• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تفسير القرآن بالقرآن

د. عليّ الأوسي

تفسير القرآن بالقرآن
  ◄ما معنى تفسير القرآن بالقرآن، وهل يصح أن يكون منهجاً وطريقاً في الاستنطاق؟ وكيف نتلمس أصالته في العملية التفسيرية؟ وما هي المساحة التي استوعبها في جهود المفسرين؟ وأين هذه القاعدة الرئيسة، والمنهج القرآني الأثري من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) التفسيرية؟

صحيح انّ هذه القاعدة كانت موضع اهتمام كلّ المفسرين، لاسيّما انّ هناك روايات كثيرة استخدمت هذا النوع من التفسير، لكنها كانت واسعة جدّاً في جهود هذه المدرسة وروايات أهل البيت (عليهم السلام). وسنكتفي بالقليل منها ونحيل القارئ أو الباحث لمطالعة الكتب الحديثية في مذهبنا الإمامي.

لقد كان للمعلّم الأوّل رسول الله محمّد (ص) ريادة واضحة في هذا المنهج، فمثلاً فسر (ص) (الظلم) في قوله تعالى: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) (الأنعام/ 82)، بالشرك لقوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/ 13).

ومنذ ذلك الوقت احتلت هذه القاعدة مساحة مميزة من جهود الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)، رائد هذه المدرسة، والذي يستهدي بمنطق وطريقة وأسلوب رسول الله (ص). فقد استنبط أمير المؤمنين (ع) من القرآن الكريم أنّ أقل مدة للحمل ستة أشهر، وقد حلّ مشكلة اجتماعية كادت أن تأتي على فهم وتطلع اجتماعي حصل آنذاك ويحصل الكثير منه على طول مسيرة هذه الأُمّة، حيث استفاد (ع) من التقابل بين آيتين في كتاب الله العزيز: هما (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) (لقمان/ 14)، وقوله تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) (الأحقاف/ 15)، ولسعة تطبيقات هذه القاعدة عند أئمة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام)، يمكن التأمل في أسلوب الدعاء والمناجاة وغير ذلك مما روي عنهم (عليهم السلام)، حيث في ذلك عرضاً لمفاهيم استفادوها من القرآن نفسه. ومن أمثلة ذلك الدعاء المروي عن أمير المؤمنين والمعروف بدعاء كميل، فهو مليء بالمعطيات القرآنية المستوحات من الآيات نفسها. ويلمس ذلك أيضاً في نهج البلاغة لأمير المؤمنين (ع).

وقد جرى على هذه القاعدة مفسرون أوائل في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، من أصحاب وتابعين كابن عباس (رض) الذي روي عنه الكثير من تفسير القرآن بالقرآن، كما روي عن سعيد بن جبير (رض) أحد أقطاب هذه المدرسة ومن التابعين، في معنى الغاشية في قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) (الغاشية/ 1)، بأنها النار تغشى وجوه الكفار وهذا هو قوله تعالى: (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (إبراهيم/ 50).

ويصف الإمام عليّ (ع) القرآن بأنّه: "ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض".

وقد يسأل سائل: ما هي الحاجة التي دعت لهذا التفسير ولهذه الطريقة؟ ولعل الأساس في هذه الطريقة هو ما أشار إليه القرآن نفسه، فهنالك من الآيات ما فيها المتشابه والمحكم، والآيات المحكمات هن أم الكتاب، ترجع إليها المتشابهات لأجل بيانها، فلا يمكنك تفسير قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) (البقرة/ 255)، من غير الرجوع إلى قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى/ 11)، وبدون هذا الرجوع هناك أكثر من محذور كالوقوع في التجسيم والتشبيه للباري جلّ وعلا.

ومثلما صرح القرآن الكريم بالرجوع إلى المتشابه، نرى التأكيدات الكثيرة لذلك في الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام)، والتطبيقات الواسعة لتلك المعاني، كما حصل في نفي رؤية الله تعالى بالاستناد لقوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ) (الأنعام/ 103)، فكما انّ قاعدة المحكم والمتشابه في القرآن تقتضي هذا النوع من التفسير، كذلك فتطبيقات هذه القاعدة واضحة وملموسة بشدة في ما روى عن أهل البيت (عليهم السلام).

كذلك مفهوم النسخ الذي نهى عنه أمير المؤمنين (ع) أحد المسلمين آنذاك بعد أن تصدى للتفسير من غير أن يعلم الناسخ من المنسوخ، فكان النهي الصريح للإمام (ع) إذ قال له: لقد هلكتَ وأهلكتَ. والأمر عينه في أساليب البيان التي وردت في القرآن الكريم من قبيل العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين، فمقابلة هذه الموارد من غير الذهاب إلى نصوص من خارج القرآن يمكن أن تساعد على فهم دقيق لمعاني الآيات المباركة، وهذا مقتضى آخر لهذا المنهج القرآني (تفسير القرآن بالقرآن).

لقد دعا القرآن الكريم إلى التدبر والتأمل (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء/ 82)، فهنا تبرز للعيان مسألتان:

1-     أقفال القلوب الذي هو وراء عدم التدبر أو عدم القدرة على التدبر في المعاني القرآنية، وفي صدر هذه المعطيات التفسيرية ومن خلال مقابلة الآيات ببعضها البعض مع ضمان عدم الاختلاف بين آيات الكتاب المنزل من الله سبحانه، يدفع إلى الأمام وبثقة لتطبيق هذا النوع من المقابلات بشكل واسع بين آيات القرآن من غير حاجة أولية للخروج إلى نصوص من خارج القرآن.

2-     التدبر في القرآن الذي هو بذاته منهج قرآني يقف وراء عملية تفسير القرآن بالقرآن، وكأنّ هذا اللون من التفسير يأتي ضمن الأوامر القرآنية باتجاه استخدام هذه القواعد لتفسير القرآن، ومن نافلة القول انّ هذه القاعدة مقدمة على غيرها من القواعد.

إنّ هذا التفسير بالقرآن الكريم لم يبّوب كغيره من روايات التفسير في بداية تدوين الحديث في القرن الثاني الهجري منفصلاً، بل كان قد دوّن ضمن أبواب الحديث ما دام قد روي. وما لبث أن اتسع فتبلور منهجاً وطريقة وقاعدة استخدمها المفسرون في استنطاق الآيات القرآنية ببعضها. كما أنّ هذه القاعدة في تفسير القرآن بالقرآن تدخل في تأسيس المنهج الموضوعي في تفسير القرآن، إذ أنّ الأخير يعتمد إلى حد كبير على مقابلة الآيات مع بعضها في الموضوع الواحد، ومن يرد أن ينفع من ذلك ويفسر القرآن بالقرآن فهو بحاجة لحفظ أكثر نسبة من السور والآيات القرآنية ليكون أكثر استحضاراً، وقد ندب لذلك أئمة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام) في الأمر بحفظ القرآن وتدبر آياته.

 

المصدر: مجلة الغدير/ العدد 27 لسنة 2000م

ارسال التعليق

Top