• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دور المثقف الرسالي

جهاد سعد

دور المثقف الرسالي

يشهد العالم اليوم صراعاً مفتوحاً بين الإسلام والغرب – بالمعنى الحضاري للكلمة – وهو من جهة الغرب صراع من أجل استمرار السيطرة، على قاعدة أنّ الحضارة الغربية هي الثمرة الأخيرة لتاريخ الإنسانية، وبالتالي الحضارة المركز التي ينبغي أن تذوب في تيارها الحضارات.
ومن جهة الإسلام يمثل هذا الصراع الخطوة التي لابدّ منها في طريق العودة إلى الذات، والمخاض الذي لابدّ منه تمهيداً للولادة من جديد.
ولعل أهم ما يملكه الغرب من أسلحة في هذه المعركة – بالإضافة إلى – التكنولوجيا المتقدمة وعالمية اقتصاده واعلامه وثقافته – هو تلك النماذج – الممسوخة من المثقفين التي استطاع في زمن الانكفاء أن يصنعها ويعممها على العالم المستضعف لتمسك بزمام الأمور ومراكز النفوذ، وتحتل مقدمة الصفوف في كل الميادين، فتنظم الفعل ورد الفعل، وتضمن بشكل أو بآخر عدم التحرر من عقدة النقص تجاه التجربة القائدة أو تجربة المركز.
في مقابل هذا الحشد الهائل من الامكانات المادية والعلمية والمعنوية والبشرية نجد أنّ الإسلام ماضٍ في اعداد الطليعة الرسالية والأُمّة القائدة المتحررة من جبر التاريخ وعقدة الدونية تجاه الآخر. وهنا يبرز المثقف الرسالي كأخطر سلاح يملكه الإسلام. ولأنّه كذلك فإنّ القرارات التي تسعى إلى منع إنتاج الأسلحة بعيدة المدى سارية المفعول على المستوى الاعلامي والاجتماعي والثقافي، لمنع انتاج هذه النماذج من البشر التي تتفجر بلا ضجيج لتحدث تحولاً في مسار التاريخ وحياة الإنسان.
ولكي نستكشف فعالية هذا السلاح ومادة صناعته لابدّ من اطلالة على الثقافة ودور المثقف بشكل عام، ثمّ البحث فيما يميز الثقافة الإسلامية عن غيرها من الثقافات، لنصل إلى تحديد المميزات الأساسية للمثقف الرسالي عن غيره من المثقفين.

1- ماهية الثقافة:
من أشهر التعاريف المعتمدة للثقافة تعريف الانتروبولوجي الانكليزي إدوارد تايلر الذي انتهى إلى صياغته عام 1871 والقائل: "إنّ الثقافة هي ذلك المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفنون والأخلاق والتقاليد والقوانين وجميع المقومات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع".
وبكلمة أخرى تمثل الثقافة مجموع الإضافات الإنسانية على حالات الطبيعة، أي كل المكتسبات والانجازات النظرية والعملية التي انتجها الإنسان في تاريخه الاجتماعي ولذلك عرفت عند آخرين بأنها أسلوب حياة المجتمع، ويتضمن هذا الأسلوب الأهداف التي يحددها المجتمع لنفسه، والقيم والقواعد والمعايير التي تضبط سلوك الأفراد وتحمّل المسؤوليات وتحدد نظرتهم إلى الخير والشر والجمال والقبح والحلال والحرام، كما يتضمن الوسائل التي يعتمدها المجتمع في ارضاء الحاجات والدوافع الطبيعية لأفراده، بل وربّما أحدثت الثقافة بدورها حاجات جديدة نتيجة التطور.
يتبين من هذا التحديد أنّ الثقافة "كائن اجتماعي" لا يقتصر على مجموعة المعارف والمعلومات السائدة أو المحصلة في مجتمع ما، وإنما ليشمل التقاليد والأعراف والقيم لينتظم في مؤسسات تعبر عنه وتنطق باسمه.
أمّا دورها فشبيه بدور النفس المجردة التي تقف وراء كل حركة من حركات البدن وخلجات القلب لتتحكم بالمسار المادي والمعنوي للإنسان، وفي هذا يقول مطهري: "إنّ روح كل مجتمع هي ثقافته الأصيلة".

2- دور المثقف:
المثقف "بالمعنى الاصطلاحي" هو الفرد الذي يتمتع بوعي اجتماعي خاص، يكون في الغالب منشأ لإرادة تغييرية في المجتمع، والتحصيل العلمي في هذه الأيام مادة ضرورية في بناء المثقف ولكنها غير كافية، حتى أنّه يمكن القول إنّ كل مثقف بالضرورة متعلم ولكن ليس كل متعلم بالضرورة مثقفاً... وهذا ما يسمى بالمصطلح المنطقي العموم والخصوص المطلق.
وعلى مستوى الدور يمثل المثقفون: ضمير المجتمع وعقله ولسانه، إنّهم دائماً نسبة قليلة من الناس وحتى من المتعلمين، ولكنهم غالباً خمائر التفاعلات الاجتماعية الكبرى والقوة الكامنة وراء ثبات السلطة وعدم ثباتها.

3- الثقافة الإسلامية:
إنّها مجموع المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والتقاليد والقوانين والعادات والسلوكيات والقيم المستمدة أساساً من مفهومات وتعاليم الإسلام، وبالتحديد من المتون الأساسية للدين الحنيف أي "القرآن والسنة"، وهذه الثقافة تتميز عن غيرها من الثقافات بأمور لابدّ من لفت الانتباه إلى أهميتها.
أ- الربانية: ونعني بذلك أنّ الثقافة الإسلامية ليست نتاجاً بشرياً خالصاً كما يظهر من تعريف الثقافة وإنما هي وليدة التفاعل البشري مع التعاليم الإلهية. وأهم مثقّف فيها هو الوحي في مقابل المجتمع، وأهم مثقّف فيها هو النبي – إذا صح التعبير – دون المفكر أو النابغة.
وهذه الخاصية تجعل الثقافة الإسلامية غير قابلة للتجاوز مع الزمن، فهي منشأ ووعاء لأي قفزة في مستوى الوعي الاجتماعي.
ب- الشمولية: تفسر الثقافة الإسلامية في منظومة فكرية متكاملة ظواهر الكون والحياة، وتكتنز موقفاً من التيارات الفكرية الوضعية دون أن نجد أدنى تناقض في مضامينها، إذ من المعلوم أنّه كلما كانت النظريات شاملة ومترامية الأطراف كلما أمكن أن تقع في تناقض يهدد وحدتها وتماسكها الداخلي.
ج- الأصالة: ونعني بها ما يقابل التركيب والتقليد، فالأطر الفكرية والاعتقادية لهذه الثقافة ليست مستمدة من تجارب الأمم الغابرة، وهذه الميزة لها تأثيرها الخاص على روح الاستقلال عند الأُمة التي تشعر بالاكتفاء الذاتي وبفرادة تجربتها من الناحية الثقافية والحضارية.
د- الإنسانية: إنّ وحدة المكوّن والمشّرع تتجلى في الإسلام تكاملاً بين الشريعة والفطرة، وهذا التكامل هو الضامن الأهم لتطبيق الشريعة، وقد شهدنا بالأمس القريب سقوط الأحكام الكنسية المتناقضة مع الفطرة البشرية، فحل الهجر بدل الطلاق، والخيانة الزوجية بدل تعدد الزوجات... وخسرت الماركسية معركتها مع الملكية الخاصة، ولم تفلح عمليات غسل الأدمغة والقمع الفكري طوال أكثر من نصف قرن من الزمن في تبديل نزعة التملك عند الإنسان، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم/ 30).

4- النخبة والمشروع:
إنّ من أهم سمات الدولة المتقدمة اليوم ما يمكن تسميته بحكومة النخبة، فالحاكم الفعلي هو المؤسسة التي تجمع أصنافاً من الخبراء في كافة قول المعرفة، ويتميزون غالباً بمستوى رفيع من الذكاء وقدرة كبيرة على جمع المعلومات وتنظيمها وتحليلها والاستفادة منها... وبفضل هذه النخبة تمكن الغرب من بسط سلطته على العالم، وأسست الدولة الأعظم حكومتها العالمية.
وفي تقديري أنّ الصحوة الإسلامية المتنامية استعادت الخطوة الأولى في طريق العودة إلى الذات، وأصبح واضحاً أنّ الأُمّة لا يمكن أن تستكمل عملية تحررها بغير تحكيم الإسلام في حياتها، وهذا هدف تشردنا إليه أيضاً أحداث التاريخ، فالسبب الأبرز لتفكك الأمة وانحلال شخصيتها هو سقوط الرابطة الإسلامية التي كانت تجمعها، وفقدان الأمل في إعادة إحيائها.
فلابدّ أن يبدأ أي مشروع يستهدف إعادة تكوين شخصية الأمة بنخبة تكون بمستوى عظمة الإسلام وتحديات العصر.
ما هي السمات الأساسية لهذه النخبة:
أ- في مقابل النموذج اللامنتمي الذي يقدمه الغرب لابدّ أن تكون نخبة أيديولوجية وعميقة التمسك بعقيدتها.
ب- وفي مواجهة التجارب الإنسانية الغنية والمتراكمة لابد أن تتمتع بالتخصص وبالقدرة على انتقاء ما يتلاءم مع مشروعها وعقيدتها في عملية انفتاح مدروس على تجارب الأمم ومنتجات العصر.
جـ- وفي مقابل مرض الحياد السلبي الذي يصيب معظم المثقفين عندما ييأسون من الوصول إلى السلطة لابدّ أن تكون نخبة ديناميكية فاعلة دائمة الحركة سريعة الاستجابة لهموم الناس وحاجاتهم.
د- وفي الختام لابدّ أن يتوازن بناؤها المعنوي مع بنائها المادي فتبقى الدنيا صغيرة في عينها مهما كبر الانجاز ومهما عظمت الانتصارات والمكاسب.

- معالم الدور:
يمكننا أن نلخص معالم الدور بأربع نقاط:
- رفع مستوى الوعي.
- صناعة إرادة التغيير.
- ترشيد المسار أو قيادة المسار إن لزم الأمر.
- الحفاظ على المكاسب والانجازات ونقلها سليمة من أمراض النفس إلى الأجيال الآتية.
أ- رفع مستوى الوعي: هذه المهمة تحتاج إلى قدرة على وصف الواقع كما هو لا كما يبدو، وتحديد مواضع الخلل بدقة، وتوجيه حواس الناس ومشاعرهم تجاه الحقائق المرة التي يراد اخفاؤها.
ب- أما إرادة التغيير: فإنّها تتناقض مع ميل الإنسان إلى المسالمة والاستقرار والخوف من زعزعة الواقع السيء خوفاً مما هو أسوأ، وهنا ينبغي أن نتمكن من إظهار المسار المخيف للأمور وابراز سلبيات الركون ووضع النتائج السيئة نصب الأعين.
ج- ترشيد المسار أو قيادته: إنّ الروح القيادية فيها من الموهبة أكثر مما فيها من الفن والعلم، وكثيراً ما يتصدر الصفوف على أثر الثورات رجال لم يكونوا في عداد النخبة بالمعنى الأخص للكلمة ولكنهم يتمتعون بمواهب قيادية عالية. هنا لابدّ من ترشيد المسار بدل النزاع على السلطة، فالقيام بدور الضمير أفضل في هذه الحالة من القيام بدور العقل.

- كيف تتم عملية الترشيد:
يقول أمين هويدي في مقالة تحت عنوان (المثقفون وأصحاب القرار): "إنّ على المثقف وهو يحاول التأثير على صاحب القرار أن يساعده على إيجاد حل لمشاكله" ومن واقع تجربتي الشخصية فإن عرض أي موضوع على صاحب القرار يمكن أن يكون بالصورة التالية:
1- المشكلة بمنتهى الاختصار.
2- البدائل المختلفة لحلها مع ذكر مزايا وعيوب كل بديل.
3- اختيار البديل الأكثر صلاحية لحل المشكلة القائمة من وجهة نظر المثقف أو المستشار.
4- فكرة عامة عن وسائل تنفيذ البديل والامكانات المتاحة لذلك.
وفي هذه الموضوع بالذات يقول هنري كسينجر: "تظل معظم الأفكار حبيسة في رؤوس أصحابها إلا إذا أقحمت في رؤوس وقلوب الرجال الأقوياء الذين في قدرتهم تحويل الدراسات إلى سياسات والتصورات إلى قرارات. وعلى حملة الأفكار أن يسعوا إلى رجال السلطة، فإذا اقتنع هؤلاء بالفكرة دبت فيها الحياة فأصبحت حقيقة ملموسة، وبدون ذلك تظل الأفكار مجرد وهم، وعلى صاحب القرار من جانب آخر أن يقترب من المشاكل القومية وأن يعرف العلاقة الحقيقية بين القوى التي تؤثر في إصدار القرار وتنفيذه، وأن يجعل العلاقة في خدمة الأغراض التي يريدون تحقيقها، لأنّ السياسي لا يقيّم بأفكاره بل بقدرته على تنفيذ تصوراته، وإلا أصبح كالفيلسوف، وعلى المثقف من جانب آخر ألّا يقف عند حد معيّن من المعرفة، بل عليه أن يسير في دروبها المتشعبة، وأن يرجع بين وقت وآخر إلى مكتبه أو معمله ليعيد شحن بطاريته، وإذا أهمل ذلك فسوف يتحول إلى مجرد إداري في جهاز بيروقراطي كان أساس اختياره له أنّه كان أحد المثقفين يوماً ما".
د- في الحفاظ على المكاسب والانجازات: في الطريق إلى القمة قد تطغى روحية الاخلاص والتفاني والتواضع على الاستعلاء والاستخفاف بالآخرين، ويكون هذا الطغيان المحمود غالباً سر الانتصارات والحصول على المكاسب...
وعند هذه المحطة الأخيرة (محطة الانتصارات والمكاسب) تبدأ الفتنة أو الامتحان، ويظهر مدى عمق الصفات الرسالية في شخصية الذين رافقوا زمن القطاف فاعتلوا المنابر وتصدّروا المكاتب، ويتبين – بعد أن تصبح المكاسب واقعاً ومؤسسات – ما إذا كانت الصفات الرسالية صبغة أو عجينة.
عند هذا الامتحان الكبير تصاب الأغلبية "إلا ما رحم ربي" بالغرور والنظر باستخفاف إلى الآخر، سواء كان رفيق جهاد قديم أو مشروع مجاهد في المستقبل، وفي كلا الحالين قد يكون المستخف به ولياً من أولياء الله الذين حُصّنوا من فتنة الغرور هذه بالفقر أو بالتواضع.
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام/ 53).
أمّا على مستوى السلوك العام فيترجم هذا الغرور والاستخفاف دائماً بشكل: استفراد في الرأي، استنكاف عن المشاورة، استئثار بثمرة جهد الآخرين، حساسية مفرطة من النقد البناء... حرص شديد على عدم تغيير الواقع الذي لم يبلغ بعد درجة طموح العاملين والمخلصين...
ولكن الدرس الأهم في سنن التاريخ يوضح أنّ التخلي عن تلك الصفات الرسالية التي كانت من أهم أسباب النصر سيؤدي إلى سقوط المكاسب وعودة الطغيان ولو بلباس جديد وشعارات جديدة، وعندها يكتشف هؤلاء المبدّلون أنّ الرسالة بمضامينها العميقة ينبغي أن تكون منهجاً وسلوكاً في أي محطة من محطات الحياة، لا مركباً يُترك على الشاطىء عندما نصل إلى يابسة الأهداف الأولى.
إنّ نور الفطرة المتوقد في قلوب الناس – على حد تعبير بهشتي – يبقى دائماً وقود التغيير وشعلة تنير درب القادة... مهما علا كعبهم وترسخت دعائم وجودهم، بل إنّ صقل هذا النور وعكسه في مرآة الواقع هو وسيلة دوام الحكم الصالح وبقاء هويته الإنسانية.
فالنخبة القائدة... هي نخبة وقائدة بقدر ما كانت واسطة بين الأمة والتاريخ، وعقل القائد خلاصة الأُمّة وروحه نسمة في رياح مشاعرها... كل فرد فيها مهما دنت مرتبته الاعتبارية قائد له بصدقه، وهو دليلهم جميعاً بعقله، وفي هذا يقول أمير المؤمنين (ع): "فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفضوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس اعظام لنفسي، فإنّه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل".

المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 39 و40 لسنة 1993م

ارسال التعليق

Top