• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الوقاية التربوية

فتحي يكن

الوقاية التربوية

التربية – عموماً – عملية بناء للفرد والمجتمع وفق صيغة قائمة على مفاهيم عقائدية وأخلاقية محددة، فإذا كانت التربية إسلامية، كان ارتكاز هذه الصيغة على مفاهيم الإسلام العقائدية والفكرية والمسلكية..

والعملية التربوية في الإسلام تستهدف بناء الشخصية، بناء الفرد والمجتمع، وفق هذه المفاهيم تماماً ومن غير مداخلات أخرى.. فإذا تحقق ذلك كان بناء الشخصية الإسلامية بناء متكاملاً ومتوازناً ووقائياً. الشخصية التي تمتلك مناعة ذاتية تحفظها من السقوط في المتاهات والانحرافات والوقوع في فخ الأهواء والنزوات.

إنّ ملاحظة أن تكون العملية التربوية وقائية من شأنها خفض نسبة المشكلات والآفات في حياة الفرد والجماعة إلى الحدود الدنيا، وبالتالي خفض نسبة الطاقات والأوقات التي تُهدر – وعلى كلِّ المستويات – إلى الحدود الدنيا كذلك.

إنّ الساحة الإسلامية عموماً لا تزال تعاني من إخفاق مناهج التربية، ومن بروز وتنامي ظواهر مرضية كثيرة.. والاعتبارات في هذا الشأن كثيرة، منها:

1-  إنّ العملية التربوية تتم وسط بيئة منحرفة لا تساعد على إنجاح العملية، وإنما تتسبب بإجهاضها وإفشالها..

2-  إنّ هذه البيئة، بما تمتلكه من إمكانات التأثير المختلفة، التعليمية والإعلامية وغيرها، تجاوز أثرها الشريحة المُراد تربيتها، إلى النهج التربوي نفسه وإلى آلية التربية نفسها.

3-  إنّ عملية التربية لا تزال تراكمية الأسلوب، لا تقوم على نظرية متكاملة الحلقات والمفردات، متناسقة الأدوار والخطوات. فهي تقليدية المنحى، شأنها شأن البرامج التعليمية (المدرسية أو الجامعية) مما يُفقدها القدرة على تحويل هذه المفاهيم إلى واقع مُعاش، وإلى ممارسات سليمة، وإلى مواقف ومبادرات ذاتية صحيحة في شتى المجالات..

إنّ بروز كثير من الآفات المرضية في بنيتنا التربوية والحركية، ومن خلال الممارسات والتجارب المختلفة: كسقوط الأعضاء وخسارتهم، والنزعات الفردية القاتلة، والظواهر العنفية والتطرفية المدمرة، والنزعات النفعية والمصلحية المؤذية، وافرازات الخطوات والمشاريع غير المدروسة، والانشقاقات في البُنى التحتية والفوقية، والعصبيات المحلية والإقليمية، وعدم تفعيل الدور المؤسسي، وضعف التأثير في المحيط، والفشل في بناء البيت المسلم، وتراجيعة القدوة الحسنة، يؤكد وجود خلل ما في النهج التربوي.

بصراحة أقول.. إنّ عملية التربية – حتى تكون فاعلة وجذرية ووقائية – يجب أن تعتمد أسلوب (التخلية ثمّ الترقية) أي قاعدة (التضعيف ثمّ التوثيق). وبعبارة أوضح قاعدة تدمير القديم وبناء الجديد، أي إزالة رواسب الماضي، وإعادة بناء الشخصية وفق الأسس والأوليات الشرعية..

إنّ العملية التربوية يجب أن تبدأ بعد كشف الحالة التي عليها الفرد، لمعرفة: أفكاره وكيف يفكر، تصرفاته وكيف يتصرف، علاقاته ومن يعاشر، مشاكله ومسبباتها، وميوله وغرائزه ومدى تحكمه فيها، نقاط القوة والضعف عنده، مكامن الخير والشر فيه.. بعد ذلك، يمكن تحديد المنهج موضوعاً وكيفية.. وكلّ عملية تربوية تتم خلاف ذلك لا تحقق إلا تراكمات جديدة في شخصية الفرد، قد تُصيب حيناً، ولكنها تكون فاشلة في غالب الأحيان، لأنّ الجديد بُني على إعوجاج القديم..

إنّ على الحركة الإسلامية أن تُعيد النظر وبشكل جذري في العملية التربوية. يجب أن تتحسس الواقع بما فيه من أمراض وعلل، أن تدرس التجارب التربوية ومدى نجاحاتها. وأن تستيقن من مدى جدارة المناهج المعتمدة، لترى في النهاية إن كانت هذه المناهج تتكافأ مع عملية تغيير الواقع – أفراداً وحركة – والارتقاء به إلى المرتجى؟.

اكتفي بعرض مثال واحد من الظواهر المرضية في الواقع الحركي الإسلامي المعاش وهو مرض الانفصام المزمن بين السياسة والتربية، والخصام شبه الدائم بين العاملين في الحقل السياسي وبين العاملين في الحقل التربوي.. ولا أرى سبباً رئيسياً لذلك إلا أنّ العاملين في الحقل السياسي انقطعوا عن المجالات والاهتمامات الشرعية والتربوية – فكراً وممارسة – وأنّ العاملين في الحقل التربوي انقطعوا عن المجالات والاهتمامات السياسية والاجتماعية – فكراً وممارسة كذلك –.

كما نجد: أنّ المفهوم السياسي والنظرية السياسية، غير مبنية على أدلةٍ شرعية، وأنّ المفاهيم الشرعية والمناهج التربوية، غير مرتبطة بالواقع السياسي أو مُلاحِظة له.

إنّ النظرية التربوية يجب أن تستهدف – ومن خلال أي منهج يوضع ومفردات تُعتمد وتصنف – تكوين الجيل الإسلامي المنشود.. ومن مواصفاته:

-         أن يكون متفقهاً في شرع الله ملتزماً به.

-         أن يكون فاعلاً في مجتمعه وبيئته بأفكاره وسلوكه ومواقفه وطروحاته.

-         أن يعيش هم الإسلام والحالة الإسلامية في كلِّ شؤونه.

-         أن يكون واعياً لزمانه وعصره مُدركاً لما يجري حوله. فهو إن كان مكلفاً بحيازة ما يجب أن يُعرف من الدين بالضرورة، فإنّه مكلفٌ كذلك بحيازة ما يجب أن يُعرف من (العصر) بكلِّ أحواله السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية وغيرها بالضرورة كذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

إنّ نجاح العملية التربوية ليس في اختزان المعلومات والثقافات والعلوم المختلفة وملء الأدمغة بالمعارف، إنما في تفعيل هذه جميعاً لتؤدي كلّ معرفة دورها الصحيح في عملية التربية والتكوين والوقائيين، والله أعلم...

إنّ نجاح هذه العملية يرتبط كذلك بمدى قدرة المربي على تحديد نقطة البدء في التكوين، لأنّ البداية الصحيحة تحقق النهاية الصحيحة. وفي كثير من الأحيان يكون منشأ الفشل في مجال التربية، ناجماً عن كون المربي لم يعرف من أين يبدأ وكيف يبدأ.

إنّ مثل ذلك كمثل بناء (العمارات والدور)، فإن أقيم البناء من غير سبر لأغوار الأرض ومعرفة بطبيعتها وتربتها وخصائصها، وما يلزمها من عُمقِ الأساس، ومئونة الحديد والأسمنت وخلافه، كان بناءً ضعيفاً معرضاً للإنهيار والسقوط لدى أدنى اهتزاز.

فالعملية التربوية يجب أن تبدأ – إذن بعد كشف الحالة التي عليها الفرد، ويجب أن تكون وفق نظرية تربوية متناسقة المفردات والعلوم والمعارف والثقافات، وبواسطة مرب يملك إمكانيات التربية، ويملك قوة النظر والفراسة في الناس، فيتناولهم من حيث يستجيبون ويتأثرون، ويخاطبهم من حيث يسمعون ويفهمون..

وفي معظم الأحيان يعود الفشل في الحقل التربوي إلى الأمور التالية:

-         إنّ المربي لم يستكشف شخصية الفرد ومفردات تكوينه السابقة ليَبني على أساسها.

-         إنّ المربي لا يملك المقومات التي تساعد على التربية.

-         إنّ المادة التربوية لم يحسن اختيارها، فيتعطل بالتالي مفعولها.

-         إنّ بناء الجديد كان في الفراغ أو على أساس غير سليم، أو فوق تراكمات لم يجر رفعها وإزالتها.

 

المصدر: كتاب التربية الوقائية في الإسلام

ارسال التعليق

Top