◄يشعر الإنسان دوماً أنّ في أعماقه فراغاً لا يمكنه أن يملأه... ويحسّ أنّ في داخله سرّاً خفيّاً لا يستطيع كشفه أو الاهتداء إليه...
ولعلّ هذا الشعور، وذاك الإحساس، هما من مقوّمات حياتنا نحن بني البشر، فنظلّ مشدودين إلى غيبيّات تكون بمثابة دوافع لنا وآمال، حتى يكون لتلك الحياة معنى ولوجودنا فلسفة ومغزى...
وإلّا لو استطاع الإنسان بلوغ كلّ ما يريد، وتحقيق كلّ ما يراوده، لأصبحت الحياة لديه رتيبة، سهلة، تشدّها الرتابة، ويغلّفها الفراغ. فيموت لديه الإحساس بالدوافع التي تقضّ عليه مضاجع فكره، ونعني فيه التطلّع إلى الأماني والآمال التي تضغط على قلبه ونفسه...
ولا شكّ أنّ الإنسان كلّما أمعنَ فكراً، أو أعمل شعوراً، كلّما جذبته حياته كي يفهمها، ويتعرّف على ما في ثناياها من الجلائل والعظائم. وإنّه لفي كلّ مرحلة يصل فيها إلى علم أو معرفة، أو في طور يكتشف فيه سرّاً أو خفيّة، يوقن أنّ هنالك أيضاً الكثير مما يجهله، وأكثر منه مما بَعُدَ عنه، ولم يُدركه بعد..
لقد تحقّق حتى الآن من العلوم والمعارف فوق ما يعجز عنه الوصف.. إنّه الإنسان.. كبير في خلقه، عظيم في تكوينه.. ولكنّ هذه الخلائق تجعله دائب البحث والتنقيب، دائم القلق والتطلُّع.. يدرك أنّه قادرٌ على أن يعطي المزيد، فلا يقف عند حدّ.. فيظلّ في أعماقه الفراغ، وتبقى الأسرار في بواطن نفسه..
أمور جسام تشدّه إليها، فيعجز عن إدراكها..
أو عن النظر في الماضي السحيق، متقصياً أخبار الأُمّم السالفة، منقّباً في معالم الحضارات الغابرة، يقتبس خبرات وتجارب، ويغترف علوماً ومعارف، هي مقوّمات ضرورية للاهتداء إلى ما يريد.. ولكنّه في كلّ ما فعل، وفي جميع ما أعطى، يظلّ مقصِّراً عن معرفة نفسه، وعمّا هي عليه تلك النفس من الكينونة والحقيقة، ومن الكبر والعظمة..
إنّ تلك النفس هي من صنع الله، وقد أرادها أن تكون على ما زرعه فيها من مقوّمات وقدرات وملكات، فإن حقّقنا معجزات في وجودنا، ولم نحقّق لتلك النفس ماهيتها الحقيقية، فإنّنا لم نفعل شيئاً، لأنّنا لم نهتدِ إلى ذاتنا..
ولا نحيد عن جادة الصواب إذا قلنا إنّ الله سبحانه وتعالى، عندما بَعَثَ أنبياءه ورسله إلى الخلق، إنما كان يهدف إلى تعريف الإنسان إلى نفسه، والاهتداء إلى ذاته قبل كلّ شيء.. لأنّ في تلك المعرفة، وفي ذاك الاهتداء، إدراك لحقيقة الوجود.. وجود الله على ما هو فيه، ووجود الإنسان على ما يجب أن يكون عليه.. (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) (الروم/ 8).
ولقد جسّد الأنبياء والرُّسل، وهم الصفوة المختارة من بني البشر، الحقيقة التي أرادها الله.. فكانت سِيرَهم مثالاً أعلى للذات البشرية، وتعبيراً أسمى للنفس الإنسانية..
ولعلّ في معرفة تلك السيَر، من خلال الاطّلاع على قصص حياتهم، وما حفلت به من أحداث، أو ما اشتملت عليه من أفعال، أو ما هدفت إليه من عِبَر وعِظات. لعلّها خير دليل لنا على الوصول إلى معرفة الحقيقة التي ننشد، إذ يبرز في تلك القصص النموذج الكامل للحياة البشرية، وهي تتدرج مع الزمن، وتنتقل من طور إلى طور حتى تبلغ النهاية التي يجب أن تقف عندها. صحيح أنّ آلاف السنين قد عبرت، وأنّ قوافل الملايين من الناس قد ذهبت، وصحيح أيضاً أنّ حضارات كثيرة من العمران والبنيان، في مختلف الأقطار والأمصار قد اندثرت، إلّا أنّ القرآن الكريم قد احتواها بمجملها، ففصَّل منها ما أوجب التفصيل، وأوجز ما اقتضى الإيجاز، حتى يعطي للحياة البشرية الصورة المتكاملة في تواصلها واستمرارها.
وإذا كانت تلك المعاني والدلائل، قد جاءت متفرّقة في السُّوَر القرآنية، في مواضع شتّى، فإنّها وردت على هذا النحو كي تلازم الظروف والأحداث، وتري الخطوط والأهداف، وتعطي الأثر الذي شاءت الإرادة الإلهية أن تعطيه..
وإذا كان القرآن الكريم بين أيدي الملايين من الناس، ويمكنهم قراءته في كلّ حين، فإنّه قد يصعب على الكثيرين منهم أن يصرف وقتاً طويلاً في الاستقصاء والاستقرار، كي يربط بين تلك المواضيع، ويستخلص الفائدة التي يرجوها.
ولما كانت الغاية من هذا العمل، الذي نضعه بين أيدي القراء الكرام هو اجتناء أكبر قدر ممكن من الفائدة التي يتوخّون، فإنّنا رأينا أن نعتمد طريقة سهلة، تقوم على جمع كلّ الآيات التي أتت على ذكر نبي من الأنبياء، وفي سائر المواضيع التي وردت فيها، ثمّ نضعها في قصّة واحدة جامعة، تمكّن من معرفة كلّ ما يتعلّق بجوانب حياة هذا النبيّ وما حفلت به من مآثر..
وعلى هذا النحو، تكون القصّة الواحدة، التي وردت في أكثر من سورة، وفي عدد من الآيات، قد جمعت مستقلة تامة موحدة، في أسلوب جديد، يعبّر عن نزعة مستحدثة إلى معرفة الحقيقة الإلهية التي لولاها لما كان لبني البشر من حياة، ولما كان للكون من وجود، وعلَّ هذه النزعة تكون سبيلاً من السُّبل التي تهدي الإنسان إلى الإيمان الحقيقي، وإلى سموّ النفس الإنسانية نحو المشارف التي أرادها الله سبحانه وتعالى.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق