تحدثت كافة الأديان الإلهية ـ ولا سيما الإبراهيمية منها ـ عن الإنسان الكامل. وهناك كتب لبعض العرفاء تحمل هذا العنوان قد وصلت إلى أيدينا مثل ((الإنسان الكامل)) لعزيزالدين النسفي (القرن 7هـ ) و ((الإنسان الكامل)) لعبدالكريم الجيلي (القرن 9هـ ).
وموضوع الإنسان الكامل، موضوع ديني بحت وقد تناوله الدين الإسلامي أيضاً، وربما ليس بعيداً عن الحقيقة الاعتقاد بقيام الإيمان بالنبوة وعالم الغيب، ومقام عصمة الأنبياء (ع)، ووجوب طاعتهم، والتأسي بالرسول (ص)، وخلود الأحكام الإسلامية، على مبدأ الإنسان الكامل. أي إنّ أبدية الأحكام وديمومتها لا معنى لهما في غير الإنسان الكامل، الذي يمكن استشفاف خصوصياته مما أوردناه من إشارات.
وتتضمن الكثير من الآيات والأحاديث التدليل على هذه المعاني في الإنسان الكامل، بحيث استدل بها بعض العرفاء والحكماء في تفسير هذا المقام، ومنها ((إعطاء الأمانة الإلهية للإنسان)) في الآية الكريمة (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) (الأحزاب/ 72)، وإباء أهل السماوات والأرض وحتى الملائكة عن قبول هذه الأمانة، إباء تكويني، أي إنّ مقامها التكويني لم يكن يسمح لها لحمل الأمانة الإلهية، ثم عرض الله هذه الأمانة على الإنسان وحملها له. وقد عبر شاعر أهل البيت (ع) عمان الساماني عن ذلك ببيت شعر فارسي:
حينما حلّ دور أهل الحجاز
تصاعدت صيحات الشراب إلى السماء
وقضية تعليم الأسماء الإلهية للإنسان، ليست غريبة على قضية ((الأمانة)): (وعلّم آدم الأسماء كلها). وهناك آيات عديدة في هذا المجال. كما إن بعض الأحاديث تدل على هذا المعنى أيضاً مثل: ((إن الله خلق آدم على صورته))، و ((مَن عرف نفسه فقد عرف ربه)). فمعرفة النفس التي هي معرفة الله أيضاً، لا يمكن أن تأخذ معناها الصحيح بدون كمال الإنسان. وهناك شك في انتساب هذا الحديث للرسول (ص)، غير إنّ مفكراً معاصراً قال إنّه حتى إذا كان من المجعولات الصوفية إلا أنّ مضمونه قد ورد في القرآن الكريم. فعكس نقيض هذه الآية (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) (الحشر/ 19)، ينطبق من حيث وجهة النظر الصوفية مع ((مَن عرف نفسه فقد عرف ربه)). وهناك آيات أخرى مثل (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) (فصلت/ 53)، و (ألستُ بربكم قالوا بلى) (الأعراف/ 172)، و (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) (التين/ 4)، و (قاب قوسين أو أدنى) (النجم/ 9)، و (نحن أقرب إليه من حبل الوريد) (ق/ 16)، و (وهو معكم أينما كنتم) (الحديد/ 4).
ولا يُتاح الحديث عن الإنسان الكامل بدون تعريف ((الكمال)) رغم صعوبة تقديم تعريف حقيقي له. ولهذا يشبه تعريف الكمال تعريف الوجود إلى حد ما، أي مثلما لا يمكن تعريف الوجود بحد ورسم، كذلك لا يمكن تعريف الكمال بحد ورسم أيضاً. وهذا يعني إنّ الكمال مساوق للوجود. ورغم هذا قد يمكن تقديم تعريف لفظي للكمال، وحينئذ لابد من مواجهة عدد من الأسئلة الفلسفية:
أ ـ أين يكمن التفاوت بين معنى الكمال والتمام؟
ب ـ هل الكمال هو التمام؟
ج ـ هل التام نفس الكامل؟
د ـ أين هو الاختلاف بين التمام والكمال، والتام والكامل؟
ولا شك في أنّ الكمال يقابل النقص، والكامل يقابل الناقص، والتام يقابل الناقص أيضاً. أي إنّ الناقص يقابل التام ويقابل الكامل. والكمال بمعنى التفتح والاتساع. ولا ريب في أنّ هذا التعبير لا يُعدّ تعريفاً حقيقياً للكمال وإنما هو من مستلزمات التعريف. وسعى بعض المفكرين المعاصرين للتمييز بين معنى الكمال والتمام، في حين قال البعض بتقارب معنييهما حتى إنهما يكادان أن يكونا معنى واحداً. ورغم هذا يكمن في مفهوم الكمال معنى الرقي. فحينا نقول: ((أبني بيتاً وأُتمّه)) فلا تُشعر هذه الجملة بوجد الرقي، وإنما تُشعر بالانتهاء والإتمام. في حين تُشعر جملة ((طفل في حالة النمو)) بنوع من الرقي. ولا شك في أنّ حالات الاستعمال هي التي تحدد المعاني غالباً، ولا يمكن أن نعدها مفاهيم ذاتية.
وقدم السيد الشريف الجرجاني في كتاب ((التعريفات)) تعريفاً للكمال هو أقرب إلى التعريف اللفظي، فقال: ((الكمال ما يكمل به النوع في ذاته أو صفاته)). ونواجه في هذا التعريف دوراً وتسلسلاً لأنّ عبارة ((الكمال ما يكمل ... )) تفيد أنّ الكمال هو ذلك الذي يكمل به شيء ما، في حين لا يستفاد هذا المعنى من المعنى الحقيقي للكمال. وربما كان الجرجاني يعلم تعذر تعريف الكمال فحاول أن يقدم له تعريفاً في قالب هذا المعنى.
وصاغ الحكماء والفلاسفة الذين جاءوا من بعد الجرجاني تعريف الكمال على ما قاله الجرجاني، فقالوا في تعريف الحركة مثلاً: ((الحركة كمال أول لما بالقوة من حيث إنّه بالقوة)). فالحكماء قد عدوا الحركة في هذا التعريف الكمال الأول المرتبط بمفهوم الذات، كما هو الحال في تعريف الجرجاني. فالكمال الأول، إشارة إلى الذات، أي إلى شيء في الذات قبل اكتساب الصفات. والموضع الآخر الذي استُخدم فيه مفهوم الكمال هو التعريف الذي عرف به أرسطو النفس والذي أخذ به الحكماء المسلمون أيضاً والقائل ((النفس كمالٌ أول لجسم آلي ذي حياة بالقوة)). والكمال طبقاً لهذه التعاريف إذا كان ذاتياً وإذا كانت الكمالات الصفاتية والاكتسابية تنتهي آخر المطاف بالذات، فيمكن القول إنّ الكمال مفهوم قد أُعد وفق تصميم سابق، أي تصميم متصور في وعاء خاص لا يعلمه إلا الله تعالى ويتحقق كل شيء طبقاً لهذا التصميم.
وللعرفاء كلام طويل حول الكمال وتعريفه اللغوي. وتحدثوا عن السلوك وتعليم العلوم الإلهية فقالوا إنّ العلم إذا كان ناقصاً عند الفرد، تحول إلى جهل، وإذا كان كاملاً، وجد به الكمال. وهو ذات الكمال الذاتي الذي لابد من وجوده عند السالك كي ينفعه العلم. وفي غير هذه الصورة، من الممكن أن تؤدي الصور الحاصلة في الشخص الناقص إلى النقص. ولو استرشد أحد في تعليمه وسلوكه بالشخص الناقص الذي يدعي أنّه مرشد الطريقة، فلابد أن يضل الطريق لأنّ الناقص لا يصل عن هذا الطريق إلى الكمال. أما إذا استرشد الناقص بالشيخ الكامل فبإمكانه أن يبلغ الكمال.
الكامل لو أمسك بالتراب صيّره ذهباً
والمفلس لو أمسك بالذاهب صيره رماداً
ولعبدالرزاق اللاهيجي كلام دقيق وقابل للتأمل أورده في ((جواهر المراد)) قال فيه لو لم يقل أحد بمعنى الكمال في الإنسان ويتحدث في ذات الوقت عن أنّ الإنسان بإمكانه أن يكون كاملاً ويبلغ السعادة المعنوية، إنما يسلب الإنسانية من الإنسان. ولم يستخدم اللاهيجي في هذا الكلام مفهوم السلب بهذه الصراحة، لكنه يرى أنّ الاعتقاد بهذا المعنى على صعيد الإنسان، من مقدمات مفهوم الإنسان. وتحدث عن الكمال أيضاً أبو البركات البغدادي في كتابه ((المعتبر في الحكمة)) وذلك في القرن الخامس الهجري وقبل اللاهيجي، فقال: ((كمال المعرفة، معرفة الكمال)). ويمكن أن نقول وطبقاً لهذا التعريف بأنّ الكمال نوع من الظهور والتمامية القائمين على أساس تصميم أو نموذج علمي يجب أن يكون معلوماً في مكان ما، ولا يتحقق الكمال بدون ذلك.
ولا معنى للكمال عند أولئك الذين ينكرون وجود خالق للعالم ولا وجود لمفردة التكامل في قاموسهم. وكان داروين ـ وبغضّ النظر عن كونه مؤمناً بالله أو غير مؤمن ـ يرى أنّ كل تطور يقوم على التكامل. ومن الطبيعي أنّ التطور نفسه ليس تكاملاً، لأنّ التكامل بحاجة إلى شيء أكبر من التطور.
وتحدث العرفاء عن الكمال فقالوا هو ظهور جلوة تامة لما كان معلوماً من قبل. والجمال هو كمال الظهور، وكمال الظهور هو ظهور تام متناسب وملائم.
ومن الصعوبة بمكان تقديم تعريف كامل عن الجمال في حين يُعرَّف الحسن بأنّه نفس التناسب والملاءمة، لا كمال الظهور. ويُطرَح كمال الظهور في الجمال، ولا يُطرح في الحسن. وعرّف العرفاء ((الملاحة)) بما عرفوا به الحسن ـ أي بالتناسب والملاءمة ـ مع إضافة لطافة خفية ودقيقة يتعذر تعريفها. ولا شك في عدم إمكان القول بأنّ الملاحة هي الملاءمة نفسها، أو أنّ التناسب الموجود في الحسن، موجود نفسه في الملاحة.
ويقول الشيخ محمود الشبستري:
ظهرت الملاحة من العالم الفريد كالشاطر اللاأبالي
فرفعت علماً في مدينة الجمال وبعثرت نظام العالم
وعُرّفت الصباحة أيضاً بالظهور بالصورة المتناسبة، ولكنها صورة ذات تألق ولمعان. ومن هنا ندرك أنّ هناك تفاوتاً بين معاني الصباحة والملاحة والحسن وبين معنى الجمال، إلا أنّها جميعاً قريبة من معنى الكمال. وأصبح كمال الظهور الذي تحدث عنه العرفاء منطلقاً لبحث التجلي والفيض الإلهي في آثار الحكماء المسلمين.
وكان المرحوم علي المدرس الزنوزي، أحد أعظم الحكماء بعد صدر المتألهين، وقد عرف الفيض بكمال الظهور. ورغم الشبه القائم بين كلامه والكلام الوارد في آثار الحكماء الذين سبقوه، إلا أنّ أسلوب عرضه لهذه القضية قد أضفى على كلامه صورة رائعة. فهو يعتقد أنّ الله تعالى مكمن ذات الغيب، وأنّ كل شيء ناشئ عن علمه وفيضه. كما أن تجلي ووجود هذا الكمال المطلق ليس بمثابة تداخل في الاعتبارات. فقد ينجز الفرد ـ على سبيل المثال ـ عملاً لاعتبار ما وينجز لاعتبار آخر عملاً آخر يخرجه عن مساره المطلوب، لأنّ إنجاز ذلك العمل يحتاج إلى قوة أخرى ووقت آخر. في حين أنّ الله تعالى لا يقوم بفعل من أجل نيل بعض جهاته، لأنّ ذاته تعالى بسيطة محضة. ومن هنا لا وجود للتعدد والجهات والتبعيض في الموجود البسيط، ووجودها في الموجود غير البسيط. ولما كان الله تعالى ذاتاً بحتة بسيطة، فالفعل الذي يقم به، يقوم به بتمام ذاته. ورغم أنّ هذا الفعل مسبوق بإرادة إلا أنّ هذه الإرادة هي عين الذات. وهذا يعني أنّ فعل الله وأثره، بتمام الذات، وإذا ظهر فعله ـ أي أثره ـ بتمام الذات، فإنما هو أثر تمام ذاته. كما وأنّه تمام الأثر أيضاً، أي تمام أثر الذات.
واصطلاحاً ((أثر تمام الذات)) و ((تمام أثر الذات))، قابلان للتأمل والتمعن. فاثر تمام الذات هو الأثر الذي يصدر عن تمام الذات. أما تمام أثر الذات فهو الظهور الكامل، أي تمام الظهور.
والموجود مقارنةً بالفعل الإنساني، لا يظهر بتمام وجوده، أما على صعيد البارئ تعالى، فإذا كان الظهور هو أثر تمام الذات، فسيكون هذا الأثر، تمام أثر الذات. والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه أيضاً هو: ما هو تمام أثر ذات الله تعالى؟ والجواب هو أنّ الله تعالى يتجلى بتمام ذاته، وهذه الجلوة هي تمام جلوته.
والتفت أحد شعراء الفارسية إلى دقة هذا الموضوع، فقال في علي (ع):
ظهر أسد الله في الوجود
وخرج كل ما كان خلف الستار
فعلي (ع) هنا هو تمام أثر الذات، لأنّه قد خرج كله بتمامه.
وهناك بيت آخر يتضمن هذا المعنى يقول:
حينما أخرجنا آدم
نشرنا جمالنا في الصحراء
فلم يظل في تجلي الجمال شيء مخبأ خلف ستار الذات عدا مقام الغيب أو الذات، وهو مقام ((غيب الغيوب)) أو مقام ((لا اسم ولا رسم)) والذي يشير إلى ذلك الكمال.
مع افتراض أنّ الإنسان الكامل، أول أثر الذات، فلابد أن يطرح السؤال التالي نفسه: هل الإنسان يمثل نموذج النظام الأكمل للوجود؟ وقد طرح بعض المفكرين السؤال التالي أيضاً: هل النظام الكوني الراهن يمثل أكمل الأنظمة أم أنّ بالإمكان ظهور نظام أكمل منه؟ وكان الحكيم عمر الخيام النيشابوري قد طرح مثل هذه الأفكار والتساؤلات وأعرب في شعره عن تذمره من نظام الوجود وعن اعتقاده بإمكانية تصور نظام أحسن من هذا. في حين عبر بعض أضرابه من الحكماء عن اعتقادهم ليس بعدم إمكانية ظهور نظام أحسن من النظام الكوني الراهن فحسب، بل وبعدم إمكانية ظهور نظام مشابه أيضاً.
ولو أردنا على أساس كلام الزنوزي أن نعتبر أثر الحق تمام أثر الذات، لكان الكون أثر ذات الله تعالى، وهذا لا يؤدي إلى تثبيت وجود الإنسان الكامل فحسب، وإنما إلى اعتبار نظام الكون النظام الأحسن أيضاً، وعدم تصور نظام أحسن منه. وكان المعتزلة يؤمنون بالنظام الأحسن ناهجين في ذلك نهج الحكماء، اعتقاداً منهم أنّ الكون يقوم على أساس مصالح علم الله، في حين يرفض الأشاعرة هذه الفكرة. ويُعدّ الغزالي ممن يؤمن بفكرة النظام الأحسن رغم أنّه أشعري، ويقول ((ليس في الإمكان أبدع مما كان)). ويرى الغزالي أنّ العالم، تمام أثر الحق، وتمام أثر الذات لا يمكن أن يكون ناقصاً، لأنّها ذات كاملة على الإطلاق. وإذا كان مبدأ العالم واجب الوجود من جميع الجهات والحيثيات، كان أثره ـ الذي هو الموجود ـ واجباً من حيث ذات الوجود، وهذا يعني وجوب تمام حيثه، ولا يمكن أن نجد له أي نحو إمكاني. فواجب الوجود ليس أن يكون وجوده واجباً وإرادته ممكنة، أو وجوده واجباً وعمله ممكناً. فإذا كان واجباً، فهو واجب من تمام الجهات والحيثيات، ولا يمكن تصور نظام أحسن وأبدع من النظام القائم. فإذا كان بالإمكان تصور مثل هذا النظام فلابد أن يُثار السؤال التالي: لماذا لم يظهر هذا النظام إذاً؟ ولابد أن يعود عدم الظهور هذا بشكل رئيس إلى نقص فاعلي أو قابلي. فإذا كان بالإمكان تصور نظام أحسن ولم يظهر هذا النظام، فهذا يثير افتراض أنّ واجب الوجود ومبدأ الخلق قد بخل في الخلق أو يعاني من النقص ((تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً)). إذن لا يوجد أي نقص فاعلي وقابلي لأنّ افتراضناً يقوم على أنّ الممكن ممكن، والعالم عالم الإمكان، والإمكان هو القبول المحض، ولا تفاوت في القبول المحض. ومن هذا ندرك أنّ عدم صدور نظام أحسن يعود لعدم إمكانية صدوره. أضف إلى ذلك، لو كان هناك نظام قابل للتصور أفضل من هذا ولم يخلقه الله تعالى، لاستلزم ذلك ترجيح المرجوح على الراجح، أي ظهور ما هو مرجوح. ولو كان بالإمكان صدور عالم مشابه لهذا العالم الراهن للزم الترجيح بدون مرجح. إذن النظام الراهن، نظام أحسن، والإنسان الموجود فيه، موجود كامل. أي أنّ الإنسان، في العالم، والعالم، في الإنسان. والإنسان من حيث مقام العقل، هو الصادر الأول وتمام أثر ذات الله تعالى.
ويعتبر الحكماء العقل هو الصادر الأول والذي يصدر عنه العقل الثاني. ويُطلق العرفاء اسم التجلي الأول على الصادر الأول. والصدور من وجهة نظرهم بمعنى التجلي الذي يظهر في صباح الأزل: ((نور يشرق من صبح الأزل، تلوح على هياكل التوحيد آثاره)). ولا شك في أنّ هذا الصبح، ليس زماناً لأنّ الزمان عبارة عن نسبة المتغير إلى المتغير. كما أنّ الدهر عبارة عن نسبة المتغير إلى الثابت. أما السرمد فعبارة عن نسبة الثابت إلى الثابت. أي أنّ الزمان عبارة عن قياس المتغير إلى المتغير، والدهر عبارة عن قياس المتغير إلى الثابت. والمدهش أنّ الإنسان، فوق الدهر في هويته، وأعلى من الملكوت في سرمديته. ولهذا يرى العرفاء أنّ الصادر الأول والذي هو الظهور الأول، حقيقة منبسطة. كما يعتقدون أيضاً عدم إمكان الحديث عن الذات. وأنّ كل شيء محترق في هذه المرتبة، وليس بإمكان حتى الأنبياء الاحتجاج فيها. ويتضمن الحديث النبوي التالي: ((ما عرفناك حق معرفتك)) هذا المفهوم أيضاً. ويلي هذه المرتبة، مرتبة المعروفية. وكما أنّ مقام الذات مجهول أزلي، نجد هذه المعروفية تساوي الجمال والبهاء وتظهر في مقام الفعل. أي أنّها حينما تظهر، يُعدّ ظهور الفعل بمثابة كل الظهور. والمعروفية والظهور يأتيان في الحقيقة بعد مقام الذات. وهذا المقام إنما هو مقام الانبساط أو الوجود المنبسط الذي تظهر فيه صفات الله كافة. ويقال للصفات ((مقام الواحدية)) لأنّها علامات لله تعالى دالة على مقام الذات. ومقام الواحدية بدوره نوعان: مقام ((الفيض المقدس))، وسمي بهذا الاسم لأنّ فيه اقتضاء الخلق وظهورات الموجودات المتعينة. ولهذا يعبر عنه بمقام المشيئة أيضاً. ولما كان لديه الخلق والموجودات المتعينة، يُعدّ نفس الإيجاد، أي أنّه ليس سوى الإيجاد. والإضافة، إضافة إشراقية لا مقولية، ومن هنا يُعدّ مقام الألوهية، مقام الواحدية الأولى أو مقام الواحدية الثانية أو مقام المشيئة أو مقام الفعل، لأنّ كافة هذه الصفات مندرجة في اسم واحد وموجودة في مجموع واحد لا على شكل متفرق.
والاسم الآخر الذي يمكن انتخابه لهذا المقام هو ((الله))، لأنّه وفي عين الوحدة جامع لجميع كمالات الموجودات المتعينة بنعت الوحدة والبساطة. وقال بعض العرفاء: بالإمكان تسمية هذا المقام بعَلَوية علي (ع). وهناك تعابير مختلفة على هذا الصعيد. وفي هذا المقام أيضاً، مقام النورانية المحمدية: ((أول ما خلق الله نوري)). وقال علي (ع) في حديث آخر في خطبة الحقيقة: ((معرفتي بالنورانية معرفة الله عزوجل، ومعرفة الله عزوجل معرفتي بالنورانية)) وكل هذه المقامات، تشير إلى مقام الانبساط، الذي هو مقام أسماء الحق تعالى وصفاته. والإنسان هو الموجود الوحيد الذي يُعدّ المظهر التام لهذه الصفات، في حين يمثل كل موجد من موجودات الكون، مظهراً لإحدى الصفات الإلهية. أي أنّ الصفات الإلهية كافة كاللطف والقهر والجمال والجلال، منعكسة في الإنسان. وهذا يعني أنّه موجود كامل لظهور جميع الصفات الإلهية. والجدير بالذكر أنّ المراد بالإنسان، النوع الإنساني، فقد لا يصل إنسان ما إلى هذا المقام ولا تتجلى فيه هذه الصفات كافة، بل قد تبرز لدى البعض، بعض هذه الصفات. غير أنّ الإنسان وانطلاقاً مما لديه من قابليات ومواهب، بإمكانه أن يعكس هذه الصفات بأجمعها.
ويمكن أن تُثار هنا قضية مهمة وهي: إذا كان الإنسان الكامل، تمام أثر تمام الذات، فمن أين تأتي هذه النواقص والشرور في الإنسان؟ ويعتقد المرحوم الحاج ملاهادي السبزواري أنّ من خصوصيات الكمال أن يضم النقص أيضاً. فلولا هذه الصفات الناقصة، لاقتصر الأمر على العقل الأول والذي هو ناقص أمام الإنسان، لافتقاده للكثير من الكمالات. فكل هذه النواقص مندرجة في معنى الكمال. ولولا تحقق هذه الأمور، لخُتم العالم بالعقل الأول، ولما كان هناك أي موجود. ثم هل يمكن القول في هذه الحالة أنّ ما صدر عن الله تعالى، كامل؟ إذاً وجود النقص ضمن الكمال، شأن من شؤون الكمال. ومن هنا نفهم أيضاً معنى ((ظلوم وجهول)). أي لم يستطع أي موجود أن يحمل ثقل الأمانة حتى حملها الإنسان: (فحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) (الأحزاب/ 72). وتثير هذه الآية بعض التساؤلات مثل: هل أنّ الظلوم والجهول، مدح أم ذم، أم ذم بعد مدح، وما معنى الذم بعد المدح؟ وهل هناك مدح حينما يوصف أحد بالظلوم الجهول؟
وتتلخص جميع مشاكل الإنسان في هاتين الكلمتين. وهنا تفاسير عديدة لهما. وحمل بعض الفضلاء الكلمتين على المعنى الظاهري، وقال بأنّهما تصدقان على بعض الأفراد. في حين لا ينسجم هذا المعنى مع تعريف الإنسان. والافتراض هو أنّ هذه النقائص مندرجة في معنى الكمال، والإنسان من حيث هذا الكمال، لديه هذه النقائص كافة أيضاً.
والمرحوم السبزواري لم يكن حكيماً كبيراً فحسب، وإنما كان عارفاً زاهداً أيضاً. وقد قال في تفسير الآية السابقة، إنّ الإنسان ظلوم لأنّه ((لا يصل إلى حد إلا وقد يتجاوز عنه)). فأين يصل المسار الإنساني وإلى أين ينتهي؟ ليس هناك من حدّ ولا نهاية. فالإنسان في حالة تعال وترق مستمرة، وتشكل هذه الحالة أساس مسار الإنسان. ورغم هذا، لو فسرنا هذا التعالي بالتجاوز، فإنّه ينسجم مع معنى الظلوم. فالتجاوز عن الحد، نوع من الظلم، إلا أنّه ظلم وتجاوز مطلوبان. فظلومية الإنسان، تعني التجاوز عن حده، وليس بالإمكان تصور حد لها، كما ليس لها ماهية أيضاً. ولذلك لا يمكن أن نؤمن بماهيةٍ ما للإنسان. وربما يكون الحق إلى حد ما هنا مع أولئك القائلين بأصالة الوجود من المعاصرين الذين يعتقدون بعدم وجود ماهية للإنسان أو أنّ ماهيته بعد ظهوره.
والحكماء الذين وصفوا الإنسان بالحيوان الناطق، عبروا عنه بـ ((المائت)) أيضاً، مستهدفين من خلال ذلك الكشف عن التجاوز عن الحد.
فليس للإنسان إذاً حد معين، والنفس ـ على حد تعبير شيخ الإشراق ـ وما فوقها إنيات صرفة. ولهذا لا يمكن أن نقول: ما هي؟ وهذا هو معنى الظلوم الذي أشار إليه السبزواري في نظريته. ويقول السبزواري في معنى الجهول أيضاً أنّ الإنسان الجهول ليس لديه خبر عن غير الله، ولهذا يعيش الاستغراق الشهودي في ذات الله وصفاته بحيث يجهل أي خبر عن غيره وعن نفسه.
أمامي مائة مرحلة من الجهل بك
أنت جاهل بالغير وأنا جاهل بنفسي
فهو جهول لأنّه جاهل بكل شيء غير الله. وهذا يعني أنّ ((الظلوم والجهول)) اللذين أشارت إليهما الآية، لا يُراد بهما الذم وإنما المدح. وقد تساءل نجم الدين الرازي على ضوء الآية القائلة: (وحملناهم في البر والبحر) (الإسراء/ 69): كيف يمكن للبحر والبر أن يحملا الإنسان؟ ليس في وسعهما حمله، ولا يحمله إلا الله تعالى فقط، لأنّه يمل على عاتقه حملاً عجزت الجبال والأرض والسماوات عن حمله، والمتمثل في الأمان الإلهية التي أبت الموجودات كافة حملها. أي إنّه الوحيد الحامل لهذا الثقل وهذه الأمانة، ولهذا ليس بإمكان البر والبحر أن يحملاه.
المصدر: مناجاة فيلسوف
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق