• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التدين الحقيقي في عصر العولمة

أ. د. محمد سيد طنطاوي

التدين الحقيقي في عصر العولمة
◄التدين بمعنى اعتناق الإنسان لعقيدة معينة يؤمن بها ويدافع عنها أمر طبيعي عند العقلاء. وللأستاذ الكبير عباس محمود العقاد – رحمه الله – في كتابه القيم: "الله" كلام نفيس في هذا المعنى، فهو يقول: "في الطبع الإنساني جوع إلى الاعتقاد والتدين، كجوع المعدة إلى الطعام". ثمّ يقول – رحمه الله –: ولنا أن نقول: إنّ الروح تجوع كما يجوع الجسد، وإنّ طلب الروح لطعامها كطلب الجسد لطعامه. حق لا يقبل الجدل أنّ الحاسة الدينية بعيدة الحضور في الإنسان. وحق لا يقبل الجدل أنّ الإنسان يجب أن يؤمن، ولا يستقر في وسط هذه العوالم بدون إيمان. وقد اتفق العلماء المقابلة بين الأديان على تأصيل العقيدة الدينية في طبائع بني الإنسان منذ أقدم أزمنة التاريخ. ويقول فضيلة الشيخ الدكتور محمود حب الله – رحمه الله – في كتابه الجليل: "الحياة الوجدانية والعقيدة الدينية": "والعقيدة بعد ذلك حاجة نفسية مهيمنة، لا يتمكن الإنسان من الحياة النفسية الراضية بدونها، والذين يظنون أنهم قد حرروا أنفسهم من العقائد ومن التدين، قد خالفوا ما هو مستكن في نفوسهم، لأنّهم في قرارة أنفسهم معتقدون بخرافات وبغير خرافات كما يعتقد أي فرد من الناس. لقد اعتقد الإنسان منذ أقدم العصور في وجود قوة مؤثرة فيه وفي ذلك العالم، وكان ذلك الاعتقاد في الشمس وفي الأصنام وفي غيرهما، وكانت وظيفة الرسل الكرام هي إخراج الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد. ثمّ يقول – رحمه الله –: "العقيدة الدينية، والتدين بديانة ما، حاجة نفسية مسيطرة على عقل المرء وشعوره، ووجدانه، إذ هي مشبعة لميوله الغريزية والعقلية، وهي حاجة تطلب ولابدّ من أن تشبع، وإذا لم توجد اخترعت ثمّ تحكمت، ولو لم يكن للعقائد الدينية في نفس الإنسان أساس، لعز تبليغها إليه، ولآستحال الإيمان بها.." والتدين الحقيقي هو الذي ينبع من العقيدة السليمة، التي تتمثل في إخلاص العبادة لله الواحد القهار، وفي الإيمان برسله وبملائكته وبكتبه وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. ونحن نقرأ القرآن الكريم فنجد أنّ كلّ رسول أرسله الله – تعالى – إلى الناس كانت الكلمة الأولى التي يقولها لقومه: يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره. قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ...) (الأعراف/ 59). وقال تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ...) (الأعراف/ 65). وقال عزّ وجلّ: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ...) (الأعراف/ 73). وقال سبحانه: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ...) (الأعراف/ 85). ويجمل القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 25). وأما الكلمة الثانية التي وصى بها كل نبي قومه فهي دعوتهم إلى التحلي بمكارم الأخلاق، من الصدق والأمانة، والعدل في الأقوال والأحكام، والطهارة والعفاف في السلوك، والتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان. التدين الحقيقي قد ذكر القرآن الكريم صفات أصحابه في عشرات الآيات القرآنية، ومنها قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال/ 2-4). ومنها قوله سبحانه: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ 8 وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى/ 36-42). التدين الحقيقي.. قد ذكر النبيّ (ص) مناقب أصحابه في عشرات الأحاديث الشريفة، ومنها قوله (ص): "المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن مَن أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر مَن هجر ما نهى الله عنه". ومنها قوله (ص): "المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان". والمقصود بالقوة هنا: أن يكون المؤمن قوياً في دينه، في خلقه، في سلوكه، في استقامته، في عفافه، في دفاعه عن الحق، وفي إزهاقه للباطل. التدين الحقيقي هو الذي يكون صاحبه ملتزماً التزاماً تاماً، ومؤدياً أداء تاماً، ومطبقاً تطبيقاً تاماً لأحكام الإسلام ولآدابه، ولأوامره، ولنواهيه، وكل ما جاء به الرسول (ص) من عند ربه – عزّ وجلّ ويهمني هنا أن أشير إلى أنّ لفظ (الإسلام) بمعنى إخلاص العبادة لله – تعالى – هو دين وملة جميع الأنبياء، وقد أكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة في كثير من آياته. فهذا سيدنا نوح – عليه السلام – يقول لقومه: (يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس/ 71-72). وهذا سيدنا إبراهيم (ع) مدحه الله تعالى مدحاً عظيماً لأنّه اخلص العبادة لخالقه، وأسلم وجهه له. قال تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 130-131). ولم يكتف سيدنا إبراهيم (ع) بإسلام وجه لله – تعالى – بل وصى أبناءه من بعده بذلك، وأحد أحفاده وهو سيدنا يعقوب (ع) قد وصى أولاده بذلك أيضاً. قال تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة/ 132-133). وهذا سيدنا يوسف – عليه السلام – يقص علينا القرآن أنّه في أواخر حياته تضرع إلى الله تعالى بقوله: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف/ 101). وهذا سيدنا موسى – عليه السلام – يقول لقومه: (.. يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) (يونس/ 84). وهذا سيدنا عيسى (ع) يقول لقومه: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)؟ فيجيبه الْحَوَارِيُّونَ (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران/ 52-53). بل إنّ فرعون عندما أدركه الغرق قال: (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس/ 90). وملكة سبأ عندما تبيّن لها الحق قالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل/ 44). ولقد بيّن لنا القرآن بآيات كثيرة أنّ الدين الذي ارتضاه الله لعباده ولا يقبل ديناً سواه هو الإسلام فقال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران/ 85). ونظراً لأنّ موضوع حديثي هو التدين الحقيقي في عصر العولمة، وقد بينت بإيجاز جانباً من صفات أصحاب التدين الحقيقي. ونظراً لأني حتى كتابة هذه السطور لم أفهم المقصود من كلمة "العولمة" فهماً جامعاً مانعاً كما يقولون، ونظراً لأنّ الحكم على شيء فرع عن تصوره، كما قال مشايخنا، فإني أضع عدة تصورات لهذه الكلمة فأقول: إذا كان المقصود بها أنّ الناس جميعاً في هذا العالم، عليهم أن يتعارفوا وأن يتواصلوا وأن تزول الحواجز فيما بينهم، وأن يتبادلوا المنافع التي أحلها الله تعالى تبادلاً يقوم على العدل وعلى الصدق وعلى منفعة الجميع... أقول: إذا كان المقصود بهذه الكلمة هذا المعنى، فنحن كمسلمين نرحب بها، لأنّ الله – تعالى – قد أخبرنا في كتابه، أنّه سبحانه قد أوجد الناس جميعاً من أب واحد ومن أم واحدة.. ومن الآيات القرآنية التي أكدت هذه الحقيقة قوله – تعالى – في أول آية من سورة "النساء": (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً...)، لقد افتتحت السورة الكريمة بهذا النداء الشامل لجميع المكلفين من وقت نزولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وذلك لأنّ لفظ الناس لا يختص بقبيل دون قبيل، لا بقوم دون قوم، ولأنّ ما في مضمون هذا النداء من إنذار وتبشير ومن أمر بمراقبة الله – تعالى – وخشيته، يتناول جميع أفراد المجتمع الإنساني. وقد تضمن هذا النداء لجميع الناس تنبههم إلى أمرين. أوّلهما: وحدة الاعتقاد بأنّ ربّهم جميعاً واحد لا شريك له، هو الذي خلقهم، وهو الذي يرزقهم، وهو الذي يحييهم، وهو الذي يميتهم. وثانيهما: وحدة النوع والتكوين، إذ الناس جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم قد انحدروا من أصل واحد وهو آدم (ع). والمعنى: يا أيها الناس اتقوا ربكم بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما نهاكم عنه، وبأن تؤدوا ما كلفكم به على الوجه الذي يرضيه، فهو سبحانه الذي أوجدكم من نفس واحدة هي نفس أبيكم آدم (ع)، وذلك من أظهر الأدلة على كمال قدرته، ومن أقوى الدواعي التي تحملكم على التعاطف والتراحم والتعاون فيما بينكم، إذ أنتم جميعاً قد أوجدكم سبحانه – من نفس واحدة. وشبيه بهذه الآية قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13). وإذا كان المقصود بكلمة "العولمة" أن يتبادل الناس على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم واتجهاتهم المنافع التي أحلها الله تعالى لهم، سواء أكانت هذه المنافع عن طريق الزراعة أو الصناعة أم غير ذلك، فنحن من الناحية الشرعية لا نرى بأساً في ذلك. ولكن الذي لا نقبله هو أن يكون هذا التبادل بطريقة تقوم على الظلم والابتزاز واستغلال حاجة المحتاج، وإلحاق الضرر بالأُمّة، والذي يقدّر ذلك ويحكم به ويرضى العقلاء بحكمه، هم أهل الخبرة في كل شأن من شؤون الحياة، امتثالاً لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل/ 43). ففي مجال الفقه نسأل الفقهاء، وفي مجال الطب نسأل الأطباء، وفي مجال الصنعة نسأل أهل الخبرة في الصناعة، وكذلك الحال في مجال الزراعة والسياسة والاقتصاد. وذلك لأنّه إذا كان سؤال أهل الخبرة، والاستجابة لرأيهم واجباً فيكل وقت، فهو في زماننا الذي تنوعت التخصصات وتكاثرت فيه الخبرات أوجب وألزم. وإذا كان المقصود بالعولمة نشر العلم النافع والثقافة التي تنير العقول، وتهدي القلوب، والحضارة التي ترقى بالأفراد والجماعات والأُمم إلى ما يُيَسّر لها الحياة إلى ما هو أفضل وأكمل، فنحن كشرعيين لا نرى مانعاً من هذا الاتجاه.. وذلك لأنّ شريعة الإسلام تدعو أتباعها إلى التسلح بسلاح العلم النافع، وإلى أن نسعى إلى طلبه مهما بعدت المسافات، وطالت الأسفار.. ونحن الآن في عصر لا تتنافس فيه الأُمم بكثرة عدد أفرادها، ولا باتساع أراضيها، ولكننا في عصر تتنافس فيه الأُمم بالعلم المتنوع والراسخ والصحيح والعميق والمتطور في كل مجال من مجالات الحياة. ونحن نؤمن بأنّ الحضارات – عند العقلاء – تتعاون ولا تتصارع، وتتآزر ولا تتدافع، وتتصالح، ولا تتنازع، وتتقارب ولا تتباعد، وتتآخى ولا تتعادى. ونحن نعني بالحضارة كل تقدم مادي ومعنوي يسعد الإنسانية بشتى مطالبها وفي مختلف شؤونها، ولا سعادة للإنسانية إلا في اتباعها لما أمر الله تعالى به أو نهى عنه. ولا نرى مانعاً يمنع من أن ينتفع الغرب بحضارة الشرق، وأن ينتفع الشرق بحضارة الغرب، وأن ينتفع أهل الجنوب بحضارة أهل الشمال، مادامت هذه الحضارات لسعادة الإنسانية، وللتحلي بمكارم الأخلاق. أما إذا كانت "العولمة" يقصد بها: أن تعمم دول معينة ثقافتها الخاصة ومناهج تعليمها على غيرها من الدول التي تخالفها في عقائدها وفي مناهج تعليمها. فهذا ما لا نقبله ولا نرضاه، ونرفضه بكل صلابة وبكل حزم، لأنّ لكل دولة عقائدها وشرائعها وقيمها وآدابها التي لا يصح لغيرها أن يتدخل فيها. وأيضاً إذا كانت "العولمة" المقصود بها أن تُخضع دول معينة، دولاً أخرى، لسيطرتها الاقتصادية والمالية والسياسية، بأسلوب يبدو فيه الابتزاز والتهديد والظلم والبغي... فنحن أيضاً نرفض هذا الاتجاه بكل صوره وبكل أشكاله وألوانه. ونحب أن نقول لكل من يخالفنا في عقائدنا: إنّ دين الإسلام يمد يده بالسلام وأنّه لا إكراه فيه على العقائد لأنّ الإكراه على العقائد لا يأتي بمؤمنين صادقين، وإنما يأتي بمنافقين كذابين، وإنّ شريعة الإسلام تأمر أتباعها بأن يسالموا كل من يسالمهم، وأن يقاوموا كل من يعتدي على حق من حقوقهم، وميزان ذلك نراه في آيتين كريمتين هما قوله – سبحانه –: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة/ 8-9). نسأل الله عزّ وجلّ أن يثبتنا جميعاً بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.  

   المصدر: مجلة رسالة التقريب/ العدد 39 لسنة 2003م

ارسال التعليق

Top