• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

صراع حول العقل

محمّد العزب موسى

صراع حول العقل

◄الإسلام دين يحض على استخدام العقل ويخلو من الرموز والتصوّرات الغامضة والعقائد الجامدة التي ينبغي على المؤمن أن يأخذها كما هي. ولذلك سُمي الإسلام بدين الفطرة، ولا تناقض بين العقل والفطرة، لأنّ العقل جزء من الفطرة الإنسانية. والفطرة الإنسانية جزء من العقل الكوني المطلق... جزء من الله.

وفي عصر النبيّ والخلفاء الراشدين لم تكن هناك ضرورة ملحة لإذكاء البحث العقلي المستقل لسبب بسيط هو أنّ المجتمع الإسلامي كان لايزال في مرحلة تقبل الدين، وكانت الأولوية لاستقراره في الصدور، وكانت حاجات المجتمع لازالت بسيطة لأنّه أقرب إلى البداوة. وكانت أحكام الدين لازالت واضحة وقريبة العهد إلى المصدر... ومع ذلك لم يصادر حقّ السؤال في فجر الإسلام، ولم يجرِ إسكات أي شك عن طريق إرهاب السلطة، كلّ ما في الأمر أنّ أي سؤال محرج أو ليس في القدرة الرد عليه، كان يهمل ويكتفى المسؤول بالإفصاح عن عجزه في تواضع قائلاً "الله اكبر".

ولكن بعد مرور قرن على ظهور الإسلام، بعد أن استقر في الصدور وتدعمت السلطة الإسلامية وتكوّنت الإمبراطورية العربية ودخلت فيها عشرات الأجناس الأخرى، وتعقّد المجتمع؛ وحدثت الانقسامات الفكرية والسياسية، ونشطت حركة الترجمة والاتّصال الحضاري، وبُعد العهد عن مصادر الإسلام الأولى بدأت الحاجة تبدو ملحة إلى أعمال الفكر واستخدام العقل في كلّ ما يعين من المسائل الجديدة المعقدة تلبية لدعوة القرآن نفسه.

وكان المعتزلة هم رواد النظر العقلي في الإسلام، ورافعو رايات الحرّية الفكرية التي ترعرعت في ظلالها الحضارة الإسلامية العظيمة.

وعندما ظهر المعتزلة في آواخر القرن الأوّل الهجري على يد واصل بن عطاء في البصرة رفضوا في أوّل الأمر الوظائف الإدارية ليتفرغوا للقراءة والبحث والمناظرة، ولكنّهم لم يلبثوا أن انغمسوا في السياسة حتى سيطروا على الدولة في صدر العصر العباسي الأوّل، وطبعوها بطابعهم العقلي.

وقد جعل المعتزلة العقل معيار كلّ أحكامهم ولكنّهم لم يخرجوا أبداً عن نطاق الإسلام، بل كانت حرّيتهم "ملتزمة" بأصول الإسلام وليست "مطلقة" كحرّية الزنادقة والمعطلين، فكانوا بذلك أقرب الفِرق الإسلامية إلى روح الإسلام الثورية التقدمية.

هم أوّلاً اعتبروا العقل مصدراً للمعرفة، ورفضوا كلّ ما لا يتفق معه حتى لو كان منسوباً إلى كبار الصحابة مثل رؤية الجن وانشقاق القمر والسؤال على يد منكر ونكير، وهذا الموقف يذكّرنا بموقف الرسول عندما كان يوري ابنه إبراهيم التراب إذ انخسف القمر فرفض أن يربط بين الظاهرتين، وهكذا شنّ المعتزلة حرباً لا هوادة فيها على السحر والشعوذة والخرافات.

وقال المعتزلة بأنّ الإنسان مخيّر لا مسيّر، وهو حر ومسؤول عن أفعاله وليس مجبراً على كلّ ما يفعل بقواعد أزلية لا يستطيع الفكاك منها، لأنّه إذا كانت الخطيئة قدر من الخالق والإنسان مجبر على ارتكابها فإنّ عقابه عليها يجعل الخالق ظالماً وهذا كفر، وقالوا بأنّ العقل والوحي على السواء يدلان على أنّ الاستقامة والخطيئة، الفضيلة والرذيلة، الخير والشر، جميعها، تنتج عن إرادة الإنسان الذي يسيطر سيطرة مطلقة على أفعاله رغم أنّه قد بيّن له الخطأ والصواب.

وهكذا ربط المعتزلة بين الحرّية والاختيار والمسؤولية، فأعلوا بذلك قيمة الفرد وجعلوه حراً ومسؤولاً عن أفعاله، وهذا يتفق مع أحدث النظريات الفلسفية المعاصرة التي تعلّي شأن الفرد وإرادته. والواقع أنّ نظرية المعتزلة في الجبر والاختيار كانت نظرية ثورية خطيرة في حينها؛ فقد كان الطُّغاة يؤيدون القول بالجبر لأنّه يعطيهم السند لطغيانهم، ويبرر كلّ تصرّفاتهم، أليس كلّ ما يفعلون مسطر منذ الأزل في لوح محفوظ؟ لذلك كان معاوية مثلاً من أوّل واشد المتحمسين لنظرية الجبر، فهو قد أصبح والياً قفزاً على حقّ عليّ بن أبي طالب (ع) وجدارته لأنّ ذلك مُقدّر منذ الأزل، ولا سبيل إلى الطعن في سياسته وتصرّفاته رغم ما فيها من قسوة ومخاتلة لأنّها مُملاة عليه من عند الله. ولكن المعتزلة لم يروا فيه أو في ولايته أية قداسة، فهو ليس أكثر من مغتصب للسلطة، وكلّ أفعاله بشرية وهو مسؤول عنها ويجازي بها، والطعن عليه ومحاربته حقّ للمسلمين، إعمالاً لمبدأ آخر من مبادئهم وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومادامت ولاية المسلمين ليست حقّاً إلهياً مقدساً وإنّما هي نتيجة لفعل بشري فإسقاطها يتم أيضاً بفعل بشري... وهكذا برر المعتزلة الثورة على الطغيان السياسي ورموا الطغاة بالكفر والإلحاد.

ونزّه المعتزلة وحدانية الله عن أية شبهة أو شائبة، فرفضوا أن تكون صفات الله خارجة عن ذاته، وقالوا إنّما هي جوهر ذاته فالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر.. إلخ، هي مجتمعة ذات الله نفسها وليست قدرات مستقلة عنه يستخدمها في هذه الحالة أو تلك. والله عليم وقدير وحي وسميع بصير بذاته الواحدة التي لا كثرة فيها، ولا تعدّد ولا صفات زائدة عليها. وحاربوا بشدة أقوال الذين يشبهون الله بالإنسان أو الكائن الجسمي آخذاً بظاهر بعض الآيات القرآنية مما يجعل من الله - جل وعلا - صنماً في السماء.

والمعتزلة أيضاً هم أصحاب المنهج العلمي والمنطق العقلي في الإسلام، هم الذين مهدوا الطريق أمام ظهور فلاسفة الإسلام وعلمائه بقولهم بالسببية أي ارتباط النتائج بالأسباب، فعندهم أنّ السبب لا يحدث ثم يحدث المسبب فالمسبب لا يمكن أن يكون بلا سبب، وهذا هو جوهر المنهج العلمي. ولو لم يستقر هذا المنهج في عقول المسلمين لما ظهر أمثال الكندي والفارابي في الفلسفة، والرازي وابن سينا في الطب، والحسن بن الهيثم وجابر بن حيان في العلوم الطبيعية.

لقد استطاع المعتزلة أن يثيروا ويردوا على أعظم وأخطر الأسئلة التي تأججت في العقل البشري في كلّ زمان ومكان، وقد طرحوها من زاوية إسلامية خالصة، وكانوا ملتزمين تماماً بأحكام الإسلام وقواعده، بل إنّهم قدّموا للفكر الإسلامي أجل الخدمات، إذ دفعوا عن الدين هجمات خصومه من الملاحدة والزنادقة وأصحاب الديانات والعقائد الأخرى بنفس وسيلتهم القائمة على الحجة والمنطق، وهو أمر ما كان يقدر عليه الفقهاء الدينيون الذين لا يجيدون سوى استخراج الأسانيد من النصوص المأثورة والتي لا تلزم أصحاب الآراء الأخرى ابتداء.

وانتشرت آراء المعتزلة بسرعة بين المثقفين والمفكرين في كلّ أنحاء العالم الإسلامي، فنشرت جواً من العقلانية والحرّية الفكرية لا تكاد تبلغه حتى الدول الأوروبية في العصر الحديث. وكان ذلك بصفة خاصّة في عهد الخلفاء العباسيين الذين شجّعوا مبادىء المعتزلة أو اعتنقوها علانية وهم الخليفة المنصور العباسي وخلفاؤه المهدي والهادي والرشيد، وعندما جاء المأمون جاهر باعتناق آراء أهل الاعتزال، وعمل هو وأخوه المعتصم وابن أخيه الواثق على نشر الروح العقلانية والعلمية في أرجاء العالم الإسلامي. فكان المفكرون العقلانيون يعظون في المساجد ويحاضرون في دور العلم. ويتولون مناصب الإدارة والقضاء. كانت وراءهم حماية الخلفاء وبين أيديهم عقول الشباب. ويشهد التاريخ أنّهم استخدموا نفوذهم هذا الواسع بحكمة فقد عملوا كأساتذة ووعاظ وعلماء وأطباء ووزراء وحكام أقاليم على رفعة العرب وإعلاء شأن الإسلام.

وقد أدت هذه الروح العقلانية المتحررة التي أطلق عقالها المعتزلة، ودعمتها العلوم الطبيعية، وغزتها حركة الترجمة والاتّصال الثقافي مع الحضارات الأخرى، إلى عصر من التنوّر العقلي والحرّية الفكرية يندر أمثاله في التاريخ البشري ويكاد يماثل عصر بركليز في أثينا، وعصر إزدهار الثقافة الهللينية في الأسكندرية، وعصر النهضة في أوروبا.

في هذا العصر ظهر العالم الفيلسوف الكندي الذي لمع في عهد المأمون والمعتصم واشتهر بإصالة عبقريته وعمق معارفه، وأجاد لغات الأغريق والفُرس والهنود، وكتبَ في الفلسفة والرياضة والفلك والطب والسياسة والموسيقى، وتولّى ترجمة مؤلفات أرسطو إلى العربية بتكليف من المأمون.

وفي هذا العصر ظهر أبو نصر الفارابي وكان أيضاً طبيباً ورياضياً وفيلسوفاً ويُعتبر أذكى من فسّر أرسطو وأكثرهم علماً وثقافةً، وكان يتمتع بحماية سيف الدولة الحمداني أمير حلب.

وفي هذا العصر نبغ ابن سينا وهو أستاذ عصره بلا مراء، وواحد من أساتذة البشرية في تاريخها كلّه. ويُلقب بالشيخ الرئيس وبالمعلم الثاني بعد أرسطو وكان طبيباً وفيلسوفاً وفقيهاً وشاعراً تجسّدت فيه خلاصة معارف العرب وبالرغم من الخصومات القوية التي تعرّض لها من المتعصبين والحاقدين، إلّا أنّه ترك بصماته قوية على عصره والعصور التالية، وقد أخذ ابن سينا على عاتقه أن ينظّم ويضبط كافة المعارف الرائجة في عصره. ومن الأمثلة على شجاعته الفكرية قوله بأنّ السعادة والألم في العالم الآخر لهما وجود روحي بحت يتوقف على مدى استخدام الإنسان أو عدم استخدامه لقواه الروحية والذهنية والبدنية من أجل الوصول إلى الكمال في حياته الأولى، وكم تبدو هذه النظرية مخالفة للفكرة السلفية عن مادّية الجنّة والنار.

وإذا انتقلنا إلى الأندلس نجد من رواد النزعة العقلية المتحررة ابن باجة وهو من أكبر رواد الحرّية الفكرية. وكان كذلك ضليعاً في الطب والرياضة والفلك والموسيقى. وابن طفيل الذي اشتهر كطبيب ورياضي وفيلسوف وشاعر ينتمي إلى المدرسة التأملية في الفلسفة العربية المعروفة بالإشراقية التي أسسها السهروردي المقتول وكانت انبعاثاً إسلامياً للأفلوطينية الجديدة غير أنّ فلسفة ابن طفيل التأملية لا تقوم على الاستشراف الصوفي وإنّما على المزج بين الحدس والعقل، وأشهر مؤلفاته "حي بن يقظان" الذي يصوّر تطوّر العقل البشري لدى إنسان مجرد لا يتمتع بأي إرشاد خارجي.

ومن بين فلاسفة الأندلس والإسلام بصفة عامّة يستحق ابن رشد وقفة خاصّة إذ فيه يتجسّم المثل الأعلى للتقدّم الفكري والشجاعة الأدبية وحرّية الرأي، وقد كان خاتمة الفلاسفة العرب العظماء، وحاول ابن رشد أن يقوم بجهد أخير ليدفع عن الفلسفة الهجوم الضاري الذي تعرّضت له على يد السلفيين فكتب "تهافت التهافت" الذي رد فيه على كتاب الغزالي "تهافت الفلاسفة" ولكن ابن رشد تعرّض بدوره للاضطهاد، وأُحرقت كُتُبه.

وذهب ابن رشد إلى أنّ أرفع جهود الإنسان ينبغي أن توجه نحو بلوغ الكمال وهو الاتّحاد التام مع العقل الكوني الفعّال، وهذا الكمال أو الاتّحاد العلوي لا يمكن بلوغه عن طريق التأمُّل العاجز كما يفعل الصوفية وإنّما عن طريق التأمُّل والدرس والتفكير والتغلُّب على الخصال الخسيسة.

كما كرّسَ ابن رشد نظرياته السياسية لمكافحة الإرهاب البشري بكلّ أشكاله وكان يعتبر أنّ الحكومة العربية في عهد النبيّ والخلفاء الراشدين هي الجمهورية المثالية التي حلم بها إفلاطون، وكان يعدّ معاوية الذي أنشأ الحكم الأوتوقراطي في الإسلام مسؤولاً عن الإطاحة بهذا المثل الأعلى وفتحَ الباب أمام جميع الكوارث التي حلت فيما بعد بالمسلمين.

وهكذا حلّق الفكر الإسلامي على أيدي فلاسفة الإسلام وحُكمائه ومتكلميه في أعلى طبقات الحرّية الفكرية والعلمية وآثار من المسائل ووضع من الحلول مازال يشغل بال العصر الحديث.

كيف انتصرت فكرة أنّ الإنسان مُجبر ومُسير ولا إرادة له، وأصبحت عقيدة غالبة لدى معظم المسلمين؟

لقد حدث كلّ ذلك ببساطة عندما ماتت حرّية الفكر بين المسلمين، عندما أغلق المسلمون عقولهم، وأصبح التفكير جريمة يعاقب عليها أو يطارد مرتكبها بأشد الاتهامات واللعنات.

ولكن كيف – باختصار - ماتت حرّية الفكر في الإسلام؟

إنّ الإسلام - كأيّة حركة فكرية عندما توضع في مجال التطبيق - تنقسم إلى معسكرين رئيسيين: معسكر السلطة ومعسكر العقل.

معسكر السلطة قوامه الفكري رجال الدين الرسميون وهؤلاء طبقة من الناس اعتبروا في كلّ زمان ومكان - ولأسباب ليست غير وجيهة - محدودي العقول شديدي التعصب لآرائهم، وشديدي الحرص على أن لا تمس مصالحهم الطبقية. وأسهل وسيلة لتحقيق ذلك إضفاء صبغة القداسة على شخوصهم ومواقفهم وآرائهم ويرتبط بهم في نفس المعسكر القابضون على زمام السلطة السياسية والسواد البشري الجاهل.

والمعسكر الآخر هو معسكر أصحاب العقل، وفيه مَن يخضعون المسائل للعقل وحُسن التقدير والإدراك السليم مع الالتزام بقواعد الدين ومبادئه الأساسية وهم أصحاب التطوّر والتحرّر وشجاعة الفكر والتجديد.

في المعسكر الأوّل "الأساقفة" وفي المعسكر الآخر "الأساتذة" وفي كلّ عصر ومكان كان الصراع محتدماً بين الأساقفة والأساتذة. كان الفريقان يتجاذبان طرفي حبل فيما بينهما كلّ في اتّجاه معسكره، رغم أنّ المعسكرين في ساحة واحدة.

وكانت هالة الأسقف تشحب كلّما سطعت شمس الأستاذ، وكانت مكانة الأسقف تُرتفع كلّما رجم الأستاذ بالطوب.. ولذلك كان من مصلحة الأساقفة دائماً أن تكون أكوام الطوب جاهزة لتلقيها الجماهير على مَن يشير إليه الأساقفة بالرجم.

هذا الصراع عرفته جميع الأديان والحركات الفكرية في التاريخ. ولم يكن الإسلام في التطبيق بمنجى منه، وكيف يكون؟

وبالرغم من أنّ الإسلام لا يعرف نظام الكهانة كما عرفته أديان أخرى كالمسيحية والوثنية والمصرية القديمة إلّا أنّه لم يلبث أن وقع بين براثنها على نحو أو آخر، فقد ظهرت الخلافة كنظام ثابت في الإسلام واكتسب الخلفاء مسحة دينية وحف بهم عدد مهول من رجال الدين الرسميين الذين كان عليهم أن يفتوا استناداً إلى التراث والمأثور في كلّ كبيرة وصغيرة ابتداءً من مسائل العقيدة العليا إلى أبسط المسائل المتعلقة بالحياة اليومية والعلاقات بين الناس.

وفي صدر العصر العباسي كان المفكرون العقلانيون ورجال الدين التقليديون يتقاسمون السلطة: العقلانيون في المعاهد والمدارس وأجهزة الحكم، والسلفيون في المساجد والمحاكم وبين الجماهير.

وكان السلفيون حتى ذلك الوقت يتميزون بالمرونة والتسامح وسعة الصدر إذا لم يجدوا نصاً صريحاً في القرآن أو السُّنة فإنّهم يعتمدون على إجماع المسلمين وعلى أحكامهم العقلية الخاصّة... إلى أن ظهر بينهم أحمد بن حنبل أو الإمام حنبل كما يسمى عادة.

كان الإمام أحمد حنيفاً متقشفاً متشدداً وكان متعصباً لما يعتقد أنّه الحقّ ولا يستطيع أن يتسامح مع مَن يخالفه في آرائه، وصدم الرجل "بالليبرالية" الشديدة في المجتمع من حوله، وبمرونة الحنفية السُّنية نفسها، فعكف على وضع مذهب جديد يقوم أساساً على التراث والتقاليد رغبة في العودة بالدين إلى مصادره الأولى، ولكن ليته نجح في ذلك حقّاً، ليته أقام فقهه على الكتاب وغير المكذوب من السُّنة وأقوال الصحابة والتابعين، إذن لكان قد قدّم أجل الخدمات للفكر السلفي، ولكنّه للأسف لم يستطع الرجوع إلى المنبع الأصلي، وكان يقدّم الحديث الضعيف على القياس العقلي، ويأخذ بظاهر النصوص، حتى لو كانت دالة على رمز أو معنى خفي وكانت النتيجة أن شابت تعاليمه كثير من العناصر الدخيلة والأحكام غير العقلانية فجاءت أفكاره متنافرة ومحيّرة ومتشددة إلى أقصى حد. فقال مثلاً بإمكان رؤية الله بالعين البشرية، وبأنّ صفاته مستقلة عن ذاته، وذهب إلى أنّ النصوص القرآنية التي تتحدّث عن العرش واستواء الله عليه والتي تتحدث عن عين الله ويده يجب أن تؤخذ بمعناها اللفظي والحرفي ورفض ما كان يذهب إليه العقلانيون من أنّ هذه كلّها رموز للقدرة الإلهية. وقال أيضاً أنّ الإنسان ليس حراً بأي معنى من المعاني وأنّ كلّ أفعاله مُملاة عليه واستنكر الثقافة الطليقة والعلوم الدنيوية وشنّ حرباً دينية شعواء على الاتّجاهات العقلانية.

وبدأ الصراع يحتدم بين قوى التقدّم الفكري وقوى الانتكاس والرجعية وانضمت الجماهير فوراً إلى ابن حنبل مسحورة بفصاحته وحماسته وزهده وصلابته واتّبعت صيحته التي لا تكلّف عناء ولا تتطلّب إجهاد العقل في الرمز والتجديد.

وسرعان ما تحالف أيضاً مع "المصلح" الجديد معظم الفقهاء السُّنيين الذين يستمدون سلطتهم من نفوذهم بين الجماهير والذين أحفظهم بروز العلماء والفلاسفة في بلاط هارون الرشيد والمأمون.

وبدأت عملية إعداد الحطب والنيران للعقلانيين والمدافعين عن العلم والفلسفة.. بدأ الأساقفة يرجمون الأساتذة بالطوب..

ونال المعتزلة بصفة خاصّة جانباً كبيراً من الهجوم أو كما يقول الدكتور محمود إسماعيل في كتابه "الحركات السرية في الإسلام" اعتبروا مارقين سياسياً فوضويين اجتماعياً، ضالين دينياً، وصمّهم الشهرستاني بأنّهم "مجوس الأُمّة" ورموا بالتهتك والمجون والاستخفاف بالدين ومحاولة هدمه وإحلال الفكر الوثني محله نقلاً عن تشنيعات الزنديق ابن الراوندي الذي كان واحداً منهم وخرج عليهم واتّهمهم ظلماً بما ليس فيهم.

وفي شوارع بغداد أصبحت مناظر الفتن وسفك الدماء شيئاً مألوفاً وفي البداية استطاع المعتصم والواثق خليفتا المأمون أن يخمدا عنف التعصب بشيء من الشدة، وتعرض ابن حنبل في عهدهما للمحنة بسبب الخلاف على خلق القرآن. ولكنّه ثبت على موقفه، فكان لهذا الثبات على المبدأ فعل السحر في الجماهير، وعندما توفي بعد سجنه وتعذيبه اعتبر شهيداً وتبع نعشه إلى القبر عشرات الألوف من البشر.

وعندما اعتلى الخليفة المتوكل العباسي كرسي الحكم (232ه‍ - 847م) كان الموقف كالتالي:

العقلانيون يوجهون سلطة الدولة فهم يشغلون المناصب الرئيسية في الإدارة والحكم ومنهم أساتذة "الجامعات" ورؤساء المستشفيات ومديرو المرافق والمؤلفون ونفوذهم بين المتعلمين والمثقفين وأصحاب المناصب. والسلفيون المعارضون للاتّجاهات العقلانية تحت ستار الدفاع عن الدين ضد الزندقة والبدع ومنهم القُضاة والفقهاء والوعّاظ ونفوذهم بين الطبقات الدنيا في المجتمع.

وكان الخليفة المتوكل رجلاً قاسياً سكيراً تنتابه نوبات من الجنون. ومال المتوكل إلى التحالف مع الفريق الثاني لأنّ ذلك يكسبه شعبية بين الجماهير وبدأ في تطهير أجهزة الدولة من رجال حزب التقدم والعقلانية وأغلق الجامعات والمدارس وطرد الأساتذة من بغداد. وشيئاً فشيئاً، بدأ يتوقف الإنتاج الأدبي والعلمي والفلسفي وأصبح الفقهاء السُّنيون المحافظون هم القوّة المسيطرة في الدولة الإسلامية.

كان السلفيون في أوّل الأمر يحاربون العقل بالرجوع إلى مأثور النصوص والتراث والتقاليد وفجأة جاءهم عون كبير من حليف غير متوقع.

هذا الحليف هو أبو الحسن الأشعري، حفيد أبي موسى الأشعري الشهير الذي خدعه عمرو بن العاص في واقعة التحكيم بين عليّ ومعاوية. وقف الأشعري ذات يوم في جامع البصرة وأعلن على رؤوس الأشهاد رجوعه عن نظريات المعتزلة وتأييده أهل الصفات. وقال إنّ الرسول (ص) ظهر له في حلم أثناء رمضان وأمره بالرجوع عن معتقداته السابقة. وأثرت حركته المسرحية وفصاحة كلماته في الناس فجاوبوه بالتهليل والإكبار.

كان هناك دور يبحث عن بطل وجاء الأشعري مناسباً تماماً لهذا الدور وسرعان ما أصبح الأشعري أعظم رجل في الخلافة العباسية يخطب وده الفقهاء وتهتف باسمه الجماهير ويقابله الخليفة بكلّ احترام، كيف لا وقد أعطى الحزب السلفي السلاح الذي كان يحتاجه بشدة.. الجدل المنطقي للرد على أصحاب المنطق والعقل من معتزلة وفلاسفة وأئمة فاطميين؟

ونشط الأشعري في الرد على تعاليم المعتزلة ومحاربتهم بسلاحهم فكان بذلك مؤسس علم الكلام في الإسلام.

وبعد الأشعري جاء تلميذه أبو القاسم بن عساكر وعلى يديه أُحرزت التعاليم الأشعرية دفعة أخرى إلى الأمام. وأعلن ابن عساكر - كما فعل أستاذه الأشعري من قبل - إنّ كلّ نظريات العقلانية كفر وضلال يجب أن ترفض ابتداءً بلا مجال لأخذ أو رد. وقال إنّ مسائل العقيدة يجب أن يقبلها المسلم كما هي دون أدنى مناقشة أو أعمال فكر، فأي تساؤل فيها خطيئة لا تقبل عنها توبة، بل إنّ مجرد روح التساؤل تخفي وراءها أصابع الشيطان، فإذا كان القرآن يقول مثلاً إنّ الله يرى كلّ شيء فيجب أن نستنتج من ذلك أنّ له عينين وعلى المؤمن أن يقبل ذلك "بلا كيف".

وجاء بعده أبو حامد الغزالي أعظم فقهاء الإسلام بلا منازع. وقد اعتمده أهل السُّنة والمحافظون على اختلاف مشاربهم حجة وقالوا لو كان نبيّ بعد النبيّ لكان الغزالي. وإليه يرجع الفضل في تثبيت نظام الأشعرية واستخدام المنطق في الرد على أصحاب المنطق.

هاجم الغزالي الفلسفة وكفّر دارسيها، قال عن أرسطو.. "فوجب تكفيره وتكفير متبعيه من متفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهم". وأصبحت آراء الغزالي فيما بعد أقوى أساس بُني عليه اضطهاد الفلاسفة والمفكرين في الإسلام. وقد وضع الغزالي في الرد على الفلاسفة كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة". أما أهم آثاره فكتاب "إحياء علوم الدين" الذي أنعشت صوفيته السريعة الإسلامية وصار مرجعاً أساسياً لجميع أهل السُّنة.

والواقع أنّ الخطأ الذي وقع فيه السلفيون ليس فيما قالوا به في حد ذاته وإنّما في الأسلوب الذي نشروا به ما يقولون.. أسلوب التكفير والإرهاب والمصادرة واستعداء السلطات فوضعوا الإرهاب الفكري حيث يجب أن توضع الحرّية الفكرية.

ومنذ أواخر القرن العاشر الميلادي بدأت سماء الفكر الإسلامي تتلبد بالإرهاصات السود للعقلانية والعلم. فقد انتشرت الروح السلفية المحافظة ووسمت بالكفر حركة العقل التي جعلت نجم المسلمين يلمع عالياً في سماء الثقافة العالمية وسيطرت الشكلية التي لا قلب لها والمعادية لروح الحرّية والميالة للاضطهاد على نفوس رجال الدين وسيطرت اللذات واللامبالاة على الأغنياء وسيطر الجهل والتعصب على الفقراء، ولقد أخذت ظُلمة الليل تنسدل على العقل الإسلامي وبدأ المسلمون ينجرفون إلى الهوة التي تردى فيها المسيحيون على أيدي رجال كنيستهم من قبل.

وعندما حدث ذلك بدأ المسلمون يسيرون في طريق التخلف والانحلال وحقّ عليهم قول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11).►

ارسال التعليق

Top