق أخرى كالجزائر وأفعانستان. النظرية الثالثة: وحسب هذه النظرية فإنّ ظاهرة العنف لها علاقة بطبيعة التكوينات الاجتماعية الاقتصادية التي تتصل بالجانب الطبقي، ولهذا يظهر العنف غالباً عند الجماعات التي يغلب على تكوينها البشري الانتماء إلى الطبقة الفقيرة والمحرومة أو المتوسطة بصورة عامة، خصوصاً في البيئات التي يحدث فيها اختلالات طبقية حادة، وتتفاوت فيها الفوارق الاجتماعية بصورة كبيرة. هذه هي أبرز النظريالت التي تصنّف على العامل الاجتماعي والاقتصادي في تفسير وتحليل ظاهرة العنف. وهي نظريات يمكن تطبيقها والاستفادة منها بطريقة نسبية، وكل واحدة منها تفسّر جانباً أساسياً في الظاهرة، وليس كامل الظاهرة، أو الإحاطة التامة بها.   -       ثانياً: العامل الديني والأيديولوجي: يحاول هذا العامل أن يقدم تفسيراً لظاهرة العنف، من خلال تحليل طبيعة التصورات والمقولات والأفكار الدينية والثقافية، عند الجماعات التي سلكت هذا النهج. ويتأكد اهتمام الدارسين لهذا العامل، باعتبار أنّ معظم الجماعات التي انتهجت هذا المسلك في العالم العربي والإسلامي، كانت تصنّف على الجماعات الدينية أو الأيديولوجية. وتكوين المعرفة العلمية والموضوعية بهذا العامل بحاجة إلى معرفة وخبرة دينية وثقافية. وفي نطاق هذا العامل، يمكن تحديد بعض النظريات التي يستفاد منها في تحليل ظاهرة العنف، وكيف تتحول هذه الظاهرة إلى سلوك عند بعض الجماعات، من هذه النظريات: النظرية الأولى: هناك مَن يرى أن ظاهرة العنف لها علاقة بفشل أو تعثر مشاريع التنمية والتحديث، أو سياسات التطبيق الفوقي والقسري لهما، وتأثير هذه السياسات في تهميش الدين واستبعاده، أو التقليل من مكانته وشأنه في حياة الناس، وفي الشأن العام بصورة عامة. الوضع الذي أحدث اختلالات عميقة في منظومات القيم، وتمزقات في الهوية الدينية والفكرية، بالشكل الذي خلق أنماطاً من ردات الفعل. أحد هذه الأنماط أخذ منحى العنف، كالذي ظهر في تعرّض بعض المثقفين إلى محاولات عنف، بسبب مواقفهم المغالية في الانتصار للحداثة ونقد الفكر الديني. النظرية الثانية: وهناك من يرى أن ظاهرة العنف لها علاقة بطبيعة التكوين الديني والأيديولوجي، عند الجماعات التي تنغلق على نمط من التعليم والتثقيف، لا يمتلك القدرة على التواصل مع العصر، ويقطع الصلة بثقافات العالم ومعارفه. وبالتالي لا يكتسب القدرة على التكيف والاندماج مع الآخر المختلف معه ثقافياً أو سياسياً، أو حتى دينياً. فهذه القطيعة والانغلاق قد تدفع بعض الجماعات إلى التصادم مع الآخرين، وعدم القدرة على التعايش معهم، التصادم الذي يمكن له أن يتطور في أي وقت إلى حالة من العنف. ويصدق هذا الوصف على كثير من الجماعات، وبالذات التي وصفت بجماعات التكفير والهجرة. وهي الجماعات التي تبنت فكرة العزلة، ليس الشعورية فقط التي قال بها سيد قطب، وإنما العزلة المادية أيضاً، بعد أن قالوا بجاهلية المجتمعات العربية المعاصرة، ومن هنا جاء وصف التكفير والهجرة. النظرية الثالثة: هناك من يرى أن ظاهرة العنف لها علاقة بهيمنة بعض المقولات والتصورات التي تقرأ وتفسّر بكيفية معينة تدفع نحو الانغلاق والقطيعة، وتشكل مناخاً نفسياً وفكرياً قد يحرّض على العنف ويدفع إليه. مثل المقولة القديمة التي تقسم العالم إلى دار حرب ودار إسلام ودار عهد، أو النظر إلى المجتمعات الإسلامية المعاصرة من خلال مقولتي الجاهلية والحاكمية، أو تفسير مقولة الجهاد والأمر وغيرها من المقولات التي تنزع نحو الصدام والمواجهة.   -       ثالثاً: العامل السياسي والعسكري: يحاول هذا العامل أن يقدم تفسيراً لظاهرة العنف، بالعودة إلى المنظورات السياسية المرتبطة بهذه الظاهرة، سواء تلك المنظورات التي تتصل بهذه الظاهرة من داخلها، أو تلك المنظورات التي تتصل بهذه الظاهرة من خارجها. والذي يتصل بهذه الظاهرة من الداخل يتحدد إما في التقديرات السياسية التي تظهر في المواقف والسلوكيات العملية، وإما في طبيعة التصورات السياسية التي تعبّر عنها الجماعات التي سلكت هذا النهج في أدبياتها وقراءاتها النظرية، وإما في نمط الانفعالات السياسية أحياناً. والذي يتصل بهذه الظاهرة من الخارج يتحدد في نوعية الأرضيات الموضوعية، وتأثير المناخات العامة، المحلية والإقليمية والدولية، التي تتفاعل مع تلك الظاهرة وتؤثر على سلوكياتها، من جهة العلاقة مع المجتمع، أو من جهة العلاقة مع السلطة. والمنظورات السياسية هي حاضرة دائماً في معظم أو جميع ظواهر العنف التي ظهرت في المنطقة العربية والإسلامية، ومن السهولة فهمها والتعرف عليها، لانكشافها وإمكانية التعبير عنها. وفي نطاق هذا العامل السياسي تبلورت العديد من النظريات، التي حاولت أن تقدّم تفسيرات سياسية لظاهرة العنف. ومن النظريات المطروحة في هذا المجال، ولعلها الأكثر تطبيقاً على هذه الظاهرة، والأكثر تداولاً في المجال السياسي، منها ما يلي: النظرية الأولى: هناك من يرى أنّ العنف لا يظهر إلا في المجتمعات غير الديمقراطية، أو التي لا تلتزم بحكم القانون والدستور، ولا تحترم الحريات العامة وتدافع عن حقوق الإنسان. والعنف الذي قد يظهر في المجتمعات الديمقراطية فإنّه لا يستطيع أن يتجذر ويبقى أو يكتسب تأييداً ومشروعية، أو حتى يمتلك القدرة على التأثير والفاعلية، لهذا سرعان ما يتلاشى العنف في هذه المجتمعات الديمقراطية. في حين أنّه يستطيع التجذر والبقاء في المجتمعات غير الديمقراطية، وقد يمتلك القدرة على التأثير والفاعلية فيها. وبحسب هذا النظرية فإنّ العنف يتلازم بالديمقراطية وجوداً وعدماً. النظرية الثانية: وهناك من يرى أن عنف الجماعات هو نتيجة لعنف الحكومات. فيكون العنف بحسب هذه النظرية ليس فعلاً أولياً، وإنما هو نتيجة ردة فعل لعنف الحكومات. ولهذا يقال أنّ الجماعات تنشأ على صورة الحكومات، فالحكومات الديمقراطية تنشأ في ظلها جماعات ديمقراطية، والحكومات المتشددة تنشأ في ظلها جماعات ديمقراطية، والحكومات المتشددة تنشأ في ظلها جماعات متشددة. وهناك أيضاً من يبرز لهذا العنف في نطاق هذه النظرية، لكونه الوسيلة التي تستخدمها السلطة نفسها، على قاعدة مواجهة العدو بسلاحه. النظرية الثالثة: وهناك من يرى أنّ العنف يظهر عند بعض الجماعات باعتباره الوسيلة الفعالة في التغيير السياسي، وفي الوصول إلى السلطة. أو الوسيلة الأخيرة عند بعض الجماعات، بعد استفاد كافة الوسائل الأخرى في عملية الصراع السياسي. النظرية الرابعة: وهناك من يرى أن ظهور العنف عند بعض الجماعات له علاقة بحصول اشتعال ثورات أو قيام حروب. هذه محاولة لتطبيق العامل السياسي في تفسير ظاهرة العنف، إلى جانب العوامل الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والدينية والثقافية المفسرة لهذه الظاهرة، في محاولة لفهمها، وفهم منطقها الداخلي. الكاتب باحث من المملكة العربية السعودية المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد 21 لسنة 2009م

ارسال التعليق

Top