تقوم السياسة الاقتصادية في الإسلام على أساس ضمان المستوى اللائق لمعيشة كلّ فرد، وأنّه متى توافر لكلّ فرد في المجتمع الإسلامي حاجاته الضرورية بقدر الكفاية لا الكفاف باعتبار ذلك قوام الحياة الكريمة، فإنّ الإسلام يسمح بالثروة والغنى لكلّ حسب جهده وعمله باعتبار ذلك زينة الحياة الدنيا.
ـ وضمان حد الكفاية لكلّ فرد في المجتمع الإسلامي هو حقّ مقدس تكفله الدولة الإسلامية لكلّ مواطن فيها بغض النظر عن ديانته أو جنسيته بحيث لا يسمح الإسلام بالثروة والغنى مع وجود الفقر والحاجة، وإنما يبدأ الغني والتفاوت فيه بعد كفالة حد الكفاية لا الكفاف لكلّ مواطن.
كما أنّ الإسلام لا يقر الإسراف والتبذير (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء/ 27) ولا يسمح بحال من الأحوال بالترف (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود/ 116).
وإقرار الإسلام للتفاوت في الثروة والدخول لا يعني كما تصوّر البعض أنّ الإسلام يقر وجود طبقات متميزة بسبب المال ذلك أنّ الإسلام لا يعرف ولا يقر الطبقية فضلاً عن أنّ الناس جميعاً لديه سواء والعامل الوحيد المميز بين الناس هو عامل التقوى بمفهوم الإيمان والعمل لا عامل المال.
لذلك يتطلب الإسلام تدخل الدولة لتحقيق التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع وإذابة الفوارق بينهم. على خلاف سائر السياسات والفلسفات الروحية يدعو الإسلام إلى الرخاء الاقتصادي بل يعتبر الإسلام الغنى واليسر المادّي هو أساس التقدّم والسمو الروحي فصحّة الأبدان في الإسلام مقدّمة على صحّة الأديان، وأنّه لا يمكن أن تتوقع من محروم أو جائع مشرد سوى الرذيلة والانحراف.
وأنّه بقدر ما ندد الإسلام بالفقر وأنّه كاد أن يكون كفراً بل الفقر والكفر في نظره متساويان نجده يدعو إلى الثروة والغنى بل يعتبر السعي على الرزق من أفضل ضروب العبادة. ويعان المرء من مال الزكاة لاستكمال حاجته الضرورية ولا يُعان من مال الزكاة للانقطاع للعبادة. "يقرر الفقهاء في أحكاماً لزكاة بأنّه يعطي منها للمتفرغ للعلم على حين يحرم منها المتفرغ للعبادة ذلك أنّ عبادة المتعبد لنفسه أمّا علم المتعلم فله ولسائر الناس".
وأساس الثروة والغنى في الإسلام هو العمل (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) (النحل/ 71)، (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الأحقاف/ 19).
فتفاوت الناس في أرزاقهم ومعيشتهم ورفع بعضهم فوق بعض درجات وتفضيل بعضهم على بعض درجات ليس اعتباطاً وإنما هو بقدر ما يبذلونه من جهد وعمل صالح وصدق الله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى) (النجم/ 39-41).
لكن الإسلام لا يسمح بالتفاوت الكبير في الثروة والدخول إذ أنّ أكبر بواعث السخط والاضطراب في المجتمعات وأشد ما يخلق الصراع بينها هو التفاوت الفاحش وتركّز الثروة في يد فئة قليلة، والمشكلة الاقتصادية ليست مشكلة الفقر في ذاته وإنما هي مشكلة التفاوت الشديد في الثروة والدخول سواء بين الأفراد على مستوى المجتمع المحلي أو بين الدول على مستوى المجتمع العالمي.
وقد نهى الإسلام عن التفاوت الشديد في الثروة والدخول بقوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (الحشر/ 7).
ومن ثمّ فإنّه من المقرر أن يتدخل الشارع الإسلامي لإعادة التوازن الاقتصادي عند افتقاده. والإسلام اهتم بحماية المال وصيانة حقّ المسلم فيه وحرّم الاعتداء عليه أو أخذه بالباطل (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (البقرة/ 188).
وقد وضع الله تعالى الحدود صيانة للمال وحفاظاً على حقوق الناس ودرءاً للعابثين والسارقين قال الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا) (المائدة/ 38).
بل إنّ رعاية المال وصيانته ضمن تلك المطالب التي أكد الإسلام حمايتها من العبث أو تلاعب أولئك المعتدين بها أو تعرّضها لطيش الباغين وعدوان الظالمين فحرّم الإسلام الاعتداء على دماء الناس أو أعراضهم أو أموالهم.
وقد نفر الإسلام وحذر من الكسب الخبيث وتوعد مَن يكسب ماله من غير الطرق المشروعة بالعذاب الأليم.
فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء/ 10)، وقال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة/ 276) .
إنّ كسب المال واستثماره لابدّ أن يأخذ طُرقه المشروعة ولابدّ أن يخرج من موارده الطيّبة، أمّا إن حاد الإنسان في أخذ المال أو استثماره عن غير طريقة الحلال فإنّ ذلك يضره أكثر مما ينفعه.
ـ والإسلام حين صان الأموال وجعل لها حرّيتها ووضح سُبُل التعامل بها في الطُّرق المشروعة أمرنا أن نعمل على تزكية أموالنا وتطهيرها وتنميتها وليس ذلك بالكنز الدائم أو الإدخار المستمر وإنما بدفع ما فيها من حقوق يستحقها الفقير والمسكين وذوو الحاجات (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) (التوبة/ 103).
وفي ذلك تطهير للمال بل إنّ في ذلك تطهراً لنفس المزكي والمتصدق الذي يدفع الحقّ المعلوم للسائل والمحروم فتتطهر نفسه وتتزكى من غائلة الشح ومن دنس البخل وتتسم بروح الكرم والسخاء والمودة والوفاء فيترعرع فيها كلّ فضيلة من فضائل الإسلام زكية وارفة تؤتي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها.
كما أنّ في ذلك أيضاً تطهراً لنفس الفقير الذي تدفع إليه الأموال وتمتد له الأيدي الكريمة فيشعر بأخوة الإسلام الصادقة فيفيض قلبه مودة ورحمة وحناناً وحبّاً وتجيش عاطفته بالولاء.
وهنا يستشعر الفقير مودة الغني ويستشعر الغني حبّ الفقير فتقتلع من النفوس كلّ رذيلة أو بغضاء وتنمو بها الألفة والصفاء ويشرق المجتمع متحاباً بروح الله. هكذا يضع لنا ديننا سمات المجتمع الصالح:
الإسلام ونظرته إلى العمل:
دعا الإسلام الناس إلى العمل وحظر عليهم القعود والكسل وأبان لهم أنّ مناط أرزاقهم إنما هو السعي في الأرض فقال تعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/ 15).
وحذرت السُّنة المطهرة من القعود عن طلب الرزق والركون إلى سؤال الناس، فقال (ص): "لأنّ يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه".
دعا القرآن في الآية إلى شدة السعي في جوانب الأرض وبين أنّ ذلك هو سبيل الرزق وأنّ الرزق لا يأتي الإنسان إلّا إذا أخذ في العمل له بجد ونشاط وتكلّف في ذلك مشقة السعي بكلّ وجهها كما بيّن في الحديث أنّ أي عمل يعمله الإنسان ولو كان هو الاحتطاب وجمع أغصان الشجر المتساقطة في الصحراء أفضل وأشرف من أن يقعد الإنسان ساكناً ينتظر المعونات والصدقات ذلك أنّ الإسلام يمجّد العمل سواء أكان عملاً عظيماً أم كان عملاً متواضعاً.
وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة/ 105) ثم أنّ القرآن عمد ـ بعد الإشادة بمجد العمل وتأكيد المطالبة به ـ إلى زيادة هذه المعاني تثبيتاً وخطورة فربط مصير الإنسان بالعمل في أمور الدنيا وأمور الآخرة جميعاً يقول الحقّ تبارك وتعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8) وكذلك يمجّد الإسلام العمل ويؤكّد المطالبة به بصورة لن توجد في أي نظام ولا أي فلسفة أخرى أفضل وأنفع منها.
الإسلام وتناوله للجريمة:
ليست الجريمة بالشيء الجديد في حياة الجماعة الإنسانية فهي قديمة قِدم المجتمع ذاته، أي أنّها ظاهرة اجتماعية توجد مع الجماعة تتطوّر بتطوّرها وتخضع لما تخضع له من مؤثرات وعوامل، فالأمر الذي لاشك فيه أنّ الظاهرة الإجرامية لا توجد إلّا حين يكون هناك مجتمع ونتيجة لوجود المجتمع.
ولذلك فإنّ الاهتمام بالجريمة ليس حديثاً فهو يرجع إلى عهود سحيقة فقد كانت الأفعال المضادة للمجتمع تثير اهتمام الناس بمرتكبها وتسبب لهم فزعاً وخوفاً مروعاً. وفي تلك الأزمنة الغابرة كانت الجريمة بعكس الحال اليوم تحدث لدى المجتمع ردود فعل بالغة العنف نتيجة البساطة الشديدة التي كانت تتسم بها القواعد القانونية التي تحكم سلوك الأفراد وعلاقاتهم فضلاً عن قلة عددها مما كان يجعل الخروج عليها عملاً بارزاً يلفت الأنظار ويسترعي الانتباه إلى مَن ارتكبها واعتباره إنساناً غير عادي فكانت المجتمعات في تلك المرحلة التاريخية من حياة الإنسان تعتقد أنّ المجرم ليس سوى شيطان أو إنسان مسه الشطيان أو أنّه إنسان شاذ أو مخلوق غريب أو شبح أو روح أو ميت حي كمصاص الدماء الذي حفلت بسيره الأساطير.
وبصفة عامّة فإنّ النظرة إلى المجرم لم تكن سليمة لأنّها كانت تستند إلى أفكار غريبة ومعتقدات شاذة:
ولذلك كانت المجتمعات القديمة تعتبر مَن يرتكب الجريمة جديراً بأن تنزل به أشد العقوبات وأقساها دون أن تحاول البحث عن الأسباب التي أدت به إلى ارتكاب الجريمة أو العوامل التي ساهمت في انحرافه بل أنّها لم تكن تهتم بالتحقيق من قيام مسؤوليته الجنائية عن الجريمة.
وكان للشريعة الإسلامية أثراً بالغاً بل أنّها تعتبر نقطة تحوّل بارزة في نظرة المجتمعات إلى الجريمة والمجرم، كذلك وضعت الشريعة كافة المبادئ التي قامت عليها فيما بعد قوانين العقوبات كمبدأ شرعية الجرائم. ومبدأ عدم رجعية القوانين الذي يقرر عدم جواز معاقبة شخص أو قيام مسؤوليته عن جريمة استناداً لقانون صدر بعد إتيانه للفعل الذي أصبح المشرع يجرمه (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ) (النساء/ 22)، (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ) (النساء/ 23) كذلك لم يمتد تطبيق عقوبة الرجم (بالنسبة للمحصن) والجلد (لغير المحصن) إلى مَن سبق أن زنوا قبل تقرير هاتين العقوبتين لأنّهم كانوا يخضعون قبل ذلك لحكم آخر وهو قوله تعالى: (وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (النساء/ 15-16).
كذلك قررت وجوب إعلام المخاطبين بالقاعدة القانونية قبل تطبيقها فلا عقاب لمن أتى فعلاً وهو لا يعلم بتجريمه وفرضت مبدأ شخصيته المسؤولية فلا تعاقب الجماعة لجرم ارتكبه أحد أفرادها (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الإسراء/ 13)، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الإسراء/ 15)، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (فصلت/ 46)، (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) (النساء/ 123).
كما حددت موانع المسؤولية وهي صغر السن والجنون والإكراه والخطأ، قال رسول الله (ص): "رُفِع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحكم". وقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ) (البقرة/ 173) كذلك قررت مبدأ عاماً وهو أنّ الضرورات تبيح المحظورات.
ولم تميز في العقوبة بين غني وفقير ولا بين قوي وضعيف ولا بين شريف وحقير وفي ذلك يقول الرسول (ص): "إنما أهلك الذين قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها" فالكلّ سواء أمام القانون.
الإسلام والحياة:
الدِّين الإسلامي هو دين الفطرة متوائم مع ميول وطباع الإنسان ومتوافق مع إشباع ذاتيته الجسمية والنفسية في الحدود التي لا تضرّ به ولا تؤذي غيره ـ وفي ذلك يقول الله تعالى منكراً على هؤلاء الذين يباعدون بين الإنسان وبين استعداده الفطري (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 32).
ومن قبل هذه الآية أمرنا بلبس فاخر الثياب والأكل والشرب بدون إسراف أو إتلاف، فقال: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).
وفي آية أخرى ينهي عن التقتير والشح، فيقول: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29) ويقول أيضاً مادحاً هؤلاء الذين يعرفون من الإسلام هذا الجانب المشرق المعقول (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67) فجعلهم لأجل ذلك ضمن سكّان الجنان وأنّهم لهذا: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا) (الفرقان/ 75).
ويمضي الرسول (ص) على ذلك فيقول: "إنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده". ومن ناحية التكوين النفسي فإنّ الإسلام نظر إلى الزواج على أنّه من الإشباع النفسي إلى جانب الإشباع الجنسي يقوم على المودة والتعاطف والميل النفسي بين الرجل والمرأة، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (النساء/ 1) وجعل هذا التعاطف في هذه الآية نعمة منه تعالى جديرة بالشكر (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21).
وفي معرض الامتنان علينا بنِعمه وأنّه أباحها لنا يقول: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) (النحل/ 72).
فهذا الاتحاد النفسي المشار إليه في هذه الآيات هو التوافق الجنسي والميل بين الزوجين الذي خلقه الله فينا ولنا وأباح لنا التمتع به وجعل هذا نعمة من نعمه. يقول الرسول (ص): "خير النساء مَن تُسر إذا نُظرت وتُطيع إذا أُمرت وإذا غاب عنها زوجها حفظته في نفسه وماله" ويشيد الله سبحانه وتعالى بهذه الصفة بين الزوجات فيصف نساء أهل الجنّة في قوله: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا *حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا *وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) (النبأ/ 31-33) بأنّهن شابات قريبات في السن وهذا أدعى إلى التوافق والانسجام النفسي بين الزوجين وامتداداً لهذا يصف القرآن الكريم الحور العين بما يشير إلى إباحة الأخذ من هذه الناحية لنجد الإنسان وتلبية رغبات النفس فيها في حدود ما رسم الله لنا فيقول في وصف الجنان: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) (الرحمن/ 56) وأنّ هؤلاء القاصرات النظر على أزواجهن لا يتعديهم إلى غيرهم بلغن في النظافة والجمال والروعة (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) (الرحمن/ 58).
والزوج أيضاً مُطالب بأن يظهر أمام زوجته بالمظهر الذي يجذبها إليه في غير تخنث ولا نزول عن آداب اللياقة ومكملات الرجولة.
هذا هو الإسلام في نظرته إلى زينة الحياة الدنيا لكلّ من الرجل والمرأة وهي الدنيا الجميلة التي ترضي أصحاب الذوق الرفيع والمزاج المعتدل والطباع الإنسانية التي تبغي الخلق والتوسط والاعتدال.
الوفاء بالعهد والأمان:
أوجب الإسلام الوفاء بالعهد ومُراعاة مواد المعاهدة وأمر قواد الجيش بتنفيذها والعمل بها، فقد قال الله تعالى: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (التوبة/ 1) ثم قال: (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة/ 4).
كما أمر الله تعالى عامّة المسلمين بالوفاء بعقودهم وعهودهم حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة/ 1) وجعل الله تعالى الوفاء بالعهد من صفات المؤمنين، فقال: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (البقرة/ 177).
هذا ـ وقد اعتنى رسول الإسلام (ص) بالمعاهدة ومراعاة حقوق المعاهدة مما لا يرى مثله في هذا الموضوع في صفحات التاريخ عن سائر الأديان. وقد كان الخلفاء الراشدون من بعد رسول الله (ص) على هذه السُّنة النبوية والسياسة الحكيمة في موضوع الوفاء بالعهد والأمان.
الإيمان:
الإيمان ليس مجرد اعتراف لله تعالى بالوحدانية والتفرد بالخلق والملك وهو كذلك ليس فلسفة لاهوتية، الإيمان كما جاء به القرآن أعظم وأشمل وأعمق من ذلك بكثير. الإيمان هو الذي أنشأ الأُمّة المسلمة ونقلها تلك النقلة الهائلة فكراً وتصوّراً وخلقاً وسلوكاً وهو سرّ قوّتها ورفعتها، وهو منهج يحرّر العقل من الجمود والجهل ويحرر الضمير من التمزق والوهم ويحرّر النفس من عبادة الهوى والشهوات ويحرّر الإنسان من الخوف والضعف والذل ويحرّر المجتمع من الفساد والظلم ويحرّر الحياة من سموم الحقد وموبقات الصراع. منهج يأخذ به الإنسان فإذا به في قوّته كأنّه قدر من أقدار الله تعالى في الأرض ويأخذ به المجتمع فإذا به طاهر الأحاسيس والمشاعر تقي الخلق والسلوك وتأخذ به الأُمّة فإذا بيدها قيادة الحياة.
قال رسول الله (ص): "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أنّ الأُمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بأمر فلن ينفعوك إلّا بأمر قد كتبه الله لك. ولو اجتمعت على أن يضروك فلن يضروك إلّا بأمر قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام ورُفعت الصحف".
الأمانة:
الأمانة في معناها العام والشامل مسؤولية.. الإنسان أمين على حقوق الله وهو مسؤول عن هذه الحقوق.. أمين على حقوق الناس ومسؤول عنها.. كلّ إنسان أمين على حواسه وأمواله وأولاده ومسؤول عن هذه الودائع.. أمين على أسرار بلاده ومسؤول عن المحافظة عليها.. أمين على أسرار البيوت مسؤول عن صيانتها أمين على ودائع الناس مسؤول عن ردها.
و"المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف".
وقد يحلو لبعض الناس الزعم بأنّ طاعة الله شيء وقوّة الإنسان المادّية شيء آخر. ولو عقلوا لعرفوا أنّ طاعة الله هي الزناد الذي يقدح في النفس الإنسانية أعظم ما أودعه فيها الخالق من عناصر النبض والحركة، فالإنسان في طاعة ربّه لا يخشى سواه وتوكله على ربّه لا يعني تواكله وإنما يعني الإرادة والثقة وتقواه لربّه لا تعني الاستكانة بل تعني الاستقامة والنزاهة.. تعني الصراحة والمبدأ والضمير والقلب المفتوح.. تعني ألا يحقد الإنسان أو يُتاجر بالباطل أو يصانع على حساب الحقّ.. تعني ألا يتزلف أو ينحني أو يتهافت.. أو يجبن أو يبخل أو يعجز أو يكسل.. وبالجملة فإنّ طاعة الله تعالى تعني أن يكون الإنسان في إنعاش نفسي دائم وربيع إنساني يتجدّد بالازدهار والتفتح والنماء.
الإسلام وتكريم الإنسان:
ينظر الإسلام إلى الإنسان على أنّه أرقى مخلوقات الله في الأرض فهو مكرم بنعمة العقل الذي يميز به الخير من الشّر والهدى من الضلال وبنعمة الإرادة التي تجعله مسؤولاً عن كلّ ما يفعل أو يدع ويتحمل تبعاً لذلك نتيجة عمله وبهذا كان جديراً بأن يكون خليفة الله في أرضه وأهلاً لأن ينفخ فيه من روحه وأن يسجد له ملائكته احتفاء به وتكريماً لوجوده.. وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة/ 30-33).
ـ إنّ الإرادة العليا تسلم لهذا ا لكائن البشري زمام هذه الأرض وتطلق فيها يده وتمنحه من الطاقة الكامنة وما يناسب هذه المهمّة الضخمة ومن الاستعدادات الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية وتجعله يكابد في هذه الحياة ويسعى فيها ويكد ويكدح ويُصيب ويُخطئ ويقترب من الحقيقة ويبتعد عنها ويُفسد ويُصلح والملائكة بفطرتهم البريئة لا تتصوّر إلّا الخير المطلق وإلّا الصواب الدائم فيرون التسبيح بحمد الله والتقديس له هو وحده الغاية المطلقة للوجود فكيف يكون هذا الإنسان الذي قد يفسد أحياناً وقد يسفك الدم أحياناً هو خليفة الله في الأرض؟ عندئذ جاءهم الرد من العليم الخبير (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30). إنّ ازدواج طبيعته وإنّ قدرته على أن يغالب نوازع الشر ودوافع الإفساد وإنّ إرادته التي تجعله يختار طريقه ويوجّه حياته هو سرّ تكريمه فضلاً عن تسويته على أكمل صورة وأحسن تقويم حسبما قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4).
وكما قال: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الانفطار/ 6-8). وكما قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70).
ـ هذا هو تقدير الإسلام للإنسان وتكريمهم له فأين منه نظرة بعض الفلسفات الأرضية التي تنظر للإنسان على أنّه أتعس المخلوقات وأنّه حشرة حقيرة أو أنّه ليس إلّا فرداً تطوّر منذ زمن بعيد حتى صار إنساناً مستوياً قائماً على هذه الصورة إنّ تلك النظريات المادّية تنحدر بكرامة الإنسان إلى مستوى لا يليق بإنسانيته فما هو إلّا كائن من تلك الكائنات الموجودة التي تمتلئ بها جنبات الأرض.
وحينما يتأمّل الإنسان العاقل في نظرة الإسلام لهذا المخلوق الكريم يجده موضع الإعزاز والتكريم فهو يفتح عينيه على صفحات مشرقة للوجود تغريه بالوقوف عند كلّ موجود والالتفاف إليه والتجاوب معه فما في الوجود مسخر له قال تعالى: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) (إبراهيم/ 32-33).
الزواج والطلاق:
لقد شرّع الله العليم الحكيم الزواج ليكون أساساً لحياة عائلية مستقرة سعيدة تسوده المودة والرحمة قال جلّ شأنه: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21). كما شرّعه أيضاً لإنجاب أبناء يكونون لآبائهم زينة لهم وعضداً في هذه الحياة.
ولا يمكن أبداً أن تحصل هذه الثمرات وتلك المقاصد من الزواج إلّا إذا توافقت طباع الزوجين وأخلاقهما ووجد كلّ منهما في صاحبه ما يبتغيه وينشده في حياته ـ فإذا كان الأمر على العكس كانت الحياة بينهما على هذا الوضع عبئاً ثقيلاً لا يُطاق وكان السعي إلى الخلاص من رابطة الزوجية هو هدف كلّ منهما.
ولهذا شرّع الله الطلاق وهو العلاج الحاسم في هذه الحالة ـ كذلك قد يظهر للزوج أنّ زوجته عقيم لا تنجب وهو يرغب في إنجاب مَن يحمل اسمه ويرث ماله.
الرأي العام وأثره في تكوين مجتمع فاضل:
بعث الله سيِّدنا محمّد (ص) بالهدى ودين الحقّ وأنزل عليه كتاباً أرسى به بناء المجتمع الفاضل الذي أراده لهذه الأُمّة التي وصفها ربّها بقوله سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ) (آل عمران/ 110).
ففي هذه الآية الكريمة يتحدّد مفهوم الرأي العام ويتضح أثره في بناء هذا المجتمع الذي أراد الله له أن يتحمل عبء الدفاع عن شريعة الله الخالدة ويحمل لواءها عبر الآفاق ولن يكون كذلك إلّا إذا سلمت ذات هذا المجتمع من الأمراض والعلل التي تفتك بالمجتمعات وتزلزل كيانها ولن يسلم من هذه الأمراض إلّا إذا وجد الرأي العام الإسلامي الذي يتحمّل مسؤولية التوجيه والإرشاد بل ومسؤولية القمع للخارجين عليه.
وقد بيّنت هذه الآية الكريمة مسؤولية الجماعة في الحفاظ على قوّتها وتماسكها في قول الله جلّ جلاله: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/ 110).
فالرأي العام الإسلامي قوامه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإيمان بالله وهذه الركائز تتحكم في تصرّفات الفرد والجماعة بل والعالم أجمع وتوجهها إلى الخير.
والنصر دائماً مرتهن بالقيام بواجبنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن إذا تهاونا فيما أمر الله به من القيام بهذا الواجب المقدس كان التحلل والانحراف وكان العبث والفساد وكان الذل العار وفوق هذا كلّه كانت القطيعة بيننا وبين الله وأصابتنا اللعنة التي كتبت على اليهود بسبب تقاعسهم عن أداء هذا الواجب (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة/ 78-79).
قال رسول الله (ص): "مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
وإذا كانت نتائج القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفوز والفلاح والنجاة من غضب الله وعذابه فإن ترك القيام به يفضي إلى عواقب ليس وراءها مجال للندم بل وراءها الهلاك والضياع.
وليس لإنسان أن يمتنع عن بذل النصيحة وتوجيه الناس لظنّه أنّ النصيحة لا تفيد أو أنّ التوجيه لا يثمر بل يجب عليه أن يقوم بالأمر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين، وكما قال تعالى: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ) (المائدة/ 99).
والواجب على مَن يتصدى لميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون فريقاً ليناً حتى يكون أقرب إلى تحصيل المطلوب وهذا هو المنهج الذي رسمه القرآن للدعوة، (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).
ونخلص مما سبق بنتيجتين هامتين في حياة المسلم إذا أصابها بلغ الأمان وانفتحت له سُبُل الهداية في الدنيا والآخرة:
النتيجة الأولى: إنّ الذين يعلنون الجهاد على الباطل ويقاومون المنكر في كلّ أوكاره ودروبه يهديهم الحكيم الخبير سبحانه سُبُلاً في الدنيا والآخرة ويمضون على صراط مستقيم لا يهددهم خطر وإنما هم آمنون ظافرون، قال تعالى: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران/ 101). وقال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69).
النتيجة الثانية: إنّ مَن ينصر دين الله ينصره الله نصراً عزيزاً (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج/ 40).
المصدر: كتاب الإسلام والإنسان المعاصر
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق