• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العقل وطريق الاعتدال

أ. مرتضى مطهري

العقل وطريق الاعتدال

قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة/ 143).
يجب الحذر من شيئين حتى نكون بمستوى ما يريده القرآن منّا. وهذان الشيئان هما: أوّلاً: التطرف في التوجه، والتدخل اللامسؤول، والممارسات الصبيانية، ثانياً: الجمود، ويعني: التزمت في غير محله.
إنّ المثال الذي أحببتُ أن اذكره وهو يجسّد تلك التصرفات الصبيانية يتعلق بقاعدة القياس الذي أخذ به أبو حنيفة في القرن الثاني. والجمهور من المسلمين كانوا يقلّدون علماء زمانهم في المسائل الفقهية التي نقلد فيها علماءنا هذا اليوم، وكان عددهم كثيراً، ومن بينهم: سفيان الثوري، الحسن البصري وأمثالهم. والكثير منهم بل الأكثر كانوا من غير العرب لكن كان الناس يرجعون إليهم؛ وذلك بسبب تفوقهم العلمي، ودروسهم المتميزة على دروس الآخرين من جهة، وعظمة الإسلام الذي رسّخ المفهوم الإنساني العام في أذهاب الناس من خلال الغائه للفوارق القومية والعرقية، وجعل مقياس التفاضل على أساس التقوى والعمل والجهاد لا على أساس العرقيّة والقومية، من جهة أخرى. وكثير منهم كانوا من الموالي الذين أُعتقوا فيما بعد، وبما أنهم كانوا من العلماء، لذلك أسّسوا حوزات للدراسة كان يحضرها الآخرون للإستفادة.
ويحدّثنا التأريخ أنّ أهل مصر طلبوا من "عمر بن عبدالعزيز" أن يرسل لهم ثلاثة من العلماء الفقهاء، فلبّى طلبهم وأرسل لهم ثلاثة: اثنين من الموالي العتقاء، وثالثهم من العرب.
فاعترض شخص من أهل مصر على الخليفة بسبب عدم ارساله عرب فقط أو على الأقل اثنين منهم من العرب. فأجاب الخليفة: بأنّ هذا ليس تقصيره، وذلك لعدم وجود الاكفاء بين العرب حتى يرسلهم، وإذا ما بلغ أحد منهم حدّاً من العلم والتأهيل – كالموالي – فإنّه لا يبخل بارساله.
ازداد عدد هؤلاء يوماً بعد يوم واصبحت لهم منزلة مرموقة في دنيا المسلمين، وأحد هؤلاء: الطبري صاحب التاريخ، والتفسير المشهورين، فقد كان أحد الفقهاء الكبار في عصره، وكان له مقلّدون كثيرون. وكان المقلدون لا يعيرون أهمية أن يقلدوا الميّت أو الحيّ، وكثير منهم كانوا يقلّدون الميّت، وعندما يسئلون، كانوا يجيبون أنّهم مثلاً: سفيان الثوري، أو الطبري، أو أبا حنيفة، في حين كانت الفاصلة الزمنية بينهم وبين هؤلاء العلماء كبيرة، وتصل إلى ثلاثمائة أو أربعمائة سنة.
ويتحدث التاريخ عن اقتراح طرح في مصر في القرن السابع الهجري زمن أحد ملوكها المعروف بالملك الظاهر واسمه بيبرس وعُمل به. ويقضي هذا الاقتراح تقليد أربعة من العلماء فقط واتّباعهم، وذلك لأنّ تشعب الفقه، وكثرة أبوابه، وتعدد العلماء، كل ذلك جعل الناس في دوامةٍ من التخبط والتردد، لهذا عقدت الاجتماعات الكثيرة، ونوقشت المقترحات المطروحة في تلك الاجتماعات، وبعد ذلك اتخذ قرار في زمن الملك يقضي بتقليد أربعة من العلماء فقط، ومنع تقليد غيرهم، وهؤلاء الأربعة هم: أبو حنيفة، مالك بن أنس، الشافعي، أحمد بن حنبل، علماً انّ اثنين منهم من العرب، واثنين من الفرس.
وكان أبو حنيفة فارسي المحتد، كوفي الاقامة. ومنذ ذلك الوقت تم الاقتصار على هؤلاء الأربعة حتى يومنا هذا... ولو قدّر لمجتهد أن يبرز ويفتي، فيجب أن تكون فتواه في نطاق فتاوى الأربعة، وليس له أن يُفتى من عنده معارضاً فتاواهم، وبعبارة أخرى يعتبر فتاواهم هي النموذج الذي يقتدى، والمثال الذي يُحتذى. وعلى هذا الأساس أُغلق باب الاجتهاد عند جمهور المسلمين. ولا يخفى فإنّ هؤلاء الأربعة لا يتفقون فيما بينهم في طرق الاستنباط، ولكلٍّ منهم رأيه الخاص به، وطريقته التي تعنيه.
فأبو حنيفة معروف بما يسمّى بالتفكير العقلي ولكن إلى حد التطرف، أي إذا أراد أن يفتي فإن أكثر فتاواه تعتمد على طريقة استدلاله العقلي بالشكل الذي قلّما يعتمد فيه على الاخبار والأحاديث. ويُنقل عنه قلة اعتماده على الحديث لاعتقاده أنّ الأحاديث الصحيحة قليلة، لكن لو عثر على حديث معتبر فإنّه يأخذ به. وبما انه لم يعتمد على الحديث فقد كان يتعثر في مدارك الاحكام مما يضطره ذلك إلى الاعتداد باستدلالاته الذهنية، والتشبث بها كقاعدة في قياس الأحكام، ولهذا عرض بالقياس إذ كان يستنبط الفتاوى والأحكام في ضوء قاعدة القياس. فالقياس أسلوب أبي حنيفة، ومركزه الكوفة.
أمّا مالك بن أنس وهو معاصره، فقد كان على خلاف رأي أبي حنيفة، ولم يعمل بالقياس – طيلة حياته – إلّا مرتين حتى يقل أنّه لما دنت وفاته، كان مضطرباً، وعندما سألوه عن السبب، قال: لأني أفتيت بالقياس مرّتين. وكان مركز مالك في المدينة. وعرف عنه كثرة اعتماده على الحديث، وإذا عرضت له قضية ليس فيها حديث، كان يرجع إلى سيرة الصحابة، وإذا لم يكن لها حكم في سيرتهم، كان يرجع إلى سيرة التابعين. وله كتاب في الحديث عنوانه "الموطأ"، ألّفه في القرن الثاني الهجري.
كان هذان الاثنان معاصرين للإمام الصادق (ع) وبما انّ مالكاً كان في المدينة فقد كان كثير التردد على الإمام، وكان يكنُّ له احتراماً فائقاً. ونقل أهل السنة عنه قوله: لم أرَ أفضل وأتقى وأشرف من جعفر بن محمد. ونقلوا عنه كذلك قوله: وهو ما نقله أتباع أهل البيت – عليهم السلام – أيضاً: "كنتُ أحضر أحياناً عند جعفر بن محمد، وكان له سرير يتّكىء عليه، فيصر على أن يجلسني على سريره، ويظهر لي من الود والاحترام ما يسرنّي".
وهناك حديث معروف قد طرق أسماع الكثيرين منكم، وهو ما نقله مالك نفسه. يقول: رافقت الإمام الصادق (ع) مرّة إلى مكة، فوصلنا مسجد الشجرة، وأحرمنا من هناك. ولما أراد الإمام أن يحرم ويلبّى كنتُ أنظر إليه فرأيته قد تغير لونه، وأراد أن يقول شيئاً لكنه لم يقدر، وكأن صوته قد تكسر في حلقومه، وشمله من الخوف ما جعله على وشك السقوط من على دابته إلى الأرض، فدنوتُ منه، فعرفت أنّ ذلك لخوفه من الله. فقلتُ له: لابدّ لك من التلبية يا ابن رسول الله لأنّه تكليف شرعي نقوم به، فقال: ألا تعلم ما معنى "لبيك"؟ أنّ معناها: أنا عبدك الذي أجاب دعوتك، ولو أجابني بقوله: لا لبّيك، فماذا افعل؟ وأمّا ابو حنيفة فقد كان من تلاميذ الإمام الصادق (ع)، وكان مقيماً في العراق.
ومن العلماء الآخرين وأئمّة المذاهب المعروفين: الشافعي، وكان معتدلاً كما ينقل المؤرخون، عاش في مرحلة متأخرة عن أبي حنيفة ومالك. وينقل أنه كان تلميذ أبي حنيفة، ويبدو أنّه تلميذ الإمام أبي يوسف. تتلمذ على يديه فترة في العراق، وتعلم منه فقه أبي حنيفة، وبعد ذلك درس عند مالك بن أنس. وكانت آراؤه واعتقاداته وسطاً بين الاثنين، فلم يعمل بالقياس كما عمل به أبو حنيفة، ولم يعارضه كما عارضه مالك. وسافر إلى مصر فقلده أهلها وعملوا بفتاواه، ومنذ ذلك العصر أصبح المصريون من الشافعية.
ومنهم أحمد بن حنبل، وهو بعد الثلاثة، وكان معاصراً للإمام الهادي (ع) تقريباً. وله كتاب مطبوع تحت عنوان "المسند". ولا يخفى فانّ الوهابيين من أتباعه. وكان أحمد بن حنبل أكثر من مالك في مخالفته للقياس والاستدلال الذهني، وفقهه جامدٌ للغاية لو صحّ التعبير، وكان متعصباً جدّاً، لكنه كان مستقيماً في سيرته.
وقد سجن مدّة مع أشخاص كثيرين من أتباعه، وجلدوا جميعاً، وذلك بسبب قولهم: انّ القرآن غير مخلوق، ولم يتنازلوا أو يتراجعوا بل ظلّوا على عقيدتهم حتى جاء حاكم آخر فأطلق سراحهم. فخرج ابن حنبل من السجن معزّزاً مكرّماً، ووجد له شعبية منقطعة النظير بين الناس إلى الحد الذي – نقل المؤرخون – انّه لما مات شيّعه ثمانمائة ألف من الناس. ولا يخفى عليكم أن أبا حنيفة قد مات في سجن الخلفاء أيضاً، واعلموا – أيها الأخوة – اننا لا ننطلق من كوننا شيعة فنعرض عن قول الحقيقة ولا نذكر ما لهؤلاء من مواقف، كما لا نتصور أنّ هؤلاء كانوا أُلعوبة بيد الخلفاء يوجّهونهم أينما شاءوا. كلا، لم يكونوا كذلك بل كانوا متصلبين في عقائدهم. وكم أراد الخلفاء من أبي حنيفة – وهو في السجن – أن يفتي بشرعية خلافة العباسيين فأبى! وكان يقول: إنّ الناس بايعوا بني الحسن ولم يبايعوا بني العباس، لهذا فإنّ تلك البيعة هي الصحيحة، امّا بيعة العباسيين فهي غير صحيحة، وتحمل الجلد في السجن، ولم يُفتِ أبداً بشرعية الخلافة العباسية. وكذلك مالك بن أنس – بدوره – سُجن وجُلد ولم يتناول عن فتواه بالنسبة إلى الخلفاء، فهؤلاء من مفاخر الإسلام. وما أعظم الإسلام إذ انّه لم يُربّ أبناءه ليكونوا العوبة بيد الخلفاء، كلا وألف كلا!
إنّ فقه أحمد بن حنبل – كما ذكرنا – جامد للغاية. ولم يعمل بقياس العقل، في حين كانت مدرسة أبي حنيفة ترى – وبكل تطرف – انّ الحجبية للعقل ولا غير، وبلغ أبو حنيفة حدّاً في تعبده بالعقل يأباه العقل نفسه، وكما قلنا – انّه كان قليل الرجوع إلى الأحاديث. ويمكن أن نعبّر عن قياسه انه لون من ألوان حرية التعبير عن الرأي في أمور الدين، وقد تجسد ذلك من خلال التصرفات والممارسات اللامحمودة التي تعرضنا لشيء منها ليلة أمس.
وينقل عنه "أحمد أمين المصري" في كتابه "ضحى الإسلام" قصّة تتعلق بقياسه فيقول: ذهب ذات يوم إلى الحلاق ليحلق لحيته، وكانت قد أبيّضت بعض شعراتها، فأمر الحلاق أن يلقط الشعر الأبيض من لحيته ظنّاً من أنّه لو لقطه فلا ينبت بعد ذلك مكانه، فقال له الحلاق: ان لقطتها كثرت، قال: إذن القط السود حتى تكثر!! علماً انّ من طبيعة الإنسان انّه لا يرغب أبداً في ابيضاض شعره لاسيما إذا كانت عند زوجة شابّة! فماذا يعني عمل أبي حنيفة هذا؟
إنّه هو القياس بذاته. ومدرسة أبي حنيفة هي مدرسة القياس، وهذا القياس هو الذي كان يفضى إلى حصول ممارسات وتصرفات غير مناسبة في الدين، ولو كانت قد استمرت لتلقى الدين منها صفحات قوية، علماً انّه لم يعارض القياس أئمتنا فحسب، بل عارضه مالك، والشافعي بتطرف، وأحمد بن حنبل الذي كان لا يرى للعقل دوراً في المسائل الدينية واستنباطها.
ولو قُيض لأحد أن يتعرف – عن كثب – على المدارس الفقهية الكبرى لعامة المسلمين، ويرى ماذا قال أبو حنيفة، وما قال الآخرون، ثمّ يراجع ما قاله أئمة أهل البيت – عليهم السلام – لوجد أنهم قد انتهجوا طريقاً يعتبر – بحق – مفخرة عظيمة في دنيا الإسلام، فلا برأي أبي حنيفة أخذوا، ولا رأي الآخرين انتهجوا. وهنا يكمن أحد أدلتنا على الإمامة.
فأئمتنا – عليهم السلام – حاربوا القياس بشدّة، وقولهم فيه مشهور: "الشريعة إذا قيست محقت" فلم يقولوا مثل ما قال أحمد بن حنبل: إنّ العقل لا دور له في الاستنباط، بل أعطوا للعقل دوره، لكن ذكروا انّ القياس لا يمت للعقل بصلة. ولم يروا ما رآه الشافعي، ولم يوصدوا باب القياس – كلية – كما أوصده مالك. فنهجهم يتميز بالاستقلالية والأصالة، وحكموا للعقل بالأصالة أيضاً. ويقول علماء الحنفيّة بحجيّة الكتاب، والسُنّة، والاجماع، والقياس، ويقول علماء الحنابلة بحجيّة الكتاب، والسُنّة، والاجماع، ولكن علماء الإماميّة يختلفون عنهم فهم يقولون بحجيّة الكتاب، والسُنّة، والاجماع، والعقل. والمقصود بالعقل هنا هو الطريق الوسط بين الجهل والجمود. ولو أخذنا به في استنباط الأحكام لعلمنا انّه حجّة الله تعالى. ونقل عن أحد الأئمة المعصومين (ع) قوله: انّ لله حجتين: ظاهرة وباطنة، والعقل هو الحجّة الباطنة، وفي نفس الوقت نسفوا القياس بأن تكون له أدنى حجّة في الاستنباط (العقل حجّة وليس القياس كذلك)، ونعم ما أناروه لنا من سبيل بين جمود ابن حنبل في رفضه للعقل، وجهل أبي حنيفة في أخذه بالقياس. وهذا هو الاجتهاد بمعناه الحقيقي لكن لم يظل على حاله، لأنّه – ولا للأسف – قد ظهرت بين أتباع أهل البيت تيّارات وقفت منه موقفاً سلبياً، وعلى رأس هذه التيارات: التيار الاخباري، الذي سأتعرض له فيما بعد... ويبقى العقل هو الطريق المتبّعة عند الإمامية. وهو حجّة عندهم، بل هو حجّة الله – جلّ شأنه – لكن لا يعني هذا أن يسرح كيف يشاء بل له قانونه الذي لا يتعدّاه، وحدوده التي لا يتجاوزها، إذ لا يمكن اعتبار كل رأي حجّة بذريعة انّه صادر عن العقل. فبعضها يمكن اعتباره هكذا، وبعضها لا يمكن. فمن التي يمكن اعتبارها حجّة – مثلاً ما يقوله العقل بضرورة اتباع العلم واليقين، وما لم يحصل العلم واليقين في الشيء فلا يُتّبع ذلك الشيء، وهذا هو ما ذكره القرآن أيضاً بقوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم) (الإسراء/36) .
ويقول القرآن الكريم في هذا الصدد:(وان تطع أكثر من في الأرض يُضلّوك عن سبيل الله) (الأنعام/116) وذلك لأنّهم لا يتّبعون العقل (ان يتّبعون إلّا الظن وان هم الا يخرصون) (الأنعام/116). فالله – تعالى – جعل العقل بكيفية لا يسير معها وراء شيء من الأشياء ما لم يحصل له العلم واليقين به. والقرآن يرى قيادة العقل وريادته اعجازاً، ووضع له قوانين خاصّة به قبل أن يضع له ديكارت بعد عشرة قرون. ولو طالعنا قوانين ديكارت التي أثارت في العالم ضجّة يومذاك لوجدنا انّها ما تزيد على ما جاء في القرآن شيئاً. فمن جملة ما قاله ديكارت على سبيل المثال انّه إذا أراد أن يستخدم عقله، فأوّل قوانينه هو انّه ما لم يحصل له العلم بالشيء فلا يتّبعه، ويقول أيضاً: انّي صمّمتُ على ان لا أحكم على شيء ولا اقوّمه من وحي التسرّع. ويستطرد قائلاً: انّه ينبغي على العقل، قبل كل شيء، أن يحصل على الأدلّة الكافية حتى يحكم على الأشياء. أي: هل انّ الأدلة كافية أو لا؟ فمثلاً يرى داروين انّ الإنسان من سلالة القرود (وهناك قرائن على كلامه) لكن بعض الغوغائييّن – ممّن يعوزهم التأني – أثاروا في العالم ضجّة زاعمين انهم قد عثروا على أبي آدم! علماً انّ دارو ين قد ذكر انّ في العالم حلقة مفقودة، ممّا جعل بعض الماديين يقولون بأنّه قد تمّ العثور على تلك الحلقة المفقودة، فاتّصلت بقيّة الحلقات مع بعضها البعض.
هذا هو التسرع بعينه. والطريق الوسط هو انّ الإنسان يتخذ من العقل مصدراً ومرجعاً. أي: لا يتعجل في موضوع العقل وعمله، فلا يبدى رأياً في قضية من القضايا ما لم تكن واضحة عنده، ولا يجعل لميوله النفسية نصيباً في عقله، فالذات البشرية خادعة للعقل الإنساني إذ قد يريد الإنسان أن يحكم في قضيّة ما فتجرّهُ ذاته إلى الحكم من جانب واحد، والذاتُ تُغفل العقل وتفقده توازنه.
يقول ديكارت: يجب أن نجعل للنفس حسابها في الحكم على الأشياء، وينبغي أن يكون لميولها نصيب في ذلك.
ومن الأشياء التي تضلّ العقل الإنساني وتضطرّه إلى الخطأ سيرة الماضين من السلف، وهذا موضوع مهم للغاية لا ينبغي الغفلة عنه. يقول فرانسيس بيكون في هذا الصدد: من الأشياء التي تخدع عقل الإنسان سيرة الأوائل في الأعصار الماضية.
ويعبّر عنهم بالأصنام فيقول: إنّ الأوائل كالأصنام تضل الإنسان وتخدعه إذ يرى الإنسان ما فعل أبواه فيفعل مثلهما. علماً أن سيرة السابقين لا تسمح للإنسان أن يفكّر بحرِّية، فيحول التفكير بها دون حريّة فكره. وكم أكّد القرآن الكريم على هذا الموضوع العجيب، وهو أوّل الكتب التي تحدثت عنه، وقد لاحظت ذلك بنفسي عندما وفّقني الله في وقت من الأوقات حيث تحرّيتُ القرآن كلُّهُ، فرأيتُ انّه ما من نبي بعث إلى قومه إلا قالوا له: أنت تدعونا أن نترك سيرة آبائنا، وتعمل ما تشاء. فكان جواب الأنبياء لهم أن يتركوا سيرة آبائهم، ولسان حالهم – كما ورد في القرآن –: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة/ 170)، فانظروا ماذا يحكم العقل؟ ومن الأشياء الأخرى التي تجعل العقل يزلّ ويهفو: العظماء في كل عصر حيث يتأثر الناس بهم ويطيعونهم طاعةً عمياء. ويذكر القرآن الكريم فريقاً من الناس يساقون إلى جهنهم ولسان حالهم يقول: (وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا) (الأحزاب/67) ومن يكون هؤلاء الكبراء؟ أليس قد منّ الله عليك بالعقل – أيها الإنسان – وأرسل لك الأنبياء؟
إنّ هدفي من وراء ما قلته هو انّه يمكن تحصيل الاعتدال عن طريق العقل.. وأئمتنا هم الذين وضعوا حجر الأساس له، وإذا لم يسعنا أن نتّبعهم بشكل صحيح، فلأننا لا نستحقّ هذا الوسام العظيم، وتكون النتيجة امّا أن ننحدر صوب الجهل، أو نتقوقع في الجمود والعياذ بالله.. لكن أئمّتنا هم الذين مهّدوا الطريق وكفى.. ودعاؤنا من الله أن يعرّفنا على حقائق القرآن أكثر فأكثر ويبصّرنا طريقهم.

المصدر: كتاب الإسلام ومتطلبات العصر

ارسال التعليق

Top