• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الوقت.. رصيدٌ مدوّر

أسرة البلاغ

الوقت.. رصيدٌ مدوّر

العمرُ الذي يكتبهُ الله تعالى لأيّ منّا هو (رصيد) موضوع في بنك الأيام بإسمه.. ينفقُ منه بقدر ما هو مُودَع منه، حتى إذا انتهى الرصيد، انتهى الوجود من الحياة.

رصيدُ العمر هذا يمكن أن يُبدّد ويُبعثر ويُبذِّر فيما يضرُّ ولا ينفع.. ويمكنُ أيضاً أن يُصرَف بطريقة استثمارية رابحة وناجحة.. وهو أن توظِّفه في النافع الصالح من الأعمال فيرتدُّ عليك أجراً وثواباً ومغفرة وعطاءً مضاعفاً.

ففي حين أنّك تسحبُ من رصيد أيامك فينقصُ مع النفقة أو الإنفاق.. تفتح حساباً آخر للإدخار فقط يزداد وينمو مع الإنفاق.. فربَّ دقيقة مفعمة بعطاء مبارك تدرُّ عليك ربحاً، وفيراً في ساعة العسرة (في الدنيا) أو في يوم الفاقة (في الآخرة).

على ضوء ذلك، فإنّ رصيدك الأوّل "عمرك" يبدأُ كبيراً ثمّ يتناقص.. أما رصيدك الثاني "عملك فيبدأ من الصفر ثمّ يتصاعدُ بقدر ما عندك من قدرة واستعداد وممارسة على الصعود والتصاعد.

والوقت – كما هو في عُرفِ رجال الأعمالِ من أهل التجارة والأموال – ثروة، إلّا أنّ الناس أمام المال إثنان: أحدهم ينفقُ أموالهُ في السفاسف والترهات والمباذل والمفاسد، حتى إذا انتهت وتلاشت عضَّ إصبع الندم، وانكفأ يائساً محسوراً، وربّما تراه يذهب ليستدين فلا يجدُ مَن يُدينه، فليست الأعمار للإقراض والمداينة.. وآخرُ يستثمرُ أمواله فيما يُضاعفها ويربِّيها أضعافاً مضاعفة.

يقول الأديب "ميخائيل نعيمة" في كتابه "البيادر":

"رغوةٌ هو العمرُ، بكلّ ما يتخلّله من مدِّ الأهواء وجزرها، وثورة الأفكار واستكانتها، وثرثرة اللسان والكلمة.. أمّا (صفوة) العمر فلمحةٌ من تسنى الحقّ.. ونفحةٌ من روح الفهم الذي يصهرُ كلَّ الناس في إنسان واحد يهزأُ بالزمان والمكان فلا يرضى لهُ موطناً إلّا "حضنَ الله" ولا مسكناً إلّا "قلب الله".. والناسُ – إلّا قليلُهم – لا يرضون من أعمارهم بغير الرغوة، وهم يُغالون في الحرص على رغوتهم فيقيمون لها المراتب والأثمان والأوزان.."!!

تلك هي قصّةُ أعمارنا ببساطة متناهية.. بداياتُها معروفة.. ونهاياتها معروفة..

 

مخلوقونَ للعمل:

لم يخلقك اللهُ تعالى لتكون عالةً على الحياة.. أو كمّاً مهملاً.. أو لتقف على التلِّ متفرِّجاً.. فالدنيا "سُوق" ربح فيها تُجّار وخسر هنالك آخرون.. ولقد التفت أحد الشعراء إلى هذه الحقيقة الساطعة، فقال:

إذا أنتَ لم تزرعْ وأبصرتَ حاصداً *** ندمتَ على التقصير في زمنِ البذرِ!!

فبعيداً عن الفلسفةِ، أو التعقيد في الكلام: "الدنيا مزرعةُ الآخرة".. إزرع بصلاً.. تحصد بصلاً.. إزرع تُفّاحاً تحصد تُفّاحاً.. إزرع شوكاً.. تحصد شوكاً.. وازرع ورداً تجني ورداً.. تتركُ أرضكً بَوراً (هكذا فارغة بلا زراعة).. يُشقِّقها الجفافُ.. وتستبدُّ بها الأفلاحُ.. وينعبُ[1] فيها الفراغ..

هذا شأنك.. وهذا خيارك.. فاختر مَن تكون!

فإذا أتيتها – في زمن الحصاد – شاكياً، معاتباً، باكياً من تجهّم وجهها الكالح.. شكتك وعاتبتك ولامت تقاعسكَ وتوانيك.. إذ لم ترعها ولم تحفظها ولم تُحيها كما أحياها الزرّاعون.. الفلّاحون المُفلِحون!!

تعبوا أياماً معدودات.. أعقبتهم راحةً واستمتاعاً طويلين، فكلٌّ سعيدٌ بجناهُ ومحصوله ونتاجه.. إنّهم اليوم في شُغلٍ فاكهون.. يتمتّعون ويتنعّمون بما تعبوا في أيام الزرع.. جاؤوا أرضهم وهي خالية – كأرضك – فحرثوا.. وشقّوا.. وبذروا.. وسقوا.. ورعوا وتعاهدوا[2].. فإذا أشجارهم اليوم ضاحكة كأولادهم تسرُّ الناظرين.. تقولُ لهم وهي باسمة: لم يفتكم شيء.. أعطيتموني جهداً ووقتاً وعرقاً وصبراً.. فكلوا هنيئاً بما أسلفتم[3] في الأيام الخالية.

وحدَها أرضُك البور تشتكيك بمرارة.. تقولُ لهم: ضيّعتني ضيّعك الله.. لو كنتُ عند فلّاحٍ مجدّ مجتهدٍ نشيط لرأيتني الآن أزهو وأُزهرُ بروائعي كما تزهو حقولُ المجدّين وبساتينهم ومزارعهم بروائِعها.. أمتّني وأنا حيّة.. مارستَ (الوأدَ) بحقّي.. وأنا (ولود).. جنيتَ عليَّ وعلى نفسك.. يا لخسارتك!!

هل يُجدي الندم؟!

الفلّاحون الآن حركةٌ دائبة، يروحون في موسم الحصاد ويغدون فكهين.. منشغلين في إعداد وترتيب وتسويق بضائعهم ومنتوجاتهم ومحاصيلهم.. يغمرهم الفرحُ الأكبر.. ودموعٌ كبيرةٌ ساخنةٌ تملأُ عينيك وتحرقُ وجنتيك وأنتَ تنظرُ إلى أرضكَ البور وهي خاوية على عروشها.. عاطلة معطّلة.. مكسورةُ الجناح والقلب والخاطر!

هذا إذا تركتها خاليةً من دون أي زرع.. أما إذا زرعتها بالأشواك وبالأدغال وبالطحالب والنباتات الضارة، فسوف يكون حصادها وبالاً عليك، لا لأنّك لن تجد مَن يشتريه ولو بثمنٍ بخس، بل لأنّ جناك (محصولك) سيجفّ سريعاً، ثمّ يستحيلُ حطباً لنار تأتي عليك وأنت لا تملكُ منها فِراراً.

يقول الأديب (جبران خليل جبران):

"لِمَ أحبُّ من الناسِ العامل؟!

أحبّهُ لأنِّي أرى هذا يجدُّ في حديقةٍ ورثها عن أبيه شجرةَ تفّاح، فيغرس إلى جانبها شجرةً ثانية، وذاكَ يتناولُ الأخشابَ اليابسةَ المهملة فيصنعُ منها مهداً للأطفال.. أحبُّ من الناس العاملَ، لأنِّي اليابسةَ المهملة فيصنعُ منها مهداً للأطفال.. أحبُّ من الناس العاملَ، لأنِّي أرى الطيّان يحوّل الطين إلى آنيةٍ للزهور أو للعطور، وأرى الحائك يحوك من القطن قميصاً ومن الصوفِ جُبّة، ومن الحريرِ حَبرة، وأرى الحدّاد الذي يطرق الحديد بالمطرقة ويُنزلُ مع كلّ طرقة قطرة من دمه..

أحبُّ كلَّ هؤلاء، كما أحبُّ ذلكَ الخيّاط الذي يخيطُ الأثوابَ بأسلاكٍ مشتبكةٍ من نور عينيه.. أحبُّ هؤلاء العمّال.. أحبُّ أصابعَهم المطليّة بغبار الأرض، أحبُّ جباههم المتلألئة بجواهر التعب والإجتهاد"!!

وتلك هي أيضاً قِصّةُ الآخرة.. قصّةُ الحصاد.. فزارعٌ وما زرعْ، وحاصدٌ وما حصدْ، ومُقصِّرٌ وما قصّرْ، وصدقت العربُ إذ تقول: "على نفسِها جنت براقش"! (هذا مثلٌ يُضربُ للذي يُسيء فيتحمّل تبعة ونتيجة إساءته).

 

إعمارُ الأرض.. المهمّة الأولى:

خلقَ الله تعالى الإنسانَ وقالَ له: هذهِ أرضي فاسعَ فيها.. عمِّرها ولا تدمِّرها.. وسِّعها ولا تضيِّقها.. أصلِحها ولا تُفسدها.. أدواتُ الإصلاح والإعمار والبناء كلُّها بينَ يديك.. وأدوات الإفسادِ والدمارِ والتخريب كلُّها بين يديك.. سأعطيك مُهلة أو أجلاً مُعيّناً ومحدّداً لأرى إن كنتَ من المصلحين المعمّرين، أم من المفسدين الضارّين المخرّبين؟!

هذه هي مدرستُك.. وهذه هي مناهجك، وخرائطك.. هؤلاء هم معلِّموك وأساتذتك ومرشدوك.. وهذا هو امتحانُك.. ولكَ عليَّ إذا نجحتَ أن أُكافئك بما لا تحلمُ به من عطايا ومكافآت وجوائز.. أمّا إذا أخفقت وعصيتَ وخُنت وفشلت.. خسرتَ وهلكت، فلا يلومنَّ (راسبٌ) أو (ساقطٌ) أو (مقصِّرٌ) أو (متخلِّفٌ) أو (فاشلٌ) إلّا نفسَه!

الأرضُ كلُّها لكم.. وفسحةُ العمر كلُّها لكم المُجدُّ الذكيُّ الشاطرُ الذي لا يترك زاويةً في أرضه إلّا ويزرعها بما يعودُ عليه في يوم حصاده خيراً عميماً، حتى ولو كانت أرضهُ صغيرة (عمر محدود).. والغافلُ الكسولُ المتقاعسُ هو الذي يتركَ أرضَهُ بوراً، أو يزرعها بالضارّ من النباتات حتى ولو امتلك مساحة شاسعة (عمر طويل)..

إعمارُ الأرض – يا أبناءَ آدم – بكلّ ما تعنيه كلمة الإعمار.. مهمّتكم الأولى والكبيرة.. وليسَ بالحجارةِ وحدَها تعمرُ الأرض.. بل بـ(الحبّ) الذي يُحيلُ الحجارةَ إلى (معبَد) و(بيت) و(معمل) و(مدرسة) و(روضة) و(متجر) و(مكتبة)..

ورشةٌ كبيرةٌ هي الأرضُ.. وعلى مقدار ما يُنتج العامل منكم يتحدّد أجره.. أي أنّه هو الذي (يختار أجره)! فالأجور هنا ليست مقطوعة أو نهائية، بمعنى أنّها قابلة للتمدّد والإتساع والزيادة والنماء، بمقدار ما يتسع إناءُ "الهمّة" لإنجاز "المُهمّة"!

تلك هي أيضاً قِصَة المهمة المركزية والجوهرية التي أنيطت بي وبك وبكلّ إنسان قبلها راضياً قانعاً ومُطيعاً.

 

تقييم أوّلي لتأريخ التجربة:

يبدأ تأريخ المشروع الإعماري والإنمائي الكوني منذُ أن وطأت قدما أبينا آدم (ع) وأُمّنا حواء (ع) الكوكبَ الأرضي ليُباشرا مُهمّة الإعمار كأوّل نموذجين بشريين عاملين على سطح الأرض.. منذُ بداية البداية كان واضحاً أنّ هناك نموذجين مختلفين أحدهما: (إعماريّ بنّاء) والآخر (تدميري فنّاء) – أي أنّ لديه نزعة في إفناء الآخر وتدمير الحياة.. تمثّل الأوّل في (هابيل) والثاني في (قابيل).. ثمّ أخذت الحياة مجراها في الشدّ والجذب بين هذين النموذجين الذين توسّعا فيما بعد ليتحوّلاً من شخصين إلى (خطّين) أو (قطبين).

بنّاء والحياة ومعمّاريوها هم (الهابيليون).. وهدّاموا البناء ومخرِّبوه هم (القابيليون).. وكلُّ ما أنجزتهُ حضارةُ الإنسان من إبداعات الفكر والعمل هو من بركات الصنف البنّاء، وكلُّ ما دُمِّر وسُحق وأفسد وخُرِّب وشُوِّه صدرَ عن شرور الصنف (الهدّام).

خُذْ أيَّ مقطع تأريخي.. أيّة مساحة زمنيّة شغلها الإنسانُ وفي أيّة بقعة من الأرض توطّن فيها.. تفحّص أيّة حضارة أقام صروحها، وأيّ أمجاد خلّفها، وأيّ مدنيّة بناها، ثمّ انتقل ببصرك إلى الجهة الثانية، لترى أيّة حروب أشعلها، وأيّ اعتداءات وانتهاكات ارتكبها.. وأيّ همجيّات اقترفها.. ستجد دائماً صورة الاثنين ماثلةً أمامك: صورة الهابيليين وصورة القابيليين.. ليس على شاشة أفلام زمان، بل على مسرح الواقع المُعاش أيضاً.

 

 الهامش:


[1]- ينعب: من النعيب وهو صوت الغراب الذي يكثر تواجدهُ في الخرائب.

[2]- المعاهدة هنا: المتابعة المستمرة، وملاحقة الآفات ومعالجتها أوّلاً بأوّل.

[3]- أسلفتم: قدّمتم، والأيام الخالية، الماضية.

ارسال التعليق

Top