• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حضارة اقرأ

د. محمّد عبدالرحمن مرحبا

حضارة اقرأ

◄إنّ تعاليم الإسلام ومبادئ القرآن قد أدخلت في الأذهان مفاهيم جديدة رفعت العقل العربي من سذاجة البداوة التي غلبت عليها المحسوسات إلى حياة تأملية زاخرة بالمعاني العقلية والقيم الروحية والإنسانية التي ستساعد كثيراً على استيعاب الحضارات الوافدة. وسيتولّد في النفوس عاجلاً أو آجلاً ذلك النهم إلى العلم والمعرفة وستلتحم العناصر المتباينة التي جاءت بها مختلف الثقافات بعضها ببعض وستصهرها العبقرية العربية الإسلامية الناشئة لتخرج للناس حضارة لن تكون مجرد جمع كمي لمختلف الأجزاء، بل ستكون تأليفاً نوعياً جديداً فيه ابتكار وخلق وإبداع. فالحضارة الجديدة وإن جاءت في ظاهرها سبكاً لعناصر مختلفة، فإنّها تبقى في جوهرها حضارة الإسلام. إنّها ليست مجرد إضافة وجمع وتلفيق، إنّها توفيق وتنسيق وتأليف تتفاعل فيه العناصر والمكونات تفاعلاً خصباً بنّاءً يغذي المسيرة ويسدد خطواتها ويغزو بها كلّ أفق ويفتح أمامها كلّ باب.

ونمت المعارف تلو المعارف تغذوها وتغزوها المعارف وانطلق المد العظيم. ووضعت القواعد والأُسس لتنظيم تلك المعارف وتبويبها وتنهيجها. وتولّدت العلوم من العلوم وتعاونت العلوم بالعلوم وتمخّضت العلوم عن العلوم. وتشعّبت جداول المعرفة وأطردت وتفاعلت. وكان كلّ جدول منها يشق لنفسه مجرى جديداً غير المجرى الذي يشقه أخوه، وإن كانت الجداول قد تتلاقى هنا وقد تتوازى، وقد تتقاطع هنا وقد تتشابك معاً في جدول كبير أحياناً لا يلبث أن يفترق ويتفرّق. وعلى كلّ حال كان بعضها ينهل من بعض ويفيده المادّة والمنهج أو يستفيدها منه، غير إنّ ذلك كلّه لا يفقد الجداول شخصياتها المتميزة وخصائصها المستقلة. ففي القرن الأوّل من الهجرة كانت الملامح مختلطة والسمات غير واضحة المعالم. لكن ما إن أشرف القرن الثاني على الانتهاء حتى بدأت الملامح تبرز وتتضح. فنشأت العلوم العربية والعلوم الإسلامية والعلوم العقلية والعلوم الرياضية والعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية... وأخذت العلوم تترى والقرائح تتفتق والطاقات تتفجر في حركة طليعية رائدة وعملية حضارية متألقة، قد تتوقف أو تنتكس حيناً ولكنّها لا تضل طريقها الصاعد أبداً، فهي تتجاوز أخطاءها وتضمد جراحها بسرعة فائقة كان فيها قوّة متجددة لا تُقهر...

إنّ نمو هذه العلوم هو جزء لا ينفصل عن حركة التطوّر الشاملة للدين الجديد وللأُمة التي قام على أكتافها، ولا سيما إذا تذكرنا أنّ العرب لم يكن لهم في جاهليتهم ما يصح أن يسمى علماً، كما لم يكن في الجاهلية أو صدر الإسلام ذلك التراث العقلي الضخم الذي كان للشعوب ذات الحضارات العريقة. فلم يكن لهم شخصية واعية تستخلص شذور المعاني وتستصفيها وتبني صروح المذاهب والمناهج منها. وبعبارة أخرى لم يكن عندهم نواة للتفكير المدروس المنظم، وإن كان لهم حكم لا تخلو من (فلتات الطبع وخطرات الفكر) كما يسميها الشهرستاني. لقد كان هناك فراغ أو منطقة من الضغط المنخفض الذي لن يرتفع ويتكثف إلّا مع الإسلام بحكم التطوّرات العميقة التي فجّر بها الدين الجديد شبه الجزيرة العربية فانبثقت منها شتى الحركات والتحركات، واندفعت التيارات تلو التيارات، وكانت منطلقاً لمد عظيم غمر بلاد العرب والعجم واكتسح الحدود والسدود.

ومما له دلالته الواضحة في هذا الباب، ودون أن نطيل كثيراً، يكفي أن نذكر إنّ أوّل كلمة نطق بها القرآن، كانت كلمة (إقرأ). إنّها حضارة (إقرأ) وراء كلّ خطوة في مسيرة الإسلام الأولى ووراء كلّ إشعاع كان يضيء ويتوهج في طريقه. فمن خصائص الإسلام إنّه دين ودنيا، وعقل ونقل، وعقيدة وشريعة... ولعلّ هذا من مفاخره وإن كان من مثالبه في نظر الذين يريدونه نسكاً ورهبنة محصورة في ملكوت السماء. وهكذا فإذا لم يكن العرب الجاهليون قادرين على إنتاج المادّة العقلية العلمية والفلسفية. فلا ينحسب ذلك على العرب المسلمين. أي إنّ الماضي لا يكفي دائماً لتفسير الحاضر المفتوح باستمرار على متغيرات لا حصر لها. وكلّما كانت هذه المتغيرات أكثر تنوّعاً وأشد عمقاً كان تفسير الحاضر بالماضي أكثر عسراً وصعوبة. فإذا بلغت المتغيرات حدها الأقصى فحدثت المعجزة، أصبح من غير الجائز إطلاقاً نبش الماضي والتذكير به وإقحامه بالقوّة في كلّ نفحة لاحقة لا نجد لها جذوراً في الماضي القريب أو البعيد. وهذا لا ينطبق على العرب وحدهم، بل هو ينطبق أيضاً على العرب والعجم وجميع أُمم الأرض. جميع الأُمم نشأت على السفوح، فظل بعضها مستلقياً فوق السفوح وتطلّع بعضها الآخر إلى القمم. وإلّا فأتني بشعب نشأ على القمم منذ أوّل أمره. وإذن فإنّ (الزلزال) الذي أحدثه محمّد في شبه الجزيرة العربية هو السبب الأساسي في هذه القطيعة ـ أو ما يشبه القطيعة ـ بين (العَرَبَين) عرب الجاهلية وعرب الإسلام. فهذا الزلزال قد نشأ عنه فجأة ودونما اعتبار لأوضاع العرب قبل الإسلام، وللمراحل التي كان عليهم أن يقطعوها في تقدير المؤرخين التقليديين الذين سيجدون في هذا الذي أزعم تجديفاً في حقّ التاريخ وهرطقة يرفضها التاريخ، إذ لا همَّ لهم إلّا تطبيق المادّة التاريخية الهزيلة التي بحوزتهم على كلّ مادة تاريخية أخرى مهما اختلفت عن مادّتهم (المعيارية) المعهودة، ومهما بلغ من تعقيدها وتباينها الكمي والنوعي ـ أقول قد نشأ عن هذا (الزلزال) ظواهر معيّنة ذات خواص ثابتة يمكنها أن تنمو نمواً ذاتياً بغير لقاح أجنبي، فكيف إذا انضم إليها هذا اللقاح؟ وهي تحمل في تضاعيفها بذور تحولاتها المستقبلية، كما تحمل بذور انحلالها أيضاً، وذلك بصرف النظر عما قد يكون لها من ماضٍ قريب أو بعيد. إنّه لا يمكن تفسير التطوّرات اللاحقة التي نشأت عن هذا الزلزال إلّا بتحليل ما فيها من قوى دينامية وطاقات كامنة تؤذن بالانفجار تباعاً على نظام مرسوم تحدده شحنتها الداخلية وعلاقاتها المتشابكة. إنّ لهذا الزلزال دلالة خاصّة في رؤوس الذين فجّروه وحملوا رسالته، ولنتائجه رموز ومعانٍ لا يفهمها إلّا ذووه، وله قوّة جذب وفاعلية استطاع أن يغزو بها كلّ مَن سمع نداءه أو عانى أمره أو اقترب من وهجه. وكلّ أولئك عناصر لا مادّية لا وجود لها في العالم الفيزيائي ـ البيولوجي الذي يريد المؤرخون التقليديون المتعلقون بمبدأ السببية وقانون المرحلة أن يرجعوا إليه وحده في تفسيرهم لظواهر الفكر العربي ومنجزات الحضارة الإسلامية. إنّ السببية والمرحلية مقولتان قد يكون لهما بعض الفائدة في ظروف الحياة العادية، أما عندما يتعلق الأمر بالتحولات الكبرى فيجب أن نعمد في هذه الحال إلى مقولات كبرى كمقولة الانتفاضة مثلاً.►

ارسال التعليق

Top