• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإستقامة ومقوماتها في القرآن الكريم

الشيخ حسين الربيعي

الإستقامة ومقوماتها في القرآن الكريم
  ◄(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأحقاف/ 13-14).   - ما هي الإستقامة؟ الإستقامة: هي لزوم المنهج المستقيم والثبات عليه بمواصلة الحركة فيه وحفظه من التحريف وأداء جميع متطلباته، ولو كلف ذلك التضحية بالغالي والنفيس. إنّ الثبات والإستقامة مرتبط بمدى صلاحية المبدأ الفكرية والعملية. وشموله لجميع جوانب حياة الإنسان والإيمان به والوعي الكلي له والعمل به وفق مقرراته الموضوعية، والحركة نحو تحقيق أهدافه على المدى البعيد... ومقومات الإستقامة هي: صلاحية المبدأ وفهمه فهماً سليماً، بل وعيه وعياً عميقاً، والتفاني من أجله فكراً وعاطفةً وسلوكاً. أما صلاحية المبدأ فهو الشرط الأساس في استقامة الإنسان عليه. وهنا يجدر بنا أن نعرض بشكل إجمالي لشروط المبدأ الصالح الذي يمكن للإنسان الثبات رغم كل الظروف والصعاب، أما تلك الشروط فهي: 1-      أن يكون قابلاً للإثبات العقلي والإستدلال المنطقي، وبعبارة أخرى: أن لا يكون مخالفاً للعقل السليم والمنطق الصحيح ونقول العقل السليم، لأنّ هناك ما يشبه العقل وليس من العقل في شيء. فقد ورد عن الإمام الصادق (ع): أنّه سئل ما العقل؟ قال (ع): ما عبد به الرحمن واكتسب الجنان، قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال (ع): تلك النكراء[1]. تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل[2]. 2-      أن يعطي تفسيراً واضحاً وكاملاً للحياة والوجود يجيب فيه على المسائل الأساسية الكلية المرتبطة بالوجود الكلي للإنسان والكون والحياة عموماً، مبدأً ومعاداً. ولا يكتفي بالتفسيرات الجزئية الناقصة على أن يكون هذا التفسير ثابتاً، وقابلاً للإعتماد والإدامة إلى آخر مطاف حياة الإنسان. 3-               أن تكون له هدفية بناءة وسليمة وواقعية تخلق في الإنسان الشوق للحركة في تحقيق تلك الأهداف. 4-               أن يكون له القدرة على إيجاد القدسية في نفوس معتنقيه. 5-               أن يكون قادراً على خلق الشعور بالمسؤولية في أعماق حامليه. 6-               أن لا يكون متعارضاً مع الغرائز والدوافع الطبيعية في الإنسان كما هي في الرهبانية المسيحية. 7-      أن يحتوي المبدأ على نظام كامل وشامل لجميع جوانب الحياة مترابطاً مع خطه العقائدي، ومستنداً إليه، ومنطلقاً منه... بقي علينا أن نشير بإيجاز إلى معالم الشخصية المبدئية من ناحية الإيمان بالمبدأ، والوعي له، والعمل به، والتحرك نحو تحقيق أهدافه. ولا شك أنّ هذه العوامل مترابطة ترابطاً جذرياً لا يمكن أن يفصل بعضها عن البعض الآخر... فلا يصح الإيمان إذا لم يعتمد على الوعي العميق، والفهم السليم القائم على الأدلة العقلية، والبراهين المنطقية. وكل إيمان لا يدعمه العلم والمعرفة الصحيحة إيمان واهٍ يمكن أن يتزلزل وينهدم بسرعة، وكل علم لا يؤدي إلى عمل وبناء لقلقة لفظية فارغة لا قيمة لها. يقول مولانا أمير المؤمنين (ع): "العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل". وفي ضوء هذا نستطيع القول: إنّ الإستقامة المبدئية هدف قائم بذاته تتحقق من خلاله كل الأهداف الأخرى. وما لم تتحقق الإستقامة في داعية المبدأ لا يمكن أن يحقق بقية الأهداف: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) (هود/ 112). ولأهمية وعظمة هذا الأمر قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله (ص) آية كانت أشد عليه ولا أشق من هذه الآية. ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرعَ إليك الشيب يا رسول الله: "شيبتني هود والواقعة"[3].   - الإستقامة في القرآن الكريم: هي الثبات على العقيدة الإلهية، بالإلتزام الواعي المُحكَم بالأوامر، والإنتهاء عن النواهي، ومواصلة الحركة الجدية الفاعلة، لنشر وتحكيم شرعة الله في الأرض، وتحقيق إرادته. والصبر على تجاوز العقبات والعوائق المعترضة لخط السير نحو تحقيق الأهداف الكلية لرسالة السماء. وبتعبير أدق: هي قوة إيمانية، وطاقة رسالية تنشأ في النفس وتترسخ فيها، من خلال المعرفة بالله، والعلم بأحكامه، والحب له فتمنحها الصمود الحركي في خط الإيمان، والمقاومة العنيفة للتيارات المعاكسة والكدح المتواصل في طريق ذات الشوكة بدون وهن، ولا ضعف ولا استكانة، ولا تراجع. رجاء رضاه فقط، والتقرب إليه بقلب مطمئن عامر بالإيمان والحيوية، موقنة بالنصر على كل حال.. وبعد فهي كرامة إلهية يمنحها الله لخُلَص عباده الصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس. إنّ الشخصية القرآنية لها مميزات وأبعاد رسالية ابتنت منها. وقامت عليها نذكرها بشكل إستطرادي مختصر دون الدخول في التفاصيل، لأنها خارجة عن البحث، وهذه المميزات مقتبسة من أحاديث أهل البيت – عليهم السلام – خصوصاً زبور آل محمد، "الصحيفة السجادية" وأبرز تلك الخصائص هي: إنها مؤمنة بوعد الله تعالى إيمان يقين لا ريب فيه، وبما أنّ هذه الميزة هي الأساس الذي يقوم عليه البناء الفوقي للشخصية نجد أئمة الهدى يتوسلون بالله تعالى أن يثبتها فيهم رغم ثباتها فيهم قولاً وفعلاً. فقد ورد في دعاء أبي حمزة عن السجّاد (ع): "اللّهمّ إني أسألك إيماناً لا أجلَ له دون لقاءك، أحيني ما أحييتني عليه، وتوفني إذا توفيتني عليه، وابعثني إذا بعثتني عليه.. اللّهمّ إني أسألك إيماناً تباشر به قلبي ويقيناً حتى أعلم أنّه لم يصبني إلا ما كتبتَ لي". كما ورد في أدعية أخرى: "اللّهمّ صلِّ على محمد وآل محمّد، وهب لي ثبات اليقين، ومحض الإخلاص، وشرف التوحيد، ودوام الإستقامة، ومعدن الصبر...". راضية بقضاء الله، موقنة بأنّ هذا القضاء لخيرها، وصلاحها وتكاملها. قائلة في مواجهة كل الصعاب: (لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) (التوبة/ 51)... وهذه السمة من السمات الأساسية في شخصية المسلم. لأنها تملأ القلب طمأنينة وتجعله راضياً بكل ما يلاقي في سبيل الله تعالى. فعن الإمام علي بن الحسين (ع) قال: "الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله، ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحب، أو كره لم يقضِ الله عزّ وجلّ له فيما أحب أو كره إلا ما هو خير له"[4]. وعن أبي جعفر (ع) قال: "أحق خلق الله أن يسلم لما قضى الله عزّ وجلّ من عرف الله عزّ وجلّ، ومن رضي بالقضاء أتى عليه القضاء وعظم الله أجره، ومن سخط القضاء مضى عليه القضاء وأحبط الله أجره"[5]. مُسَلِمةً لأمر الله تسليماً مطلقاً من دون لماذا؟ وكيف؟ ومتى لا أمر لها مع أمره وليس لها قدرة على الخروج من سلطانه. متطلعة إلى بلوغ درجة إيمانية عُليا، ونية رشيدة، وسلوك طريقةٍ لا زيغَ فيها، وزيادة في العمل الصالح وَجِلَة من عدم قبوله. طامحة إلى تطهير نفسها من ذمائم الأخلاق، ومن أدران المعاصي، عاملة على تفريغ قلبها من غير حب الله تعالى، مائلة إلى طاعته، جارية في سبيله على كل حال. زادها من الدنيا تقوى الله، ورغبتها فيما عنده من النعم والخيرات والرحمة في دار الخلود. وقبل ذلك ساعيه لنيل رضاه تعالى. فرضا الله غاية كل عمل عندها. لا تنس ذكر الله فيما أولاها من النعم، ولا تغفل إحسانه فيما ابتلاها من الفتن. فلا تيأس من إجابته وإن أبطأ عنها في سراء، أو أضراء، أو شدة أو رخاء، أو عافية، أو بلاء... راجية أن يغنيها الله من فضله، وأن ينفرد بحاجتها وأن يتولى كفايتها، وأن لا يوكلها إلى أحد من خلقه قريب، أو بعيد... طالبة العون منه على شهواتها. متحسرة على الذنوب متورعة عن المحارم والشبهات. هواها فيما عند الله، ورضاها فيما يرد عليها منه على كل حال... مهتدية بنور الله في الظلمات الفكرية، والإجتماعية والسياسية مستضيئة بمبادئ الله تعالى أحكامه من كل شك. أشغل قلبها خوف غم الوعيد، وشوق ثواب الموعود... تعمل الحسنات شوقاً، وتهرب من السيئات فرقاً وخوفاً، متحفظة من الخطايا، محترسة من الزلل في حال الرضا والغضب. مؤثرة رضا الله تعالى على رضا كل أحد على درجة واحدة في الأولياء والأعداء. لا يخرجها الغضب من العدل، ولا يدخلها الرضا في الجور. تستقل الخير من أعمالها ولو علت الجبال، وتستكثر الشر منها ولو صغر عن الذرة... صابرة في الشدائد، وقرة في الهزاهر، شاكرة في النعماء. دعائها في الرخاء كدعائها في الشدة والضراء. سالمة الصدر من الحسد فلا تحسد الناس على ما أتاهم الله من فضله. ولكنها ترجو أن ينعم الله عليها بأفضل ما أنعم به على الآخرين. ملتزمة بعهد الله الذي قطعته على نفسها أن لا تشرك به شيئاً، ولا تُخلف له عهداً، ولو در عليها كل أموال الدنيا كلها. لعلمها أنّ مخالفة العهد خيانة والله لا يحب الخائنين. صادقة في قولها وفعلها مع الله ورسوله وأوليائه وعامة الناس وخاصتهم، مؤثرة الصدق حتى لو أضر بها، متجنبة الكذب حتى لو خدم مصالحها... لا يجد الوهن إلى نفسها طريقاً عند ملاقاة الشدائد والصعاب في طريق الله... وإنما تمضي بقوة، وجدارة غير ابهة بكل ما أصابها في سبيل الله. بل تحتسبه عند الله، وتطمع بعفوه، ومغفرته، ورضوانه. إذا رأت طغيان الباطل، وتعاليه، واجتماعه، ووحدته لحرب الحق وأهله لا ينقص ذلك من إيمانها شيء وإنما تزاد إيماناً وجهاداً، مواصلة في الكدح إلى الله تعالى. دائمة التفكير في عظمة الله تعالى المتجلية في مخلوقاته من أصغر مخلوق إلى أكبر جرم سماوي. وفي حركة التاريخ وجريانه ومتغيراته، وسننه، وما قام به أئمة العدل، وأئمة الضلال، وعاقبة كل منهما. معرضة عن اللغو وعن كل عمل لا يعود على الإنسانية بفائدة مادية أو معنوية. مسارعة إلى الخيرات لا يسبقها سابق، ولا يمنعها طمع ولا بخل، ولا جبن، ولا يشغلها طلب الدنيا عن الآخرة، بل طلب الدنيا عندها وسيلة للفوز بنعيم الآخرة الدائم. مبلغة رسالة الله إلى الناس، ومجاهدة في سبيله لا تأخذها في الله لومة لائم، ولا تخشى في هذا المسلك غير الله تبارك وتعالى. تدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة. تلك بعض مميزات الشخصية القرآنية وكل تلك الخصائص إرتباط بالله تعالى، ولا نشك أنّ من إرتبط بالله تعالى إرتباطاً واعياً، وصادقاً، ومخلصاً فلن يثنيه شيء، ولن تزلزله شدة مهما بلغت، فإنّ جوهر الإسلام وروحه هو الإرتباط بالله. وما عداه في الإسلام وروحه هو الإرتباط بالله. وما عداه في الإسلام فهو متفرع منه وراجع إليه... وما العبادات والأذكار. وجميع الفرائض من واجبات، ومستحبات ومكروهات، ومحرمات والمباحات بكل أحكامها إلا وسيلة لتعبيد الإنسان لله، وتحقيق ملكة التقوى فيه... ويمكن تقسيم العرض القرآني للإستقامة إلى ثلاثة أقسام هي: أوّلاً: التأكيد على الإستقامة. ثانياً: بيان عاقبة المستقيمين. ثالثاً: وسائل الإستقامة. أمّا التأكيد عليها فقد جاء بصيغة الأمر القطعي الذي لا يقبل التردد والتراجع. ومن المعلوم أنّ الأمر يفيد الوجوب. يقول تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود/ 112). (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى/ 15). (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة/ 7). إذا تأملنا جيِّداً في هذه الآيات نجد أنّ الأوامر قطعية ملزمة بوجوب الإستقامة والثبات على إمتثال أوامر الله تعالى، والصمود في وجه العدوان على حرمات الله حتى يرتد منحسراً، كسيراً، مخذولاً، خاسئاً ذليلاً، وبغير الإستقامة لا يمكن أن يتحقق شيء من أهداف الإسلام العظيم ولذا قال أمير المؤمنين (ع): "من استقام فإلى الجنة، ومن زل فإلى النار". وجاء تأكيده على الإستقامة بعبارة أوضح في قوله (ع): "العمل العمل، ثمّ النهاية النهاية، والإستقامة الإستقامة". وأما القسم الثاني من آيات الإستقامة فقد بينت عاقبة المستقيمين على دينهم الثابتين على عقيدتهم، وزفت لهم البشرى بالإمداد الغيبي، ونصرة عباده المطهرين من الملائكة المقربين إلى الله في الدنيا والآخرة. كما بشرهم تعالى بالجنة والنعيم الدائم يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (فصلت/ 30-31). إنّ سعادة المجتمع البشري وإزدهاره بالخير والبركات مقرون بإستقامة الأُمّة على منهاج أمر الله تعالى وعلى الطريقة الصالحة في عبادته، ونيل تقواه مما يُهطل السماء رحمة وبركة على أهل الأرض. (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن/ 16). (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة/ 66). وأما القسم الثالث من آيات الإستقامة فقد بينت السبل والوسائل المؤدية إلى الإستقامة نذكر منها على سبيل الإجمال:   1- الإيمان بالإمداد الغيبي: يستمد المؤمن العون من الله تعالى على تجاوز العقبات في طريقه. لعلمه بأنّه بعين الله تعالى لن ينساه، ولن يقليه. وأنّه معه أينما حَل، وأينما ارتحل.. إنّ الشعور بالمعية الإلهية يمنح الإنسان قوة جبارة تتناسب تناسباً طردياً مع درجة إيمانه ففي الساعات الحرجة، والظروف الصعبة نجد الحبيب المصطفى (ص) حيث رأى الحزن والإضطراب بادياً على صاحبه وهما في الغار لا ناصر لهما ولا معين، وكل العالم يطاردهما ليستأصل شوكة الإسلام يقول له: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة/ 40)، علام الحزن والإضطراب إذا كانت يد الله هي التي تسددك، وتعينك، وتوجهك، وتكفيك كيد الأعداء؟! وتأكيداً لهذه الحقيقة جاءَت آيات الإستقامة صريحة تبشر المؤمنين بالإمداد الغيبي لهم معنوياً ومادياً. متجسداً بإنزال الملائكة لنصرتهم في جهادهم ضد العدو الكافر، يقول تعالى في وصف هذه الحقيقة: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال/ 9-10). (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (الأنفال/ 12). وقوله تعالى: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (آل عمران/ 125). إنّ هذا الإحساس بالإمداد الغيبي يجعل المؤمن قوياً مستقيماً لا يطلب العون من غير بارئه، وهذا هو السلاح الجبار الذي تسلح به رسل الله على طول خط الرسالة، فقد كانوا يستمدون النصر والعون من هذا الإيمان والشعور بالإمداد الغيبي، وخير مثال على ذلك خليل الرحمن (ع) حين يُلقى في النار لم يطلب العون حتى من جبرئيل (ع) حين عرضه عليه كما في بعض الروايات، ولم يغير هذا الموقف من شعوره وإحساسه بنصر الله وثقته الكاملة به، ولم يجره إلى الخوف، أو التراجع قيد أنمله... وهذا موسى (ع) حين قال له أصحابه: إنا لمدركون، يعني من جيش فرعون المطارد لهم وهم متوجهون إلى البحر، حيث البحر أمامهم والعدو خلفهم أجاب: (كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء/ 62). وهكذا رأينا خاتم الرسل (ص) في ساعة العسر والشدة حين أقبلت زحوف قريش وأمامها عدد قليل من المؤمنين وعُدد ضَعيفة، يقول إبن مسعود: ما سمعت مُناشِداً ينشد أشد من مُناشَدة محمد (ص) يوم بدر جعل يقول: "اللّهمّ إني أنشدك عهدك ووعدك، اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد"[6]. تلك هي المواجهة الحقيقية بقوة الله لا بقوته. حين تكالبت قوى الكفر والشرك والنفاق وأجمعت على إطفاء شعلة التوحيد وأقبلت من كل مكان صوب المدينة المنورة. وهكذا لا زال هاتفاً متضرعاً بخشوع تتهافت له الجبال الرواسي وترتعد منه السماء حتى يسقط رداؤه[7] يستمطر النصر ويستمد العون من الله تعالى...   2- مواصلة ذكر الله تعالى: إنّ لكل مبدأ قاعدة ينطلق أتباعه منها، ويرجعون إليها، يستمدون العون منها... ولما كان الإيمان بالله هو قطب الرحى في التصور الإسلامي. مبدأً، وحركة، ومعاداً. بل كل شيء يتعلق بحياة الإنسان، وتقرير مصيره في الدنيا والآخرة، وهذا هو مدلول الشعار الإسلامي: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 156)، فقد سمع أمير المؤمنين رجلاً يتلفظ بهذا الشعار، فقال (ع): إن قولنا "إنا لله" إقرار على أنفسنا بالملك، وقولنا "وإنا إليه راجعون" إقرار على أنفسنا بالهلك"[8]. وما دام الإنسان معرضاً للغفلة والنسيان، وكان ذلك من أهم أسباب الزلل والإنحراف عن جادة الحق، لذا يلزم على المؤمن أن يواصل ذكر الله بطاعته، يقول رسول الله (ص): "من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن". يقول العلامة الطباطبائي معلقاً على الحديث: "في الحديث إشارة إلى أنّ المعصية لا تتحقق من العبد إلا بالغفلة والنسيان، فإنّ الإنسان لو ذكر ما حقيقة معصيته وما لها من الأثر لم يقدم على معصية"[9]. ومن هنا كانت مواصلة الذكر حصانة ومناعة تجعل المؤمن في يقظة وحذر وانتباه تمنعه من الوقوع في المخالفات الشرعية. إذن الذكر الدائم عامل مهم بل من أهم العوامل التي تؤدي إلى الإستقامة المبدئية، وحينئذٍ يكون الإنسان في شعور دائم بأنّه بعين الله، وأنّ الله معه هو دليله ومعينه. ولهذا جاء البرنامج العبادي في الإسلام رابطاً للإنسان المؤمن بالله عزّ وجلّ في كل حالة من حالاته لئلا يتعرض للإنحراف ولذلك نجد في التعاليم الإسلامية ذكراً خاصاً لكل حالة. وما من وضع خاص من أوضاع الإنسان سواء كان حركة أو سكوناً إلا وله ذكر خاص من نوم، أو أكل، أو لقاء، أو مجلس عام، أو خاص، أو حرب أو سلم. ولعل هذا هو مدلول قوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) (النساء/ 103)، وهو كناية عن الذكر المستوعب لجميع الأحوال[10]. وقوله تعالى في وصف عبادة الذاكرين: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (آل عمران/ 191)، وقد روي عن رسول الله (ص) أنّه كان يذكر الله في أحواله. إنّ استمرارية الذكر تحفظ الإنسان من الزيغ والإنحراف وبذلك تتحقق الإستقامة على خط الإيمان... فالصلاة اليومية، وصلاة الجمعة، والعيدين وغيرها من الصلوات الواجبة والمستحبة محطات أمان من الغفلة والنسيان. ولذا كان الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، بل اعتبر مواصلة الذكر صلاة وهو أبلغ تعبير عن أهمية الذكر في إستقامة حياة الإنسان الإيمانية، فعن الإمام الباقر (ع): "لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله قائماً كان أو جالساً، أو مضطجعاً إنّ الله تعالى يقول: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[11] (آل عمران/ 191). وليست الصلاة وحدها ذكراً بل إنّ الصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلها فرائض تشد الإنسان إلى خالقه إذا لاحظنا الشرط الأساسي فيها وهو "نية التقرب إلى الله" حيث لا يقبل أي عمل بدونها وحدها بلا ضميمة أخرى إليها. وباجماع الفقهاء إنّ الإنسان إذا أدخل معها أي ضميمة أخرى أو قصداً آخر فقد العمل قيمته الرسالية مهما كان كبيراً. ولو بمستوى بذل النفس، لأنّ الأصل في الإسلام: أنّ قيمة العمل تنشأ من الدوافع التي ينطلق منها وليس من المنافع التي يتمخض عنها. ولم يقتصر الإسلام في مسألة الذكر على الفرائض اليومية المعروفة. بل شمل جميع شؤون الإنسان الأخرى، ليكون ذكر الله تعالى عنصراً فعالاً في تربيته، وبناء شخصيته وهذا يواكبه من مبدأ تكوينه حين يوضع نطفة في رحم أما حيث يسمى الواضع باسم الله، ومروراً بيوم ولادته حيث يُؤذن باُذنه اليمنى ويقام في اليسرى – وانتهاءً برحيله من هذه الدنيا حيث يخاطب "يُلَقن" من باب مخاطبة الروح للروح – بأسس الإسلام العظيم: الله، الرسول، القرآن، الإمام، القبلة، القيامة في آخر محطة يفارق فيها الدنيا ويحل في الآخرة...   الهوامش:
[1]- النكراء: هي الدهاء والفطنة وهي جودة الرأي، حسن الفهم... [2]- الكافي 16:3. [3]- تفسير الميزان، 66:11. [4]- أصول الكافي، ج2 باب الرضا بالقضاء. [5]- المصدر نفسه. [6]- السيرة النبوية لإبن كثير 419:2. [7]- المصدر نفسه:411. [8]- نهج البلاغة الكلمات القصار رقم 99. [9]- الميزان في تفسير القرآن 32:1. [10]- تفسير الميزان 63:5.

[11]- بهار الأنوار 158:93.

   المصدر: مجلة رسالة القرآن/ العدد 7 لسنة 1412هـ

ارسال التعليق

Top