• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القصة النبوية.. المضامين والفن

د. شلتاغ عبود

القصة النبوية.. المضامين والفن

على الرغم من عناية المسلمين بالسيرة النبوية والأدب النبوي في مراحل حياتهم كافة، فإنّ عنايتهم بـ(القصة النبوية) في ما ورد عن النبي(ص) من أحاديث كانت قليلة إلا في المرحلة الأخيرة من هذا العصر، حيث الإهتمام العام بالفكر الاسلامي ومصادره الكبرى من قرآن وحديث وتشريع، وضمن الإتجاه إلى التأسيس لأدب إسلامي يستهدي بتلك المصادر وينطلق إلى التعبير عن مشكلات الحياة المعاصرة بكلِّ ما فيها من تنوع وثراء والتصاق بحياة الإنسان المسلم وأشواقه.

ونحن في هذا البحث لا نطمح إلى دراسة (القصة النبوية) في أبعادها كلها، ولكننا سنحاول التأكيد على تعميق الإتجاه إلى دراسة الأدب النبوي وتوسيع دائرة الإهتمام به، من دون أن نقف عند قضايا أخذت حقها في مجال علوم السنة النبوية، من قبيل توثيق الأحاديث النبوية والبحث في متنها وأسانيدها، مع الإشارة إلى أنّ عناية المسلمين بالحديث النبوي وتدوينه كانت بدأت منذ عصر الرسول(ص).

وكان – بعد ذلك – أن أخذ الحديث النبوي والسيرة النبوية طريقهما إلى بناء الجيل الفريد الذي أسس له القرآن ووجهه وربّاه، فكان جيلاً قرآنياً محمدياً بحقّ ترك آثاره الجليلة في التاريخ الإنساني، وكان نقطة الضوء المشعة في هذا التاريخ.

وسوف نقف في هذا البحث عند عنصرين اثنين، هما: مضامين القصة النبوية، وظواهرها الفنية.

-  أولاً: مضامين القصة النبوية

ابتداءً يمكن القول بأنّ مضامين القصة النبوية هي مضامين تربوية تعليمية، أو هي بمعنى أعم مضامين إسلامية هادفة إلى بناء المحتوى الداخلي للإنسان وتوجيهه إلى الإنسجام مع أوامر ربه، وإعمار حياته والحياة الإنسانية عامة، بما يتسق وهذه التوجيهات الربانية، وهذا هدف عام في الحديث النبوي، وليس في مجال القصة وحدها، وهي بعد ذلك تستهدي القصة القرآنية وتمتاح من مضامينها وروحها، وتتخذها سنداً شرعياً لنظرتها في الوجود والحياة.

والمتأمل في معاني القصة النبوية ودلالاتها، يجدها ميداناً واسعاً لدراسة النفس الإنسانية في آفاقها وأعماقها وسجاياها، بما فيها من قوة وضعف، وكرم وأريحية، وبخل والتصاق بسقط الحياة الدنيا ومتعها، وبما فيها من ارتفاع إلى المثل العليا، والتسامي بها، وما فيها من استخذاء وركون إلى الدعة والاستسلام للذي هو أدنى من هذه الحياة. سنجد العفاف والصدق والتوبة، مثلما سنجد الكفر والظلم والانحراف في هذه النماذج القصصية في الحديث النبوي، وهي متجسدة في شخوص، ومتحركة في حوادث، ومستخلصة في عبر.

وكان النبي(ص) يدرك أنّ هذا هو الطريق الأقصر إلى دخول عالم النفس والتأثير فيها وتحريكها، فهي عصية مستعصية على طريق الخير، إلا بسبل الاستدراج والتأثير والكلمة الطيبة، بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة من مضمون شريف، وأسلوب مدحٍ ومورق.

وسوف نقف عند محطات معينة من هذه المعاني، فالإحاطة بها جميعاً مطلب متعذر في هذه المساحة، ومنها:

أ) تعميق الثقة بالله والاعتماد عليه:

وهذا ثمرة من ثمار التوحيد الخالص، ودعامة من دعائمه التي تركزت في النفس المؤمنة التي أسلمت وجهها لله، وأوكلت أمرها إليه، فصارت جزءاً من منظومة (الحياة الدنيا والآخرة) في مسيرة تكاملية تنتهي إلى ما عند الله من ثواب وعطاء. وهذا المعنى لا يتقرر تقريراً كما نفعل في كثير من الأحيان، بل يتجسد في سلوك، ويترجم إلى فعل إنساني لا نملك إزاءه إلا التصديق بمصاديق الإيمان في القلب الإنساني، وفعل هذا الإيمان به.

نجد تجسيد هذا المعنى في قصة ذلك الرجل الذي اقترض ألف دينار من رجل آخر، (فقال له: ائتني بالشهداء أشهدهم، قال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت. فدفعها إليه إلى أجل مسمى. فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركباً يقدم عليه في الأجل الذي أجله، فلم يجد، فاتخذ خشبة، فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها ثم أتى بها إلى البحر، ثم قال: أللهمّ إنك تعلم أني تسلّفتُ من فلان ألف دينار، فسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بك شهيداً، وسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضيَ بك كفيلاً. وإني جهدتُ أن أجد مركباً فلم أجد، وإني أستودعكها. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده. فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فإذا الخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بألف دينار، وقال: ما زلتُ جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدتُ مركباً قبل الذي أتيتُ فيه، قال: هل كنتَ بعثتَ إليّ بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه. قال: فإنّ الله تعالى قد أدّى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشداً).

للقلب منطقه الذي لا يخطئ، وهو لا يتعارض مع منطق (العقل) الذي أسلم مقاليده لله، فمن منطق ذلك القلب، ومنطق هذا العقل، يُتعامل مع هذه القصة. أما إذا كان المحكّم هو العقل وحده، والعقل الذي اتخذ قواعده إلهه، فليس له من هذا العالم القلبي نصيب.

هكذا، بكلِّ (برود قلب)، ودونما قلق وخوف، كالذي يرافقنا في مثل هذا الموقف، يسلم الرجل أمره للذي فطره، ويضع الأمانة في (خشبة)، ويرمي بها في لجة البحر، ولا شاهد إلا السماء والذي اعتمل في القلب من ثقة بمن استودع الأمانة، ثقة من آمن أنّ الذي سهل له أمر الاقتراض، وألان له قلوب أهل المال، هو الذي يُعينه على الصدق في الأداء، والوفاء بالنذر!! ليكون سبيل المعروف جَدَداً، ومعالم الإحسان مشرعة.

كلا الرجلين جعل ثقته بالله وأسلم الأمر له.. المقرض الذي اكتفى بالله شهيداً، واكتفى به كفيلاً، فلم يأخذ من صاحبه رهناً، ولم يصر على طلب الشاهد والكفيل. والمقترض الذي صدق الله على رد الدين في وقته، فوضعه بين يدي الله بعد أن أعيته السبل إلى ردّه في حينه. فكان الله عند حُسن ظنهما معاً، الأول حيث ردّ له قرضه سالماً، والثاني حيث أوصل الله دينه لصاحبه، وهو في عرض البحر، حيث أوحى إليه بالفكرة، وعرف أنه مطمئن القلب في تنفيذها ثقة بقدرة الله، وأملاً في وعده وعونه للصادقين.

هذه هي (قصة الثقة في الله والكفاية به، أبطالها: مقترض، ومقرض، وشهيد كفيل)، كما قال الدكتور كمال عز الدين في كتاب (الحديث النبوي الشريف من الوجهة البلاغية)، بحيث يؤدي الواحد منهم عن الآخر، إذ تنتهي بهذه العبارة: (إنّ الله تعالى قد أدى عنك!!). الله الذي كان ثالث ثلاثة في هذا القرض، وبمقدار حضوره في قلب الرجلين كان الأداء سلساً والتعامل مطمئناً والنهايات تسير على سجيّتها، وكأنها قدر مقدور، وعمل مُيسَّر ميسور.

ب) الزُّهد في الدنيا:

ربما تكون مفاهيمنا عن هذا المعنى غير صحيحة، فكثير من الناس يعتقد أن الزهد معناه أن تكون فقيراً معدماً لا تملك شيئاً، بينما معناه، كما رسخه القرآن والسنة والأجيال التي رباها القرآن والسنة، غير ذلك، فهو ليس ألا تملك شيئاً، بل ألا يملكك شيء، فقد تكون لا تملك شيئاً وأنت حريص على الدنيا، وقد تكون تملك الكثير ولكنك حريص عليها، كذلك!! المهم – في الزهد – هو ألا تكون مملوكاً لما تملك!! وهذه من المعاني السامية التي تحتاج إلى تعميق في النفس.

وجاءت القصة النبوية لترينا المعنى متحركاً في الحياة على يد بشر من لحم ودم، وليس في سلوك ملائكة لا يأكلون الطعام، ولا يمشون في الأسواق. هؤلاء البشر كانوا يملكون الدنيا.. بما فيها من مال وسلطة، ولكنهم لم يكونوا أسرى لهذا أو تلك.

يتجلى هذا في أمر ذلك الملك الذي شغلته الدنيا عن عبادة ربه، أو أنه، لأمر ما، لم يستطع أن يقيم العدل في تلك المملكة، (فتسرب، فانساب من قصره، فأصبح في مملكة غيره، وأتى ساحل البحر، وكان به يضربُ اللبن بالأجر، فيأكلُ ويتصدق بالفضل، فلم يزل كذلك حتى رقي أمره إلى ملكهم وعبادته وفضله، فأرسل ملكهم إليه أن يأتيه، فأبى أن يأتيه، فأعاد ثم أعاد إليه فأبى أن يأتيه، وقال: ما له وما لي!! فركبَ الملك، فلما رآه الرجل ولّى هارباً، فلما رأى ذلك الملك ركضَ في أثَره، فلم يدركه. قال فناداهُ: يا عبد الله، إنه ليس عليك مني بأسٌ. فأقام حتى أدركه، فقال له: مَن أنت رحمك الله؟ قال: أنا فلان بن فلان، صاحب ملك كذا وكذا، وتفكرت في أمري، فعلمتُ أنّ ما أنا فيه منقطعٌ، فإنه قد شغلني عن عبادة ربي عزوجل، فقال: ما أنت بأحوج إلى ما صنعتَ مني. قال ثم نزل عن دابته فسيّبها، ثم تبعه، فكانا جميعاً يعبدان الله عزوجل، فدعَوا الله أن يميتهما جميعاً. قال: فماتا).

قد لا نجد هذا مستساغاً في نظرتنا إلى السطلة باعتبارها وسيلة إلى تحقيق شرع الله، فكيف نهرب منها حين نملكها؟! وما هكذا توجّه هذه القصة، بل هي تمثيل لفكرة الزهد في الدنيا في حالة تعارضها مع الطاعة، والانشغال عن هذه الطاعة لله. فالمؤمن حين يكون الأمر متعلقاً بالمقارنة بين الدنيا – بما فيها من سلطة ومال – وبين طاعة الله، فما من شك في أنه يختار طاعة الله على حطام الدنيا وإغراءاتها.

هذه هي الفكرة المراد تثبيتها في القصة، وليست هي دعوة إلى ترك الحياة لأهلها، والإنزواء في ركن من أركان العزلة والاكتفاء بالعبادة في صورها المحدودة من صلاة وصيام، فالدين جاء للحياة وإصلاحها، والتعامل معها، وفرصة الحكم فرصة واسعة لتجسيد قيم الدين في الحياة، سواء كان في سلوك الحاكم وزهده ونقائه، أو في حمل الناس على قيم الدين وتشريعاته، ونشر الخير واليسر والرفاه والعدل في الناس.

ولأمر يعلمه الله – سبحانه – في النفس الإنسانية وتعلقها بهذه الدنيا، لم نجد في القرآن ما يرغّب فيها أو يثني عليها، ذلك لأنّ طبيعة النفس البشرية شديدة الالتصاق والتعلق بها، من دون حاجة إلى ذلك الترغيب والثناء، ولهذا جاء التذكير القرآني للإنسان بما هو منصرف عنه من الأعمال التي تضمن الحياة الأبدية الآخرة.

ج) التوبة:

عن أبي سعيد الخدري أنّ نبي الله (ص) قال: (كان فيمن كان من قبلكم رجلٌ قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهبٍ فأتاه، فقال له إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله، فكمّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجلٍ عالم، فقال له إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومَن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإنّ بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نصفَ الطريق أتاه الموتُ فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيراً قطُّ، فأتاهم ملكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى، فهو له، فقاسوه، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة).

هذا ليس إغراءً بفعل المنكر والقتل، وما كان ذلك ليصدر عن رسول جاء ليقلع فعل المنكر من النفوس، بل هو إغراء بالأمل، وعدم اليأس من رحمة الله، حتى لو كان الذنب بمثل هذا الثقل، وبمثل هذه الدرجة من قتل مائة نفس محرمة!! ففي القرآن قوله تعالى: (مَن قَتَلَ نَفساَ بِغَيرِ نَفسٍ أو فَسادٍ في الأرضِ فَكَأنّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً) (المائدة/ 32).

هذا مع النفس الواحدة، فما بالك بالمائة؟!

إنّ نفساً تقبل على الله بصدق وحقّ وتستعد إلى تحمل تبعات هذا الإقبال من أعمال يفوق ثوابها ما اقترفت من سوء لا تجد من ربها إلا الإحتضان والرضا.. فهو الذي خلقها من ضعف، كما خلق فيها الاستعدادات كلها، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده.. بل أنه ليجعل لهذا التائب – على عظم جرمه – فضلاً وأجراً. وذلك يتوقف على عمق هذه التوبة النصوح وصدق العمل فيما يلي التوبة من العمر.. أن يهبَ الله لك ذنبك الكبير، لهو أعظم أمارة على غنى الله عن عذاب عباده، وهو أعظم إغراء بعدم الاستمرار في الغي والظلم والفساد. وإنّ النفس الصالحة التي تذوق مرارة الذنب، لهي أقرب إلى التطهير من الدنس بالتوبة، ولهي الأقدر على الإحساس بطعم الإيمان وحلاوته. هذا المعنى الذي نستشفّه من القصة، بل من مقاصد الإسلام عموماً.

وأحسب أنه من الخير لنا أن نتعامل مع هذه القصة، ومع غيرها تعاملنا مع الآثار الأدبية التي لا يتطلب منها التحقيق في شخوصها الواقعية، كأن يكون لهذا الرجل الذي قتل مائة نفس وجود حقيقي، وتاريخ ومكان حقيقيان. وإنما المطلوب هو مقدار الأثر الذي تتركه القصة في نفوسنا من حيث توجيهنا إلى مقصدها الذي تسوقنا إليه بطريقة غير مباشرة.

د) الإغراء بالعمل الصالح وثوابه:

وذلك ما كان يُعنى به رسول الله(ص)، فيوجه إليه أهله وأصحابه وأمّته بألوان من التوجيه، وصور من التعبير، كي تكون أبلغ في الوصول إلى النفوس، ودفعها إلى العمل بهذا التوجيه الذي هو خلاصة هذا الدين، وعصارة تعامله وأثره في الحياة.

من ذلك هذه القصة التي تتحدث عن هؤلاء الرهط من الرجال وما عملوه في سابق حياتهم، وما كان له من أثر يوم أن عصفت بهم محنة وحل بهم بلاء.

(انطلق ثلاثة رهطٍ ممن كان قبلكم حتى أوَوا المبيتَ إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدَّت عليهم الغار، فقالوا أنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: أللهمّ كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنتُ لا أغبق قبلها أهلاً ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فجلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهتُ أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثتُ والقدح على يديّ أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجرُ، فاستيقظا، فشربا غبوقهما. أللهمّ إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرجْ عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجتْ شيئاً لا يستطيعون الخروج.

فقال النبي(ص): وقال الآخر: أللهمّ كانت لي بنت عم كانت أحبَّ الناس إليَّ فأردتها عن نفسها فامتنعتْ مني حتى ألمّتْ به سَن من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلّي بيني وبين نفسها، ففعلتْ حتى إذا قدَرتُ عليها، قالت: لا أحلُّ لك أن تفضَّ الخاتم إلا بحقه، فتحرّجت من الوقوع عليها، فانصرفتُ عنها، وهي أحبُّ الناس إليّ، وتركت الذهبَ الذي أعطيتها. أللهمّ إن كنتُ فعلتُ ابتغاءَ وجهكَ فافرج عنّا ما نحن فيه، فانفرجتْ الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.

قال النبي(ص): وقال الثالث: أللهمّ إني استأجرتُ أجراء، فأعطيتهم أجرهم غيرَ رجل واحد ترك الذي له وذهبَ، فثمّرت أجره حتى كثرتْ منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله، أدّ إليّ أجرين، فقلتُ له: كلّ ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي، فقلتُ: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كلّه، فاستاقه فلم يترك منه شيئاً. أللهمّ فإن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك، فافرُج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).

وهذه القصة لا تثير أمامنا ما أثارته القصة السابقة من إشكالات الواقعية، فهذه ممكنة الوقوع، وأحداثها يمكن أن تحدث لأي واحد منّا.

على أننا بصدد الحديث عن عظمة هذه الأعمال التي قام بها أولئك الرجال، وكان لها ما لها من جزاء في هذه الدنيا، وما ينتظرهم من ثواب يوم القيامة أعظم.

رجلٌ يبرّ والديه ويسهر على خدمتهما وينتظر استيقاظهما واقفاً حتى يناولهما اللبن الذي يتناولانه عند الفجر، وكم لهذا الحديث من صلة بالقلب الإنساني الذي فطر على حب الوالدين وإيثارهما على النفس، وما قيم هذا الدين إلا اتساق وانسجام مع هذه الفطرة واستدامة لمسيرتها وفق طبيعتها وإلهامها.

ورجل يتمكن من فعل اللذة التي تغري بها كلّ شياطين الأرض، فيمتنع لحظتها ابتغاءَ وجه الله، وأملاً في الآجل عنده، ولا يلقّاها إلا ذو حظ عظيم، ولا يُعطاها إلى مَن أراد الله به الخير كلّه.

ورجل لا يغريه المال وسحره وشهوته، ولا يعدّه شيئاً إزاء ما في يد الله، يثمر مال غيره، ويسهر عليه، ويكون له أميناً، ويسلمه كاملاً، بل مزكى ومثمراً إلى صاحبه، وما لصاحبه عليه قوة ولا سلطان، إلا ما كان من عهد بينه وبين الله.

رجال نماذج عليا من البشر رفعتهم أعمالهم، فكانوا أحق أن يقطفوا ثمارها في الدنيا، ولثواب الآخرة أجل وأعظم.

هـ) الدعوة إلى مكارم الأخلاق:

كثيرة هي المكارم الخلقية التي يفيض بها النص القرآني والنبوي، ولكننا بصدد الوقوف عند استيحاء هذه المكارم من خلال الشكل القصصي الذي يكون أبلغ في تجسيد هذه القيم المجردة.

والقصص النبوية التي تستخلص منها هذه المكارم كثيرة، فمنها ما يلقي الضوء على مواقف الصبر والتضحية، كقصة ذلك الغلام الذي عمله الراهب مما علمه الله، فابتليَ وعذب على يد الملك، ولكنه صبر على دينه حتى انتهى به الأمر إلى القتل من دون أن يتزعزع عن دينه، وكان ما كان من أمر الناس من بعد مقتله.

ومن القصص ما ينتهي إلى تثبيت قيم الشكر لله على نعمه، ومنها ما ينتهي إلى أداء الأمانة، والعفة، والصدق، والرفق بالناس، بل الرفق بالحيوان كذلك.

وفي ذلك كلّه تثبيت لمبادئ الدين وتشريعاته في الأخلاق والمعاملات بين الناس، وفيه كذلك تسليمة للمؤمنين عما يعانونه من ابتلاءات في حياتهم، خاصة حينما يشاهدون تلك النماذج الحية التي ابتليت وصبرت.

-  ثانياً: في الظواهر الفنية

لا نختلف في أنّ القصة النبوية ذات هدف ديني تربوي أخلاقي يتعاضد مع صور الحديث الأخرى في تثبيت دعائم الدين في النفوس عبر هذا التلوين في الهيكل والأسلوب اللغوي. وحين ننظر إليها في هذا الإطار، وفي إطارها الزمني وظروفها الدعوية، لا نحتاج إلى مقارنتها بالقصة الغربية الحديثة وما وصلت إليه من تقنيات فنية، وما جالت فيه من أفكار واهتمامات، فالدوافع مختلفة ومراحل التطور الفني مختلفة كذلك.

على أننا نؤكد الصلة العامة بين الفن وأهدافه، ولسنا بحاجة إلى الحديث عن التيارات التي عُنيت بالفن لذاته، أو عبدت الجمال لذاته، فهذا مما تجاوزه مسار الفن نفسه من خلال الحاجة إلى بناء الحياة والإنسان عبر أدوات الفن، فما عاد الفن والأدب بعيدين عن الفكر أو الأخلاق، بل أنّ من النقاد مَن يرى (أنّ الأدب الراقي هو الذي يثير فينا انفعالاً وميلاً إلى الحياة الراقية، ولن يكون الأدب راقياً إلا إذا كانت له صفة أخلاقية، وكان قادراً على تنمية طبائعنا وإثارة مشاعرنا الصحيحة لا المريضة).

نقول هذا لنؤكد هدفية القصة النبوية وأخلاقيتها، وأنّ الأدوات الفنية والصياغة تأتي موظفة لتحقيق هذا الهدف، وليست سابقة له. ولهذا فالقصة النبوية لها طابعها الخاص المتعلق بهدفيتها وظروفها التاريخية. فهي قصة دينية تستمد مادتها من التاريخ، أو تصوغه بطريقة تمثيلية على أنه حدث في ما سبق من الزمن.

وتأتي القصة النبوية في ثلاثة أنواع، هي: الخبر، وهو ما تضمن حكاية موجزة للحدث. والمشهد، وهو ما قدم الحكاية في صورة ترتفع عن إيجاز الخبر، من دون تفصيل. والقصة، وفيها تتوفر العناصر الفنية أو بعضها بما فيها من أحداث وشخصيات ويشيع فيها الحوار، وتظهر ملامح الزمان والمكان، بناء على الحاجة إلى إبراز هذا العنصر أو ذاك، بما يخدم الفكرة أو الهدف الذي سيقت من أجله القصة. علماً بأنّ الطابع العام للحديث النبوي يكاد يأخذ الشكل القصصي إطاراً له، من خلال الحادثة التي يعلق عليها الرسول، بما فيها من شخصيات وظروف وملابسات، وبما فيه من خلاف بين الأشخاص، أو من خلال شخصية تسأل الرسول (ص)، فيجيبها ويوجهها، فهناك بطل أو شخصية، وحوار، بشكل أو آخر حتى في أبعد الأحاديث عن الصياغة الفنية للقصة. كمثل الرجل الذي جاء الرسول، فقال له: أوصني يا رسول الله، فقال: لا تغضب، فقال له: أوصني، فقال: لا تغضب... حتى أعادها ثلاثاً.

أو في هذا النوع من الخبر الذي تستطيع أن تضعه في إطار قصصي، وتتخيل شخوصه وحركته في الواقع، وهو خبر يبتدئه الرسول ابتداءً من دون سؤال سابق: دخلت امرأة النار في قطة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من حشاش الأرض، بل إنّ السيرة النبوية هي قصة إنسان بدمه ولحمه، وظروف حياته، وإن كان في ملامح ملك كريم.

ونأتي إلى الحديث عن عناصر القصة النبوية من حدث وعقدة وشخصيات وبيئة وأسلوب، ونوجز القول في كلِّ واحد منها، استكمالاً للصورة التي نريد أن نوضحها عن هذه القصة.

1-      الحدث:

إنّ الحدث في القصة النبوية لا يتعدد في الغالب، ويتخذ طابعاً محورياً يترك في نفس القارئ انطباعاً واحداً، شأنه الحدث في القصة القصيرة، وإن كان لهذا الحدث طابعه الذي يتسلسل فيه ويتدرج حتى يصل إلى النهاية، مع شيء من التشويق إلى النهاية المرتقبة، كمثل قصة الرجل الذي اقترض ألف دينار، وأراد أن يرجعه إلى صاحبه في الأجل، فلم يقدر، وكان ما كان من أمر وضعه المبلغ في خشبة ودفعها في لجة البحر. ورأينا كيف كانت نهاية الحدث بطريقة لا نقول إنها مفاجأة، لأنّ السياق الديني الذي يتدخل فيه الغيب، ويحرك فيه الأحداث ويلهم الأشخاص، لا يجعل القارئ أمام مفاجأة غير طبيعية، فهي طبيعية في سياقها، وفي أجوائها.

على أنّ الأحداث في القصة النبوية غير معقدة جداً، ويستطيع المرء أن يتوقع نهايتها عن قرب. ولكن بعضها يبقى الذهن معها منشغلاً مترقباً الذي سيحدث.. كمثل قصة الغلام والراهب والساحر والملك، حيث جيء بالغلام أمام الملك (فقيل له ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، وقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه، وإلا فاطرحوه، فذهبوا فصعدوا به الجبل، فقال: أللهمّ اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. وظل كلما دفعه إلى مهلكة في الأرض أو البحر بيد جنده، رجع إليه سالماً.. ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله ربِّ الغلام، ثم ارمني...).

ويبقى النظارة متعلقين بما يحدث، مترقبين بلهفة لما يحدث كذلك.. مع شيء من عنصر المفاجأة، حيث يسقط في يد الملك ويثور عليه شعبه بعد أن آمن بدين الغلام.. وهكذا يتسلسل الحدث، ويتشابك سير الأحداث ما بين نظام العلة والمعلول في حركة الواقع، وما بين يد الغيب التي ترفد الحدث بما يغنيه عن ضرورات القوانين الأرضية.

على أننا نلاحظ أنّ القصة النبوية لا تتكئ على الحدث وحده، بحيث نسميها قصة (الحدث)، بل تتفاعل معها العناصر الأخرى، وخصوصاً الشخصيات التي يكاد أثرها هو الغالب والفاعل في القصة، لأنّ العبرة تستخلص في الغالب من حركة هذه الشخصيات وقوة إرادتها وصدقها.

2-      الشخصية:

وكما أشرنا قبل قليل، فإنّ الشخصية في القصة النبوية هي العنصر البارز، وهي الملمح الغالب الذي يحرك الحدث، وتستخلص من سلوكه العبرة والهدف.

والشخصية في القصة النبوية تجعلك تطل على عالم واسع من الكيان الإنساني الداخلي خاصة، فتعرض لك نماذج من النفوس الصابرة على البلاء، كمثل شخصية الراهب صاحب الغلام، والغلام نفسه في القصة السابقة، ونماذج من النفوس العالية في عفتها، كمثل ذلك الذي أبى أن يفعل الفاحشة مع ابنة عمه، بعد أن رأى من عفتها ما رأى، وبعد ما طاف به طائف الفطرة النقية، ويد الإنقاذ الإلهي القريب. وكالذي رأيناه من أمانة ذلك الرجل الذي اقترض وحرص على رد الدين في وقته، فتدخلت يد القدر الإلهي على بلوغ مرامه. أو كذلك الرجل الذي دخل الجنة، ولم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان يخالط الناس، وكان موسراً، وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر.

أو ذلك الرجل الأعمى في قصة (الأقرع والأعمى والأبرص) الذي رد الله عليه بصره وأغناه، فكان حامداً شكوراً، إذ منح ما عنده لذلك (الملك) الذي جاءه في صورة إنسان...

عالم واسع من النماذج البشرية عالية الهمم والخلق، قريبة من الفطرة، مؤهلة للصلاح والإصلاح، والمنح والعطاء، ذلك ما تعرضه عليك القصة النبوية، وتضع بين يديك مادة للتحليل النفسي والولوج إلى العالم الداخلي للإنسان، وهو العالم الذي يشكل دوافع الفعل الإنساني في الحياة.

وفي الجانب الآخر من النفس الإنسانية نجد النماذج التي يلهيها العرض القريب، وتسقط أسيرة شهواتها، ولا تصمد أمام محنة أو ابتلاء. نماذج من النكران والجحود، كمثل الأبرص والأقرع اللذين أنكرا نعمة الله، ولم يعينا السائل المسكين، بعد أن أنقذهما الله من نقصهما وعاهتهما اللتين كانتا ثقلاً لا يريم على نفسيهما، بل إنه أغناهما بعد فقر.. ولكنهما قالا: لقد ورثنا هذا المال كابراً عن كابر!!

أو تلك النماذج التي تسدر في غيها وظلمها كالذي كان من الملك الذي كان يسارع إلى قتل كلّ مَن يخالفه في الدين، وكان الذي يخالفه فيه هو الحقّ، وكان لا يرعوي عن حفر الأخاديد في أفواه السكك فيشعل فيها النيران، ويلقي الناس فيها. أو تلك النفوس الغاوية من النساء التي لا تتردد في فعل الفاحشة وإلقاء وزرها على غير الفاعل، كما كان من شأن تلك الزانية من بني إسرائيل التي أغوت الراعي بالفاحشة، ثم ادعت أنّ (جريح) الراهب هو الذي فعلها، لتتآمر مع الذين أرادوا الكيد به.

على أنّ هذا الرسم للنماذج المتضادة من النفوس البشرية يجعلنا أمام مشاهد من الصراع بين هذه النماذج، فهي ما زالت تعكس لنا طابع الحياة البشرية، بكلِّ ما فيها من خير وشر، ومن صلاح وفساد، ومن قسوة ورحمة، ومن طيبة وخسة، ومن براءة وخبث.. ففي القصة الواحدة تتراءى أمامك هذه النماذج المتضادة في سلوكها وأهدافها، كمثل الملك الظالم، ومظلوميه من الناس، ومثل الزناة الذين لا ينزعون عن شيء، وضحاياهم من النساء العفيفات الفقيرات، ومن السحرة الأشرار الذين لا يترددون من توظيف قدراتهم ومواهبهم في تطويع الناس للشر وعبودية السلطان.

وبناءً على هذا الإهتمام بالعالم الداخلي للإنسان، ورصد أبعاده النفسية، لا نجد إهتماماً كثيراً بالوصف الخارجي للشخصيات، لأنّ القصد غير متعلق به، ولأنه ربما اقتضى إطناباً وتفصيلاً في الرسم والسرد، لا يتناسب مع مقتضى الحال من الإيجاز في القصة النبوية، ولأنّ رسم البعد الداخلي للإنسان هو الذي يوقفنا على حركة الشخصية ويُطلعنا على مخايلها ودوافع سلوكها، ويوقفنا على إيجابيتها أو سلبيتها.

3-      الحوار:

تلك الأداة التي تقوى على تصوير ما يعتمل من الصراع بين الشخصيات المتضادة في سلوكها، وهي الأداة التي تقرب العمل القصصي إلى أبرز ما في العمل المسرحي من حركة وحيوية يبعثها ذلك التضاد في أهداف الشخصيات وسلوكها.

ولا تكاد تجد قصة نبوية تخلو من هذا الحوار على اختلاف في طوله أو قصره، وإن كان في الأعم الأغلب قصيراً مركزاً يتناسب مع قصر القصة النبوية ذاتها.

ويكون الحوار بين الشخصيات الواقعية – التاريخية ذاتها، كما رأينا من الحوار بين المقرض والمقترض، وكما رأينا من حوار بين الأشخاص الثلاثة الذين أووا إلى الكهف، أو بين الملك والغلام، أو غيرها من القصص. وقد يتدخل عنصر من (الملائكة) ليدير دفة الحوار، ويساهم في رسم نهاية الحدث، كما هو الأمر بالنسبة لتدخل الملك الذي جاء في صورة مسكين، وسأل الأبرص قائلاً: رجلٌ مسكين، قد انقطعت بي حبال السفر، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله، ثم بك... أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيراً أتبلّغ به في سفري. فقال له الأبرص: الحقوق كثيرة. فقال له المسكين: كأني أعرفك: ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك الله... قال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر.

أو كالحوار الذي دار بين شخصية (الكفل) والمرأة العفيفة، وانتهى إلى نزوع الرجل عن فعلته من خلال الكلمات الحوارية التي أفصحت بها المرأة عن عفتها، وعدم ممارسة هذا الصنيع من قبل...

والحقّ أنّ حيوية الحوار ولباقته في القصة النبوية يصلح إلى أن يحوّل هذه القصة إلى (دراما) فاعلة ترصد الفعل الإنساني، وتستخلص منه ما يعين على بناء الإنسان ويصلح حياته.

4-      الأسلوب:

لم نشأ أن نقف عند الظواهر الفنية الأخرى من مثل الهيكل العام للقصة، أو العقدة وتأزمها، وسبل الحل الذي تنتهي إليه، هل هو من قبيل الحلول الواقعية، أو يتم من خلال المفاجآت والخوارق؟ وإن كنا أشرنا إلى شيء من هذا الحديث عن الحدث وطابعه في القصة النبوية.

ونود هنا أن نقف عند الطابع الأسلوبي في القصة النبوية، وهو طابع لا يخرجه عما نعرفه من خصائص الحديث النبوي، وهي خصائص بشرية مرتبطة بنفسية منشئها وبيئته، وهي غير خصائص الأسلوب القرآني، وإن كانت تستهدي بهدى هذا الأسلوب وتمتاز من توجيهه، ولكن شتان بين الكلام الإلهي والكلام الذي يشعرك بالنفس البشري، كما قال الرافعي.

والطابع العام لهذا الأسلوب هو الإيجاز، سواء في الأحاديث النبوية غير القصصية، أو في القصة ذاتها. فالتركيز الشديد في تقطير اللغة بادٍ في صياغة الأسلوب القصصي، والسرد لا تكرار فيه، بل هو محبوك الحلقات متراصها، تجد فيه حرف العطف (الفاء) الذي يوحي بالالتصاق والتزاحم في حركة الحدث، أكثر مما تجد في (الواو) التي تعطيك مجالاً لتصور التوالي المشترك بين الأطراف.

وتبقى هذه الخصيصة الإيجازية علماً على الأثر النبوي كلّه، فلقد قيل إنه كان (يحدث حديثاً لو عدّه العادّ لأحصاه)، وتجد أمارته في ذلك الحذف لمتعلقات الجملة من جار ومجرور، أو مفعول، أو في تلك النهايات القصصية التي تترك للذهن ما يشاء من الرسم والتأويل، وإنزال الحوادث أو الشخصيات منازل يهوى أن تنتهي إليها، كما يلاحظ في نهاية أمر الملك الظالم، إذ ترك الباب مفتوحاً للصراع بينه وبين شعبه.. هل يستمر في إلقائهم في الأخاديد أو تعلو كفتهم عليه، وينهون سطوته وجبروته.

وأخيراً، فإنه أسلوب يعتمد الوضوح وقرب المأخذ، ويمثل طابع البيئة المكانية، في المفردة والمصطلح والنفس العام.

-  الخاتمة:

يمكن القول إننا إزاء القصة النبوية نجد أثراً فنياً يعبّر عن محتوى الرسالة الإسلامية التي جاءت لإرساء دعائم التوحيد والخير والصلاح للبشر، فكانت النماذج البشرية التي صورتها هذه القصة معبرة عن الصراع بين الحقِّ والباطل، الخير والشر، الاستقامة والانحراف، ومنتصرة لجوانب الحقّ والخير والاستقامة، مرغّبة فيها، ومغرية للسير في خطها.

ومفصل القول في جمالية هذه القصص هو أثرها في النفوس السامعة أو القارئة، فبمقدار عمق الأثر الذي تحدثه تكون فاعليتها، ويستمر خلودها، ولقد كانت كذلك، وما تزال حتى اليوم، رغم ما اطلعنا عليه من صور التطور الفني للقصة.

فالقصة النبوية تخاطب الفطرة، وتثير مكامن الخير فيها.. والفطرة هي هي في الإنسان في عصوره السابقة، وفي عصورة اللاحقة.. وحتى يرث الله الأرض ومَن عليها.

 

 

المصدر: كتاب في السيرة والأدب النبوي الشريف

ارسال التعليق

Top