• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التوكل على الله وكيمياء جسم الإنسان

أ.د. دلاور محمد صابر

التوكل على الله وكيمياء جسم الإنسان

الإيحاء - كما يقول الدكتور أحمد عزت راجح في كتاب (الأمراض النفسية والعقلية) - : "هو العملية التي يؤثر بها شخص في آخر تأثيراً مباشراً؛ فيجعله يتقبّل رأياً أو فكرة أو اعتقاداً، وذلك دون مناقشة أو أمر أو قسر. والقابلية للإيحاء هي تقبُّل الآراء والأفكار والإعتقادات دون نقد أو مناقشة أو تمحيص، خاصة إذا كانت صادرة من شخص ذي نفوذ، وهي حالة من الإعتماد النفسي على شخص آخر، وجوهر العلاج بالإيحاء هو غرس فكرة أو اعتقاد أو استثارة شعور في نفس المريض الموحى إليه".
ويستخدم العلاج بالإيحاء في حال يقظة المريض، والإيحاء في هذه الحالة يكون مصدره شخصٌ آخر، أو يكون (إيحاءً ذاتياً) حين يكون مصدره الشخص نفسه. فالإيحاء هو ذلك التأثير النفسي الذي تنقل به تخييلات من أعمال الموحي كالطبيب أو أي شخص آخر يثق به الموحى إليه.
وعلى سبيل المثال، لنفرض أنّ طفلاً ما يخشى من الظلام فيوحي إليه الطبيب بكلماته المؤثرة في وعي الطفل لإزالة حالة التخيلات السلبية أو المعاكسة كالخوف من الظلام ليزيله عنه، ويقول الدكتور أمين رويحة بصدد هذه الحالة لدى الأطفال: "لمعالجة طفل مصاب (بمركب الخوف من الظلمة) بالإيحاء المقنّع، نعطيه (دواءً منوّماً) ونقول له – كلمات الإيحاء – إنّ هذا القرص الذي بلعته الآن، سيزيل (خوفك من المكوث في الظلمة)؛ وهذا ما سيحدث بكل تأكيد إذا شعرت بعد تناول القرص بتعب في جسمك، وبعد قليل يبدأ مفعول القرص المنوم، ويبدأ الطفل بالشعور بثقل وتعب في جسمه".
وعلى أثر ذلك، يبدأ ترابط أفكار عند الطفل كالآتي: تقول أفكار الطفل لنفسها قد ظهر التعب في الجسم وتحقق ما قاله الطبيب مسبقاً، وكذلك قال الطبيب: إنّ القرص سيزيل خوفي من الظلمة، فمادام الشق الأوّل من أقواله قد تحقق فعلاً، فلابدّ للشق الثاني منها أن يتحقق أيضاً. فالدواء هنا (أطلق عليه إيحائية) أو تمويهية.
ويدعى الدواء أيضاً بحبوب الغُفل (Placebo)، وتحتوي حبوب الغفل أو كبسولاتها على مادة عديمة التأثير طبياً. وقد اعتبرت هذه الحبوب من الأسرار الطبية الغامضة. فهي لا تحتوي على أي علاج طبي يمكن أن يشفي. ومع ذلك، فعندما تعطى هذه الحبوب إلى مجموعة الضبط (Control Group) لتجربة فاعلية دواء جديد، فإنّ المجموعة التي تأخذ هذه الحبوب الزائفة، تظهر دائماً تحسُّناً وشفاءً، وأحياناً يعادل المجموعة التي تأخذ المستحضر الطبي.
يقول الدكتور أحمد توفيق في كتابه (الشفاء الذاتي بقوة عقلك الباطن) الصفحة 130: "من أسهل الأمور علينا الآن أن نصدق المعالجة القديمة، التي كانت عدتها الخروع والمنقوعات والتعاويذ، لم يكن لها من القوة الشفائية، ما كان ينسب إليها. وننسى أنّ الطب في الأزمنة القديمة لم يكن يمتلك في جعبته العقاقير الشافية الموجودة الآن. لذلك فإنّ من الظلم تخطئة المعالجين القدامى، لأنّهم كانوا يقدمون لمرضاهم مواد وأشياء كانوا هم يرونها، ويراها المرضى أنفسهم شافية. وننسى فوق هذا أنّ كثيراً من الأدوية في يومنا هذا، ووسائل العلاج العصرية التي تقوم في المستشفيات والعيادات التي تعتمد أرقى الوسائل التكنولوجية، لا تعدو كونها مزيجاً من التصديق والسحر والشعائر الطبية".
إنّ المعالجة الطبية حالياً هي أميل إلى العلم، وأنّ الأدوية العصرية لا تطرح في الأسواق إلا بعد مرورها بسلسلة من التجارب الشاقة للتأكُّد من مفعولها. ومع ذلك، فإنّ بعض الخبراء الطبيين يقدرون بأنّ نسبة قليلة من الأدوية التي تقدم روتينياً، قد تتدنّى إلى 20% فقط، هي أدوية مرت فعلاً بدراسات واختبارات معمّقة. وما يزال الأطباء والمرضى على السواء، يعزون قوة شفائية لبعض الحبوب والمعالجات النفسية والتدابير الجراحية الخالية من أي مفعول شفائي في الواقع.
وقد يكون مفعول الدواء الغُفل هائلاً وخارقاً أحياناً. على سبيل المثال، ما حدث في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، حيث أنّ آلافاً من المرضى بالذبحة – ألم صدري ناشئ عن عدم وصول كمية كافية من الدم إلى القلب – أخضعوا لعمليات جراحية القصد منها على ما كان يعتقد زيادة حجم الدم الواصل إلى عضلة القلب. وقد كانت المعالجة ذات تأثير ملفت للنظر، إذ إنّ نسبة عالية من المرضى - وصلت إلى 90% - قد وجدوا راحة من مرضهم بعدما خَفَّت أعراضهم، غير أنّ بعض جراحي القلب كانوا ينظرون بعين الشك إلى هذه العملية (ربط الثدي الشرياني الباطني Internal Mammary Artery Ligation) وقرروا إلقاء نظرة أدق.
وقد أجروا هذه العملية بتمامها على عدد من المرضى، وأجروا عملية (مزوّرة) على عدد آخر منهم، أي أنّهم أحدثوا شقاً صدرياً على هؤلاء ولكنهم لم يمضوا إلى أبعد من ذلك. فماذا كانت نتيجة هذه التجربة؟ 76% من المرضى الذين أجروا العملية بتمامها تحسّنت أحوالهم. أمّا الذين أُجريت لهم العملية المزوّرة، فقد كانت نسبة التحسُّن لديهم 100%.
بالطبع ليست كل المعالجات الغُفل بمثل هذا القدر من المفعول. وهناك أنواع من الأعراض أكثر من أمراض أخرى تأثيراً بالمعالجات الغُفل، ولكن قدر بأنّه بالنسبة لطائفة واسعة من الأمراض (الألم، ارتفاع ضغط الدم، تصلب المفصل الرئوي، الربو، السعال) وأنواع شتى سواها، فإنّ بين 30-40% من المرضى بها، يلقون راحة كبيرة عن طريقة المعالجات الغفل وحدها، وفي بعض الحالات المرضية قد ترتفع نسبة التحسُّن إلى 60-70% عن طريق المعالجات الغُفل.
وأكّدت بعض الأبحاث والدراسات أنّ الأدوية الغفل أو الدواء الإيحائي أو التأثير الإيحائي يمكن أن يكون لها أيضاً تأثير على اضطرابات نفسانية معيّنة. على أيّة حال، إذا أردت أن تتعلّم المزيد عن هذه الأدوية الغُفل، فعليك بقراءة كتاب الدكتور أحمد توفيق في المصدر السالف الذكر.
هذا كما أنّ لظهور تأثير الإيحاء شروطاً، منها:
1- شخصية الطبيب (الموحي): لا يخفى علينا بأنّ الكلمات التي يلقيها الطبيب لها الفعل الأقوى، بيد أنّه في الوقت نفسه فإنّ لشخصية الطبيب وصفاته وحركاته وملبسه دوراً في ضمان مفعولية الإيحاء.
2- شخصية المريض (الموحى إليه): يجب أن يكون الإيحاء متناسباً مع شخصية المريض، ولا شكّ أنّ إيحاء الطبيب يجب أن يختلف من مريض لآخر، ولبيان ذلك مثلاً يختلف الإيحاء إلى رجل مثقف عن رجل غير مثقف، فالإيحاء يجب أن لا يكون منهجياً لتطبيقه بشكل واحد أو بصورة واحدة على الأفراد المختلفين، بل يجب أن يتنوّع الإيحاء بتنوّع الأشخاص، فتكون الثقافة العالية في كثير من الحالات، إن لم يكن في جميعها، عقبة للإستجابة إلى إيحاء الطبيب.
هذا واعلم أنّ الطبيب ربّما يساعدك للشفاء في مرضك وفقاً لما تتطلّبه في حالة من الحالات. أمّا الذي يتولّى عملية الشفاء العجيبة الغامضة، فهو الطبيب الذاتي الموجود في كيان كل إنسان، ويجب أن لا يخفى علينا بأنّ الإنسان مكوّن من عنصرين إثنين هما المادة وأقصد بها الجسم، والروح. علماً بأنّ الشفاء الحق والتام هو من عند الله تعالى.
وغالباً ما يذهب الطبيب لعلاج العنصر الأوّل، متناسياً العنصر الثاني إن لم يكن الأوّل هو الأهم من الثاني وهو الروح (النفس). فالدواء الذي يوصف من قبل الطبيب ليس إلا مادة، ولكنّ هذه الوصفة لا تعالج إلا العنصر الأوّل وهو المادة، أي أنّ الطبيب قد أهمل في هذه الحالة المكون الثاني، وهو الناحية الإيمانية والقلبية والنفسية للمريض، فإذا قارنت ما يصفه الطبيب لمريضين اثنين دواءً موحياً لأحدهما بكلمات معسولة بالشفاء دون الآخر، فالنتيجة لاريب فيها سيكون شفاء الموحى إليه بالكلمات المعسولة الشافية أفضل من الآخر، وربّما بكثير.. ففي هذه الحالة قد عالج الطبيب العنصرين اللذين يتكوّن منهما الإنسان.
هذا وقد أثبت علماء النفس من الأطباء بأنّ إيحاء الطبيب إلى المريض بالشفاء سيعجِّل بالشفاء، وهناك أمثلة كثيرة في هذا المجال.. وقد ذكرت مثالاً وهو الطفل الذي كان يخاف من الظلام. ولسنا متناسين ما كان يصفه الأطباء للمرضى من أدوية وحبوب تمثيلية ونفسية وتخيلية، ولكنها كثيراً ما كانت تشفي المريض. فأطباء اليوم يعلمون ما لهذه الأدوية من تأثيرات في حالة المريض؛ كتعديل سرعة نبضات قلبه، أو شفاء آلام المعدة أو القرحة أو غيرها من الأمراض، ولكنّ العلماء يحاولون اليوم أن يعرفوا التأثير الحقيقي لهذه الأدوية على كيمياء الجسم.
إنّ بعض العلماء بدأوا يعترفون بحدوث معجزات طبية باستخدام هذه الأدوية، كما أطلقوا عليها أيضاً اسم تأثير نظائر الأدوية؛ فالأمل والإيمان والثقة، من العناصر الرئيسية في مثل هذه الأدوية، وهي تستطيع في أحيان كثيرة إحداث تغيير في كيمياء الجسم، أو تُعَدَّلَ سير أعنف الأمراض.. هذا وللإيحاء دور لا يستهان به في تحسين الحالة الصحية أو الإساءة إليها؛ كما أنّ الوسيلة لاستخدام الأدوية الإيحائية قد تكون بسيطة جدّاً كحقنةٍ مليئة بماء مالح، أو كحبة مغلّفة بشيء من السكر - وإن لم يكونا دوائين حقيقيين - أو كالرجاء فقط، ثمّ إنّ الأدوية التمويهية قد تقضي على الإضطرابات العصبية أحياناً.
فعلى سبيل المثال، فقد عمد أحد الأطباء إلى إعطاء دواء لمعالجة حالة التقيؤ لإمرأة حامل تشكو من الغثيان والتقيؤ، قائلاً لها: أنّ هذا الدواء هو علاج لحالتها هذه، فسرعان ما أحسّت المرأة بالإرتياح. وكذلك أعطيت مريضة مصابة بداء الفصام حبّة مغلّفة بالسكر إيهاماً لها بأنّها دواء جديد رائع وحاسم، فسرعان ما توقف قلق المرأة واضطرابها (إذن فالوهم يكفي لوقف المرض وأعراضه أو تخفيفهما في كثير من الأحيان)، ثمّ استقرت في النهاية على حبتين يومياً فقط للمحافظة على استقرار حالتها.
فهناك أمثلة أخرى كتبت في مجلة الجيل (1982) الصفحة 22 بعنوان: القوة السحرية للدواء الوهمي، بقلم لرونس شيري، حيث يعلمك ما للإيحاء من تأثير في الإنسان: فقد عمد طبيبان من جامعة كاليفورنيا إلى تجربة للتعرُّف على حقيقة عمل الدواء التمويهي، فأبلغ الطبيبان متطوعين لإقتلاع أضراس (سن) العقل وأُعطوا مسكنات لتهدئة الألم من غير تحديد نوع المسكنات التي كانت (مورفيناً) للبعض، ومحلولاً ملحياً للبعض الآخر، وخفَّف الألم فعلاً عن ثلث الذين حقنوا بالمحلول الملحي، ثمّ حقن أفراد هذا الثلث بدواء النالوكسون (Naloxone) المضاد لتأثير الأفيون، وسرعان ما عاد الألم، لأنّ دواء النالوكسون أوقف إفراز مواد تسمّى بالأندورفينات (Endorphins) وهي في الحقيقة ناقلات عصبية بيبتيدية (Neurotransmitter Peptides) والبيبتيد عبارة عن مجموعة من الحوامض الأمينية وهي موجودة في أنسجة المخ (الحامض الأميني عبارة عن الوحدة الأساسية لتركيب البروتينات)، كما تدعى الأندورفينات أيضاً بالأفيونات البيبتيدية، لأنّ طريقة تأثيرها تشابه طريقة المورفين والأفيونات الأخرى، وإنها تتواجد عادة بكميات قليلة جداً في كل من الفقاريات (كالإنسان والحيوانات الفقرية الأخرى) واللافقريات.
والآن لأعود بك مرّة أخرى إلى تجربة الطبيبين بعد عرض بسيط للأفيونات البيبتيدية، وأقول: إنّ هذه المواد الأفيونية في المخ أفرزت – نتيجة للإيحاء – وقامت بتقليل الألم وإيقافه وذلك نتيجة لدور هذه المواد في الجهاز العصبي وتقليل الإحساس بالألم وإزالته.
فقال الطبيبان: إنّ وقف الشعور بالألم عند الذين حُقنوا بالمحلول الملحي يعود إلى تزايد إفراز الأندورفينات بعد هذا الحقن. ومن هنا يمكن أن نقول إنّ لهذا العلاج التمويهي علاقة فعلية بكيمياء الدماغ.
إنّ هذا الكشف يثير سؤالاً وهو: لماذا استجاب ثلث الذين حقنوا بالمحلول لهذا الدواء التمويهي فقط؟ ولماذا لم يستجب الجميع لمثل هذا العلاج التمويهي؟
قد تكون لنوعية الشخص المحدد علاقة بالإستجابة للدواء، أو تكون لثقته بالآخرين واعتماده عليهم لمساعدته صلة بذلك.
ومن رأي هؤلاء الأطباء النفسانيين أنّ الشخص القابل للتأثر بالآخرين هو الذي تفعل فيه العقاقير التمويهية فعلها الشافي، إذن إنّ هذا يعني أن تقبُّل الفرد للتأثُّر بالآخرين (أي تقبُّل الإيحاء) هو مفتاح لتأثير العقل على الجسم تأثيراً إيجابياً مفيداً من هذه الناحية، أو تأثيراً سلبياً من ناحية أخرى، كما في حالة الموت المفاجئ لشخص ما في حالة صحية جيِّدة (بعيدة عن أي مرض)، بعد أن قام بعمل ما يخرق فيه محرماً أو شيئاً يتذكّر به لتقليد اجتماعي معيّن.
يرى بعض الباحثين أنّ مثل هذا الموت المفاجئ الذي يستجيب لأجزاء في الدماغ تتصل بالفكر والعاطفة. وهاكم إخواني القرّاء أنقل لكم قصة رجل من قبيلة آلماووري في زيلاند الجديدة أصيب بإرتعاشات عنيفة، ثمّ توفي بعد ساعات قليلة، حين علم أنّه أكل دجاجة برية وهو وُلِدَ يجهل أنّها محرمة على غير البالغين. وكان من شأن هذا الإستعداد الملحوظ للإستجابة بالمعتقدات والإيحاءات بمثل هذه الصورة المأساوية أن اقتنع العديد من الباحثين بأنّنا قابلون بدون شك للتأثير بالأدوية الوهمية، وحتى أنّهم اعتبروا أنّ ذلك جزء من تكويننا الجيني كمخلوقات بشرية يظهر في الوقت الملائم.
فالآن اسأل نفسك وقل: هل أصيب ذلك الشخص بطلقة أو سكينة؟ فالجواب: كلا، ولكن الإعتقاد بمبدأ أودى بحياته.
والجديد في موضوعي الآن هو إيجاد علاقة بين ما أصبو إليه وبين ما ذكر حول الإيحاء من قبل علماء النفس، وهي كالآتي: إذا دققنا النظر في تعريف العلماء للإيحاء: "بأنّه تقبُّل الآراء والأفكار والإعتقادات دون نقد أو مناقشة أو تمحيص، خاصة إذا كانت صادرة من شخص ذي نفوذ".
والآن أليس هذا التعريف سيقارب ما أعرِّفه لك؟
حيث أقول: الإيمان هو أن تتقبّل ما قاله لك الحق من آيات، وتتوكّل عليه، وتؤمن أنّه ييسِّر لك أمورك وشفاءك وإنقاذك من مصائب الدنيا، لترضى به ربّاً دون جدل أو شك؛ فقبولك لهذه الأمور ليس من شخص دنيوي ذي نفوذ - كما عرَّفه علماء النفس - بل إنّها مقدّرة من خالقك الذي بيده أنفس المتنفذين في الدنيا، وترضى بالله في سرّائك وضرّائك. وهل تعارضني في هذا التعريف عندما أقول لك أنّ هذا الإيمان مع التسبيح والذِّكر والدعاء أفضل من الإيحاء الذي نحن بصدده وفق أقوى تعريف للعلماء له، لأنّ تقبلك للأفكار، والرضا بقضاء الله، وليس قرار أو وحي شخص دنيوي ذي نفوذ؟
فإذا كان الوحي طبيباً أو شخصاً ذا نفوذ يثق به الموحى إليه له ذلك التأثير الكيمياوي الذي اكتشفه العلماء في أواسط السبعينات، فما بالك بتأثير إلهٍ تدعوه وتؤمن به وتحبّه أشدّ الحب.. وقد قال الله في كتابه العظيم: (... ادعُوني أستَجِب لكم) (غافر/ 60). فما العمل إذا كنت تلهم نفسك بأنّ لك خالقاً قد وعدك بأن يستجيب دعاءك، وهو خالق الأطباء وخالق العلم؟ وهو الشافي للقلب الذي هو منبع إرادتك؟ وهو ما يعرفه العالم الفاضل الدكتور عبدالله مصطفى الهرشمي في كتابه (معالم الطريق في عمل الروح الإسلامي) الصفحة 277 المنشور سنة 1993 بأنّه: "قوّة روحانية لطيفة ذاتُ مِرَّةٍ لها الإرادة ولها التأثير البليغ في القوتين الأخريين – الفكر والنفس – ، وأيضاً تختص بمعقولات لا تصلها القوّتان الأخريان. ومظهر ارتباطهما بجسد الإنسان هو العضو الصنوبري الجسماني الموجود في تجويف الصدر والمسمّى باسم (القلب) عينه".
انظر: فإنّ هذا التعريف يطابق تماماً ما قاله بعض الأطباء حول سبب الموت المفاجئ بأنّه اضطراب كهربائي في خفقان القلب الذي يستجيب لأجزاء في الدماغ تتصل بالفكر والعاطفة. ففَوِّضْ أمرك إلى الله، واجعل قلبك له ذاكراً، فهو خالقه ويعلم كيف يشفيه، وهو بذلك يقوي لديك الرجاء في الشفاء؛ إذ أنّ لهذا الذِّكر والتوكل على الله تأثيراً بيِّناً على الدماغ - كيميائه - ، حيث يحثّه على إفراز المواد التي ذُكِرَت سابقاً وهي الأندورفينات، وبدرجة أكثر بكثير ممّا لو اعتمد الإنسان على الأطباء أو الأشخاص ذوي النفوذ.
واعلم أنّ الدُّعاء لا ينحصر في رفع الأيادي إلى السماء، بل هو إنابة القلوب إلى الله، وبودّي أن أوجِّه إلى القارئ الكريم سؤالاً، وأقول فيه: إذا سلّمت نفسك إلى رجل مرموق المكانة في الدنيا وأصبحت دخيلاً عنده، فماذا يفعل لك هذا الرجل؟ وماذا باستطاعته أن يفعل؟ فإنّه بدون شك يعمل لك كلّ ما في وسعه من مساعدة أو ما شابه ذلك.. والآن عد معي إلى ذكر الله.
فكيف إذا سلّمت نفسك لربّ العالمين خالقك وخالق السموات والأرض.. فإنّ تفويض الأمر إلى الله والإيمان بولايتهِ للمؤمنين له تأثير كيميائي خلقه الله في أجسامنا. فالإنسان الذي يؤمن بخالقه العظيم وبكونه مقتدراً، ويتوكّل عليه عند إصابته بمرض أو مشكلة، فكلّ هذه الأمور تجعل قلب هذا الإنسان المؤمن بخالقه يطمئن، فالقلب بدوره يؤثِّر وينقل هذه التأثيرات إلى القوّتين الآخريين وهما الفكر والنفس وبذلك يصلحهما، ويعيش صاحبهما سعيداً نتيجة لإفراز تلك المواد التي سمّيناها الأندورفينات، حيث تمّ التأكُّد من أنّ للأندورفينات تأثيراً لإزالة الآلام ومهدئة للجهاز العصبي، وتقلل الإحساس بالتوتر.
هذا وقد ذكر في كتاب (Encyclopedia Britanica) مجلد 4 الصفحة 491 سنة 1986: "إنّ الأندورفينات تؤثِّر على مراكز الإحساس باللذّة المتواجدة في المخ وتزيدها، أي تزيد اللذات، واللذة هنا يقصد بها جميع أنواع اللذة كلذة الشرب والأكل والجنس... إلخ. ومازالت تلك المواد تزيد الإحساس باللذة فإنّها بذلك تهدئ وتريح المرء".
والنفس هي القوّة الدافعة إلى التخيلات السلبية أو البائسة عند المريض، وكأنّ هذه الصفة للنفس هي الأمّارة بالسُّوء التي تجعل المريض في دوامة القلق، فإذا ما أصلحنا قلوبنا أصلحنا النفس والفكر فينا.. لكنّ السؤال الذي يتبادر إلى الإنسان هو كيف نحيي قلوبنا ونقوِّيها؟ فالجواب إذا فوّضنا أمرنا لخالقنا بالثقة التامة والإيمان بالله العزيز الرحيم، فسيكون للقلب منزلة عالية بين سائر قوى الشخص.. فاذكر الله، وتوكّل عليه، فإنّه قادر على أن يقضي على شرّ النفس التي توسوس إليك؛ وبذلك سيزول عنك الألم والحزن، ويطمئن قلبك بذكره، فصدق الله عندما قال: (الذين آمَنوا وتَطمئِنَّ قُلوبُهُم بِذِكرِ اللهِ ألا بِذِكرِ اللهِ تطمئِنُّ القُلوب) (الرَّعد/ 28).
والقلب يوجِّه الفكر لأن يعقل ويتصرّف، ولا يستسلم للتخيلات السلبية؛ وبذلك فالفكر يستنبط ويصل إلى ما هو الصواب إذا وجّهته بإرادتك القويّة توجيهاً صحيحاً، متوكلاً على الله.
والحمد لله الذي جعل رابطاً بين الدعاء والتوكل على الله والإيمان به (وهي كلها تجعل المؤمن يرضى عن خالقه)، وبين ما يحدث في الجسم من إفرازات لمواد كيميائية التي هو خالقها ويعلم بها. وأودّ أن أذكر لك بهذه المناسبة بعض الآيات لنطّلع على ما قاله الحق: (... وعلى اللهِ فليَتوَكِّلِ المُتوكِّلون) (إبراهيم/ 12)، (... ومَن يَتوكَّل على اللهِ فهو حَسبُهُ) (الطلاق/ 3)، (... إنّ اللهَ يُحِبُّ المتوكِّلين) (آل عمران/ 159)، (أليسَ اللهُ بِكافٍ عَبدَهُ) (الزُّمر/ 36)، وقال أيضاً: (... ومَن يَتوكَّل على اللهِ فإنّ اللهَ عزيزٌ حكيم) (الأنفال/ 49)، أي: عزيز لا يُذل مَن استجار به، ولا يضيّع مَن لاذ بإكرامه، والتجأ إلى رحمته؛ وحكيمٌ يُدبِّر أمر مَن توكل عليه.
وذكر في الأثر: "أوحى الله إلى داود (ع): يا داود، ما من عبدٍ يعتصمُ بي دون خلقي فتكيدهُ السمواتُ والأرضُ إلا جعلت له مخرجاً"، ويقول الله: (وإذا سَألكَ عِبادي عنِّي فإنِّي قريبٌ أُجيبُ دَعوةَ الدَّاعِ إذا دَعان) (البقرة/ 186).
ألا تكفينا هذه الآيات لنتوكّل كلياً على الله؟ وليكن في علمك بأنّ التوسل والدعاء إلى الله تعالى ليسا مجرد كلمات، بل إنّهما أمران عظيمان يحتاجان إلى خلو القلب من جميع ما في الدنيا ما أمكن، وتتضرّع إلى الله، وتنسى مشاغلك، وتجعلها ذليلة أمام خالقك؛ وربّما يقول البعض منّا: إنّني أدعو ربِّي أن يرزقني مثلاً 1000 دينار... إلخ، فهذا الأمر يمكن أن تحصل عليه بسعيك وراء لقمة العيش، فالدنيا دار الأسباب، ولو كان الرزق بدون سعي وكدح، لم يكن بالإمكان استمرار الحياة والحصول على حاجياتها من ملبس ومشرب، فإذا كان كلّ ما تطلبه من الدنانير يعطيك بدون عمل، فلم يكن من الضروري أبداً العمل والسعي في الحصول على لقمة العيش. فعليك أن تسعى لأُمورك الدنيوية، وتطلب من الله تعالى أن يبارك فيها.
والآن وبعد هذا العرض الواضح لتأثير الإيمان بالله العظيم في إراحة الناحية النفسية والقلبية، وإزالة الألم، والشعور بالراحة نتيجة لحث إفراز الأندورفينات، فماذا يقول الإنسان الذي لم يكن يعلم هذا النوع من التأثيرات الباطينة على المخ، وكانت تدعي بالماديات البحتة، أليس عليه أن يُغيِّر اعتقاده بعد أن علم ما للوعظ والذِّكر - والتي لا يمكن لمسها باليد ولا ترى بالعين، ولا تُحلل في المختبر، ولا يمكن فصلها بأعقد أجهزة متقدمة وأرقاها - ذلك التأثير الذي يؤثر به على واحد من أشرف الأجهزة وأعقدها في جسم الإنسان (وهو الدماغ)، ويحثّه على إفراز مواد تمّ كشفها مؤخراً. فالدعاء ليس هراء ولا إلقاء كلمات في الهواء، واعتقاد الداعي بقبول دعائه من قبل مولاه سيؤثر في كيمياء دماغه ويريحه ويزيل عنه الألم.
هذا وقد لوحظ بأنّه عند حقن الأفيونات المخية - التي سمّيناها بالأندورفينات – في الإنسان أو الحيوان، فإنّ تأثيراتها تشبه المورفين في مفعولها، علماً بأنّ تلك الأفيونات المخية هي أفيونات داخلية في جسم الإنسان، وقد لا يُسبِّب حالة الإدمان التي يُسبِّبها المورفين إذا استخدمت الأفيونات المخية للتهدئة. ولكن المورفين يؤدِّي إلى الإدمان، وله تأثيرات سيِّئة جداً على الإنسان.
أخي القارئ: اعبد ربّك واشكره كثيراً، فماذا يحلّ بنا لو كان في جسمنا مورفين كالذي يستخرج من نبات الخشخاش؟ إنّ وجود المورفين في الخارج – في النبات – دليل على أنّنا وكل شيء من خلق إله خبير بكل العلم في الكون.
لقد تمّ فصل الأفيونات المخية من السائل المخي الشوكي، وتمّ التأكُّد من وجود الأندورفينات في الجهاز العصبي للفقاريات، وإنّها تؤثِّر فينا بطريقة المورفين نفسها.
وممّا سبق ذكره يظهر أنّ هناك في أجسامنا ما يشبه الأفيونات المخية تفرز عند الحاجة معتمدة على الناحية النفسية للشخص، فالذي يتوكّل على ربّه ويرضى بكل ما يصيبه من خير ويصبر على الشرـ فإنّه مرتاح البال بحيث أنّ جسمه خلق بشكل يَعلَمُهُ خالقه؛ فعلَّمه الخالق بشكل مبرمج ودقيق كيف يتصرّف وكيف يتوكّل ليعيش براحة نفسية تامّة هادئة مطمئناً. فالأفيونات المخية تفرز لكي تهدئنا، وجُعِلَ ذلك الإفراز مرتبطاً بقوة الإيمان؛ فإذا دعا المؤمن ربّه وعلم بأنّه بيده الشفاء على الرغم من استخدامه للأدوية التي أوصانا بها الله ورسوله المصطفى (ص)، فإنّه سيشفى أو تتغيّر حالته الصحّية نحو الأحسن بكثير بالشكل الذي لا يمكن تصوره في كثير من الأحيان.
عندما يقول الباري: (... ادعُوني أستجِب لكم) (غافر/ 60)، فهذا قول صادق لا محالة، فإنّه من خالق عظيم، فإذا وقرَ ذلك في نفسك فالألم من أمراضك ومصائبك سيزول أو على الأقل سيُخفف (فهذا متوقف على قوّة إيمانك). فهناك كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تهيِّئ المؤمن وتحثّه وتوجِّهه للتوكّل على الباري في السرّاء والضرّاء، ومن هذه الآيات: (... ومَن يَتوكَّل على اللهِ فهوَ حَسبُهُ) (الطلاق/ 3).
فالمقصود هنا بالتوكل توكلاً مطلقاً في كل أمور الحياة. فالذي يتوكل على ربّه ويعتبر الشفاء بيده سيشفى فعلاً من ألمه ومرضه وقلقه. وكما قلت هذا لا يعني أن نستغني عن الأدوية لأنّ الباري هدانا، ورسوله الكريم (ص) أوصانا باستعمالها، لكنه كما قلت إنّ نصف الشفاء في الإلهام الذي تحدّثت عنه كثيراً: "وهو الإيحاء إلى النفس بأنّ الله سيشفيه"، فقد خلق الله في أجسامنا مواد كيميائية تريحنا وتهدِّئنا وتزيل عنّا الألم والحزن – بتلك المواد البيبتيدية التي ذكرناها سابقاً - : (... وخَلَقَ كلَّ شيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقديراً) (الفرقان/ 2).
فالمؤمن حين يذكر في نفسه الله، فلذلك تأثير قوي على صحته وعافيته وحلّ مشاكله وسعادته، ولا يقلّ تأثيره عن الدواء الذي أمر به الباري ورسوله (ص). هذا وإنّ أحدث علم وهو الطب النفسي يبشر بمبادئ الدين، لماذا؟ لأنّ أطباء النفس يدركون أنّ الإيمان القوي، والتمسُّك بالدين، وعبادة الله، كفيلة بأن تقهر القلق والخوف والتوتر العصبي، وأن تشفي أكثر الأمراض حدّة.
نعم، إنّ أطباء النفس يدركون هذا الحق دون شك. وقد قال الدكتور أ.أ. بريل - وهو عالم غربي - : "إنّ المرء المتدين حقاً لا يعاني قط مرضاً نفسياً".
ولا يخفى علينا بأنّ الإفرازات المخية السابقة الذِّكر توجد في جميع البشر – المسلم وغير المسلم - ، إلا أنّ المسلم يإيمانه الراسخ بآيات ربّه وأحاديث رسوله (ص) في هذا المجال سيكون له نصيب كبير منها في شفائه، وإنّه لمن البديهي بأنّ إيحاء غير المسلم بعقيدة محرفة أيضاً له تأثير ما، إلا أنّه لا يضاهي ذلك التأثير الذي يفعل في مؤمن راسخ الإيمان، لأنّ هذا التأثير في قلب المؤمن هو تأثير نفسي وواقعي أيضاً لأنّ الله يستجيب له في كل وقت، فهل من منكر لذلك؟!
(... وَما دُعاءُ الكافرينَ إلا في ضَلال) (الرَّعد/ 14).


المصدر: كتاب قبسات علمية من القرآن والسنّة

ارسال التعليق

Top