• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

النزعة الإيمانية في الفلسفة الغربية المعاصرة/ ج (2)

البروفسور محمد لغنهاوزن ترجمة: حيدر نجف

النزعة الإيمانية في الفلسفة الغربية المعاصرة/ ج (2)

وجهة النظر التي تطرقنا إليها في الجزء الأول من الموضوع تجرّنا إلى جملة إشكاليات مثيرة للجدل. من هذه الاشكاليات فكرة أصالة الإرادة، القائلة: إنّ المعتقدات تستحصل بالإرادة. والاشكالية الثانية هي أخلاق المعتقدات. وبالتالي هناك إشكالية العناصر النظرية والعملية للإيمان.
أن تكون المعتقدات وليدة الإرادة، والإرادة مجردةً فكرة غير واضحة على الإطلاق ولا تفيد إلا أصالة الإرادة. يتبنّى كريكغارد صيغة متطرفة جدّاً من أصالة الإرادة، ويظهر أنّه يرى بمقدور الإنسان بإرادته الفولاذية المتينة تبنّي معتقداته بصورة مباشرة حتى لو كانت غير معقولة آفاقياً. وبما أنّ أصالة الإرادة لدى كريكغارد إفتراضية لم يتبنّها أحد، فلا أرى من الضروري الايغال في شرحها، باستثناء الإلماح إلى بعض الرؤى البديلة. فقد يعتقد إنسان أنّه لا يمكن اطلاقاً انبثاق المعتقدات عن الإرادة بشكل مباشر. ومن جهة ثانية فإنّ المعتقدات يمكن أن تكتسب (تُتبنى) بواسطة الإرادة على نحو غير مباشر. فمثلاً أستطيع الارتباط بأشخاص يحملون معتقداً أرغب في تبنّيه إنطلاقاً من ظني أنني عبر ارتباطي بهم أستطيع أن أشاركهم اعتقادهم تدريجياً. كما يمكن طرح وجهات نظر توفيقية بين هذين الرأيين، فحواها أن قسماً من المعتقدات قد تتأتّى بصورة مباشرة عن الإرادة، وقسماً منها بشكل غير مباشر، وهناك قسم منها لا علاقة له بالإرادة من بعيد أو قريب.
إذا كانت المعتقدات الدينية من النوع الذي ينبثق عن الإرادة بشكل مباشر أو غير مباشر، جاز لنا أن نسأل: وهل هذا العمل صحيح؟ هذه هي بالضبط مشكلة أخلاقية المعتقدات فحسب، يرى فريق من الفلاسفة، أنّه ليس من الصواب إكراه الذات على الاعتقاد بقضية أو فكرة. وإنّما يتوجب أن ينبع الاعتقاد عن الشواهد، والأدلة الكافية الموجودة لصالح المعتقد. ولابدّ من إقصاء الإرادة عن مسرح التأثير في اختيار المعتقدات ما أمكن ذلك. وإذا كان للإرادة من دور مشروع فهو في أن شدّ الإنسان عزمه لاستقراء شواهد كافية، يتمخض عنها حكم مسؤول ومعتقدات راسخة. لا ريب أن مماحكات جون لوك مع العاطفيين، والانفعاليين تتّخذ لهجة أخلاقية. فهو يعيب على الانفعاليين، والعاطفيين تبنيهم معتقدات بشواهد غير ناهضة. ويعتقد أن تذكيرهم بلزوم أن تستند عقائدهم إلى شواهد كافية، يساعدهم على التحرّر من العواطف. ويزعم كريكغارد في مقابل ذلك أنّ ما يفخر به الإنسان هو الإيمان وليس العقل. وبدل النقاش حول أفضلية العقل أو الإيمان، ربما انبثقت "أخلاق معتقدات" على امتداد المبادىء الأخلاقية الأشمل. هذه هي الفكرة التي يقترحها فلاسفة معاصرون كآلستون وبويمن. يؤكد هؤلاء أنّ الإيمان الواعي (الإرادي) بأمور غير معقولة ممارسة لا مسؤولة من الزاوية الأخلاقية. ويشير بويمن إلى عواطف لوك، متطرقاً إلى أنّ الدلائل الدينية لا تترك مجالاً للاعتقاد بأنّ الله يطالب الناس أن يؤمنوا بأمور لا معقولة. وجواب كريكغارد هو أنّ الإيمان الواعي بأمور لا معقولة ضروري جدّاً لانفعالات الإيمان بصفته السبيل إلى النجاة والفلاح.
يبدو كريكغارد يخلط بين التسليم النظري بمعتقد، والالتزام العملي بما يترتب عليه من استحقاقات وظيفية. فالإيمان بالمسيحية مثلاً له منحاه النظري الذي يحتّم على الإنسان الاعتقاد بجملة أمور كالتجسّد. وله منحاه العملي الذي يقرر التزاماً إرادياً بالتضاعيف العملية لهذه المعتقدات، ومنها مثلاً: مراعاة الأخلاق المسيحية. الحب العاطفي لمبدأ يقتضي الاستعداد للمخاطرة والتضحية إلتزاماً بالاستحقاقات العملية لذلك المبدأ، وهنا بالضبط ينتصب دور الإرادة والعزم الحديدي. لنفترض أن شخصاً يؤمن بمبادىء أحد الأحزاب السياسية، لا شك أن استعداده للمخاطرة، والتضحية في سبيل الحزب يشير بصلابة إيمانه بالحزب ومبادئه. فإذا بقي الشخص وفيّاً للحزب على الرغم من معارضة الكثير لذلك، ومع تحمّله تكاليف، وأضراراً باهظة فسيشتهر بوفائه الاستثنائي للحزب، ويُحمد على هذا الصمود. إنّ الحفاظ على هذا الوفاء عمل إرادي. أمّا إذا اجتمعت شواهد تثبت أن برامج ذلك الحزب غير عملية، ومبادءه النظرية غير قويمة، فلن يكون من المحمود طبعاً الالتزام العنيد ببرامجه ونظرياته. ففي مثل هذه الحالة ستعود مواصلة الالتزام عناداً، ولجاجة، لا دليلاً على صلابة الإرادة والعزم.
إن مباركة الحزب عاطفياً بالرغم من اتضاح تهافته بالأدلة، لا يتم عن قوة إرادة وإنما عن إنشداد عاطفي إلى معتقدات الذات، وربما التعالي على الاعتراف بالخطأ. الانفعال المحمود هو ذاك الذي يشدّ الإنسان إلى الالتزام العملي باستحقاقات إيمانه، وليس الذي يغنيه عن تمحيص الجانب النظري في معتقداته، ويدفعه للاعتصام العنيف بها رغم لا معقوليتها.
إنّ تشديد كريكغارد على الإرادة كعنصر من عناصر الإيمان ليس في محله. فهو يوظّفها للتصديق النظري دون الالتزام العملي.
وهذا لا يعني أنّ العلاقة منفصمة تماماً بين الصلابة العقيدية، والإيمان الديني. خذوا إليكم مثال طفل في الثانية عشرة من عمره، يعتقد أنّ السياسة الفلانية التي انتهجتها الحكومة خاطئة، ودليله على ذلك تعليمات والده وأقواله. وفي المدرسة يسوق له المعلم أدلّة على صحة هذه السياسة فيحار الطفل بين هذه الأدلة وتلك. حينما يطرح القضية على والده يقتنع أن تلك السياسة خاطئة، وحينما يحاور معلمه يقتنع أنها سليمة. إنّ سريع التأثّر والاقتناع وهي صفة طبيعية لطفل في الثانية عشرة من العمر. لكنه إذا كان حادّ الذكاء سيستوعب بعد فترة أدلة الطرفين، ويفهمها، ويتعلم كيف يبحث ويستدل ويحكم على الأشياء، وكيف يقدر الاشكالات، وينحت لها المعالجة والرأي. هذا الشخص ذاته إذا واجه نظير هذه المشكلة في سنّ العشرين اعتبرناه ساذجاً أو بطيء الادراك، وليس مفتقراً للإرادة اللازمة. وإذا كان الطفل ذو الاثني عشر عاماً حادّ الذكاء، سيفهم بعد عدة أشهر من الحيرة والتفكير أن معلّمه مثلاً على حق. لكنه حينما يحاور والده لا يدري كيف يرد عليه؛ لأنّ والده أكثر تمرّساً في الحوار والمجادلة، وربما خامره الشك بأن أباه على حق، بيد أن هذا الشك لا يكفي لتغيير رأيه. فقد توفر الآن على تجارب في المنهج المستخدم لمناقشة هذه القضايا، وهو واثق أنّه بقليل من السعي والاجتهاد، وربّما بتوجيهات معلمه سيستطيع تكوين ردود لصالح موقفه. وشيئاً فشيئاً يكتسب رأيه بعض الصلابة، لكنها صلابة لا تعزى إلى اللجاجة أو المكابرة. إنّ التصلب ليس فعلاً إرادياً مئة بالمئة، وهذا الطفل لا يختار أحد أمرين متساويين تماماً، وإنّما يستنتج بعد النظر في المسألة أنّ الشواهد العقلية تقف إلى جانب سياسة الحكومة أضف إلى ذلك أنّه توصل إلى اعتقاد ثانوي بشأن موقفه، وهو قدرته على الدفاع عن هذا الموقف حتى لو داهمته شواهد متينة في ظاهرها. هذا اعتقاد ثانوي يسوِّغ صلابته. وبالتالي حتى لو كانت بعض الصلابة العقدية محمودة، فهي لا تفيد استخدام الإنسان إرادته للتوفّر على هذه الصلابة بالرغم من تهافت المعتقد عقلانيّاً، كما يحاول أن يقول كريكغارد.
يرى هذا الفيلسوف أنّ الالتصاق العاطفي بعقيدة غير ممكن إلّا إذا صدّقها الإنسان بإرادته. ومن أسباب اعتراضنا على هذا الرأي تمايز العناصر النظرية، والعملية للعقيدة. فقد يكون لشخص التزام عملي عنيف بما تستتبعه عقيدته من ممارسات حتى لو لم يكتسب عقيدته هذه عن طريق الإرادة. هذا الالتزام العنيف بما يعتقد الإنسان صحته إنما هو التزام محمود، وبالتالي من الممكن أن يكون للمرء التزام عملي راسخ بعقيدة لم تملها الإرادة عليه.
إنّ تصورات كريكغارد للكتاب المقدس ذات أهيمة بالغة في نطاق الحوار بين الإسلام والمسيحية. فمنذ سالف الأزمان أخذ المسلمون على النصارى الثغرات التوثيقية المتعلقة بصحة الكتاب المقدس، وأثاروا افتقار العهدين القديم والجديد إلى توثيق يثبت مصدرهما، في مقابل وفرة الأدلى على المصدر السماوي للقرآن. وغالباً ما كانت ردود النصارى باردة بشكل مثير للدهشة. طبعاً ينكبّ عدد لا بأس به من المتكلمين المسيحيين على بحوث تاريخية معمّقة في مصادر الكتاب المقدس. ولكن يبدو أنّ المسيحيين عموماً لا يميلون لمنح هذه الاشكالية أهميتها اللازمة. ردود الفعل هذه لا تكشف عن دوغمائية غير مفكِّرة وحسب، وإنّما تشير بعقلية كلامية تفصل القضايا الدينية عن الحقائق الموضوعية (الآفاقية)، بل ربما وضعتهما موضع التضاد والتناقض. إنّ الدروس المستخلصة من المناحي الحديثة لنقد الكتاب المقدس هي أنّ القيمة المعنوية للنصوص المقدسة، لا تمتّ بصلة للثغرات التعبيرية واللفظية، بل ولا تمتّ بأي صلة لحقيقة مصدرها والينبوع الذي تفجرت عنه. هذه الفكرة تسطع بوضوح من كتابات كريكغارد. فهو يؤكد فكرة أنّه حتى أُثبتت المصادر السماوية للكتاب المقدس بما لا يدع أي مجال للشك، فلن يقويّ هذا من إيمان أحد. لأنّ الإيمان هو الانفعال والعاطفية، وليس تنقيباً أكاديمياً في مجاهيل التاريخ. فضلاً عن هذا يزعم الفيلسوف الدنماركي أنّ البرهنة العلمية على مصادر الكتاب المقدس كبيرة الضرر على الإيمان، فالعواطف لا تتعايش واليقين. ومن ناحية أخرى يدّعي كريكغارد أنّه حتى لو ثبت نحل الكتاب المقدس، وأنّه لم يكن من وضع الذين يفترض أنهم وضعوه، وإنّه يفتقر للانسجام المنطقي، والترابط الموضوعي، فهذا لا يعني عدم وجود المسيح على الاطلاق، وسيبقى المؤمنون مخولين في أن يحافظوا على إيمانهم.
ما يشبه هذا الرأي يطلقه كارل بارث الذي ربما كان أشهر متكلم بروتستانتي في القرن العشرين. إنّه يذعن للنقود التاريخية الموجهة للكتاب المقدس، لكنه يضيف أنّ الإيمان لا يحتاج لتصويب العقائد تاريخياً. والكثير من النقود التي صغناها أعلاه قبال إيمانية كريكغارد ترد أيضاً على اللاهوت المسيحي المعاصر.

- طروحات فيتغنشتاين:
نفوذ إيمانية كريكغارد بين المتكلمين المعاصرين يناظر هيمنة فيتغنشتاين على فلاسفة الدين.
يتفق كريكغارد وفيتغنشتاين في أنّ القناعات الدينية يجب أن لا تناقش ويبحث بشأنها حسب معايير إثباتية ذات صلة بمعتقدات التناغم الروحي. ويرفض هذان المفكران العلاقة بين الأدلة الموضوعية وأهم ما في المعتقدات الدينية، باعتبار أنّ القناعات الموضوعية عقلانية، بينما الاعتقادات الدينية لاعقلانية.
ويؤكد كل منهما على أهمية المخاطرة في القضايا العقيدية. وبالتالي يؤكدان على الدور الهائل لصلابة المعتقدات الدينية. يرى فيتغنشتاين المعتقدات الدينية في منتهى الصلابة ولا تقبل التضعضع. ولا يعزو ذلك إلى الشواهد الرصينة التي تنهض عليها، بل إلى دورها الفريد في تنظيم حياة المؤمنين. إنّ المؤمنين على استعداد للمخاطرة من أجل هذه القناعات أكثر من استعدادهم لخوض غمار الأخطار في سبيل القناعات التي يمتلكون لها شواهد علمية وموضوعية. فالمؤمن يرى أنّ الكثير من الأمور والأشياء تقوم على قناعات غير مبرهنة. ومع هذا لا يميل فيتغنشتاين إلى وصف هذه القناعات بأنها لا عقلانية، إذ أنّ المعتقد ليس موضوعاً للعقلانية، والتعقل في مذهبه الفلسفي. خلافاً لكريكغارد، لا يعتبر فيتغنشتاين العقائد الدينية مقولات غير منطقية من الناحية الآفاقية، ولا يجد التقابل بين المؤمن وغير المؤمن تقابلاً من قبيل التناقض، فتناقضهما لا يكون تناقضاً إلا إذا استخدما اللغة بأسلوب واحد، وهذا غير حاصل. يرى فيتغنشتاين أنّ الأحكام الدينية يمكن أن تعدّ عقلانية بنحو من الأنحاء، على الرغم من تعذّر اتصافها بالعقلانية على النحو المألوف لهذه الكلمة. ففي نطاق التزخرف اللغوي للدين، تنهض معتقدات على معتقدات أخرى، وتوجد في الوقت ذاته معتقدات يجب أن تدان باعتبارها غير معقولة.
المعتقد الديني الذي يسخر منه فيتغنشتاين، ويعدّه لا معقولاً هو الذي يبتني على شواهد آفاقية (موضوعية). فلاهوت القرون الوسطى الذي حاول إقامة صرح الدين على قواعد العلوم يبدو في نظر فيتغنشتاين مبغوضاً ومداناً، لا من باب تهافت الشواهد المؤيدة للمعتقدات الدينية كالتجربة الدينية أو المعاجز، بل لأنّ هذه الشواهد من زاوية فيتغنشتاين أجنبية على المعتقدات الدينية. ففي رأيه أنّ الأنشطة الكاثوليكية التقليدية لصياغة أدلة تثبت المعتقدات الدينية، أنشطة خرافية. والإشكال الذي يلاحظه في هكذا أنشطة هو أن أصحابها يحاولون استعمال تبريرات القضايا التجريبية لتسويغ الأحكام، والمعتقدات الدينية. يعتبر فيتغنشتاين هذه المحاولات مخجلة؛ لأنّها تثلم استقلالية الفكر الديني المؤسِّسة لقدسيته وحرمته.
الكثير من المؤاخذات الداخلة عن إيمانية كريكغارد لا ترد على إيمانية فيتغنشتاين، فاتباع الأخير لا يزعمون أنّ الإيمان عملية إرادية، ولا المعتقدات الدينية غير معقولة في ميزان الأدلة الموضوعية، وإنّما يقرّرون فقط أنّ الأدلة الموضوعية غريبة على روح الدين. في اعتقاد اتباع فيتغنشتاين ثمّة صور متعددة للحياة، والمجاميع الإنسانية، والنظم العقدية والسلوكية تكتنف أنواعاً خاصة من الألعاب اللغوية والخطابية. فالعلم نوع من أنواع الحياة، والدين نوع آخر. وفي كل لعبة لغوية قبليات تأسيسيّة لا تثبتها الشواهد، والتجارب. وخلافاً لرأي المبنائيين الابستيمولوجي. فالقضايا التي اعتبرها كانط قبلية تركيبية، يراها فيتغنشتاين تأسيسيّة، لا شواهد علمية اطلاقاً على وجود عالم الطبيعة، فمجمل عملية جمع الشواهد العلمية تفترض وجود عالم الطبيعة مسبقاً. وربما أمكن إطلاق مثل هذا الرأي حول وجود الباري أيضاً.
فجانب الصحة إذا فتّشنا عن مبرّرات تصدِّق قضية أنّ الله موجود، فدور هذه القضية ليس دور عقيدة دينية مبرهن عليها، وإنما هي قضية تفترضها مسبقاً الهيكلية الدينية بمجملها.
هذا هو مشروع النزعة الإيمانية لدى فيتغنشتاين بأشدّ ما يمكن من الاختصار، وهو مقبول لدى الكثير من فلاسفة الدين المعاصرين. وقد تعاطف معه هؤلاء الفلاسفة؛ لأنّهم ألفَوا أن ما فيه من استقلالية المعتقدات الدينية، يكفل صيانة الدعاوى التوحيدية من هجمات الشواهديين، ولا يقتضي في الوقت ذاته مباركة اللاعقلانية على غرار ما فعل كريكغارد. أضف إلى ذلك أنّ النظر لاستقلال الفكر الديني كمؤشر لقدسيته، وحرمته يتماشى تماماً مع المنحى الكلامي البروتستانتي.
كان لفلسفة فيتغنشتاين تأثير هائل على الفكر الأوروبي. فالكثير من الباحثين الذين نقدوا البنائية الكلاسيكية ترسمّوا خطى هذا الفيلسوف النمساوي. وفي ميدان فلسفة الدين لم يقتصر نفوذ فيتغنشتاين على آثار المفكرين المنسوبين إلى مدرسته كمالكوك وفيليبس، وإنما امتدّ ليشمل مدارس ورموزاً أخرى أثرّ فيهم على نحو غير مباشر، ومنهم بلاتينجا على سبيل المثال.
الاشكاليات الأساسية على إيمانية فيتغنشتاين ترد أيضاً على باقي المناحي في فلسفته وتفكيره. إحدى الاشكاليات هي أن استقلال الفكر الديني قد يفهم قناعاً يغطّي لا عقلانية هذا الفكر، ويحاول التستّر عليها. اللاعقلانيون فعلاً قد يبتكرون ألاعيب لغوية بقواعد خاصة بهم. ولا يبدو الانسجام الداخلي كافياً لضمان أن نعتبر كلّ المواضيع أشكالاً مستقلة من الحياة جديرة بنفس الدرجة من الاحترام التي نكنّها للفكر الديني. تظهر هذه الإشكالية في دراسات مناهضين معاصرين للمبنائية كبلاتينجا باعتبار أنّ مناهجهم المعرفية إذا باركت عقلانية الدين على هذا النسق، فلابدّ أن تبارك عقلانية كل الأفكار اللامعقولة على نفس النسق.
يقرر اتباع فيتغنشتاين أنّ العلوم هي حيّز تحركات العقل ومناوراته. أمّا حيّز القناعات الدينية فيبدو أنّ أدوات أخرى غير العقل تلعب فيها الدور الرئيسي. حيال هذه الرؤية؛ يمكن التأشير إلى أنّ الدراسات الدينية والعلمية تخضعان بشكل متكافىء للقوانين المنطقية الخاصة بنمط التفكير العقلاني. ولا تنفصلان إلّا في مضمار علاقتهما بالمعطيات التجريبية، وخصوصاً المعطيات ذات الطبيعة الكميّة. فمن غير الواضح أبداً لماذا يجب أن يقتصر نفوذ العقل على المواضيع المتوكئة على المعطيات التجريبية دون التعاليم السماوية التي يوافي بها الوحي؟! من هنا يظهر أنّ القواعد المنطقية المستوعبة لكافة المناحي الفكرية، والعلمية والدينية وإلخ، تنسفُ فكرة استقلال المعتقدات الدينية التي يقول بها فيتغنشتاين.
ولعل أخطر إشكالية تواجه رأي فيتغنشتاين حول استقلال العقيدة الدينية؛ هو أنّ منحاه يفتقر لمعيار واحد يختبر به هذا المعنى. وكان ذاته يتشكّى من أنّه غير واثق من قدرة المؤمنين، وغير المؤمنين على فهم كلام بعضهم. فمن حيث القدرة على التفهيم والتفهم، لا يمكن القول باستقلال اللغات الدينية عن غير الدينية؛ أي يمكن الدخول في غمرة نقد متبادل، لا يتسق طبعاً ونظرية استقلال المعتقدات الدينية.
ثمّ يأتي الدور لمشكلة التبويب ورسم التخوم. أين تنتهي لغة وتبدأ لغة ثانية؟ إذا كان الدين كما هو حال العلم نوعاً من أنواع الحياة، فكيف يتسنى تبرير الأنواع الدينية المختلفة؟! هل هي كالفرضيات العلمية المتعارضة؟ ثمّة دليل متين يجعلنا نجيب: كلا، الديانة البوذية مغايرة لليهودية ببون لا يترك فرصة للقول: إنّهما بدائل لوصف واقع واحد. وربّما صح القول: إنهما متمايزتان عن بعضهما بمقدار تمايز كل واحدة منهما عن الفرضية الذرية. وقد يعتبرها البعض كفروع علمية مختلفة، وهذا أيضاً شطط من القول؛ لأنّ الأديان تعارض بعضها في كثير من الأحيان، في حين لا تختلف الفروع العلمية إلّا باختلاف الجانب الذي تعالجه من شيء. تعترف جميعها بأنّه واقع مشترك. على كل حال، لا يمكن العثور في كتابات فيتغنشتاين أو اتباع مدرسته على معالجات وافية لمشكلة تبويب التيارات الفكرية المختلفة، ومتى تعتبر متعارضة؟ ومتى تكون مستقلة عن بعضها؟.

المصدر: مجلة المحجّة/ العدد الخامس لسنة 2002

ارسال التعليق

Top