إحدى الأمراض الروحية التي يتعرض لها الإنسان في حياته هي الغفلة عن الله تبارك وتعالى وهي من الأمراض الخطيرة التي تهلك الإنسان في دنياه وآخرته، وبغض النظر عن إنها (الغفلة) من الموبقات فهي من المهلكات ومن كبائر الذنوب أيضاً...
وبما إنّ طبيعة الحياة الدنيا هي مادية في الغالب وصراع الحياة والموت الدائر فيها وحب الإنسان للبقاء وحبه للدنيا والشهوات والأموال والبنين التي هي زينة الحياة الدنيا، فإنّ جميعها من موجبات الغفلة، والله – تعالى – يقول في محكم كتابه العزيز: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) (التكاثر/ 1-2)، فالإنسان بطبعه يميل إلى ما أسلفنا ويكثر منها ويكثر، ولا تملأ عينيه الجائعتين المتعطشتين غير حفنة التراب.
وللغفلة درجات ودرجات فهناك من لا تنفعه نصيحة ولا عبرة ولا دواء لعلته إلا الموت.... وعندما يموت يأتيه الخطاب الإلهي: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق/ 22)، فالغفلة التي أصابت سمعه وبصره طبعت على قلبه غشاوة غليظة ما استطاع شيء في الوجود على كثره أن يجلوها عنه فلا النصيحة ولا الإرشاد ولا العبر ولا القصص ولا الآيات ولا الأحاديث ولا... ولا... لا ولم تؤثر عليه لأنّه أغفل قلبه وأوصد سمعه وأغمض عينيه عن جميعها... فالنتيجة أن يبقى سارحاً سابحاً في بحر مظلم من الجهل والعناد، وقد قال تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ...) (الفرقان/ 43).
ومن طبيعة الإنسان الغير مؤمن عندما يكون في خير ونعمة وعافية ينسى الله سبحانه وتعالى، ويتصور بأنّه مستغن عن الصلاة والدعاء ولكن عندما تصيبه أدنى مصيبة يتذكر أفعاله وأعماله وأقواله الطالحة، فيلجأ على الفور بالاستغفار والدعاء والله سبحانه وتعالى يصف هذه الحالة بقوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا) (الإسراء/ 67).
ونشاهد هذه الحالة أيضاً بكثرة في المجتمع الحديث ولكن بصورة أخرى، مثلاً عندما يستقل الناس الطائرة: فعند الإقلاع الهبوط ترى الجميع في حالة من الخضوع والخضوع والرهبنة، والتوجه إلى الله – سبحانه وتعالى – وعندما تنتهي الرحلة بسلام ويقول البعض الحمد لله تراهم يعودون إلى ما كانوا عليه كأن شيئاً لم لكن... والله – تعالى – يقول: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) (يونس/ 92)؛ فقط: عندما يصل الإنسان في حياته إلى مشاكل معقدة وحرجة للغاية يبدأ بالبحث عن مخلص ومنجي ولا يجد غير وجه الله الكريم وإلا فحياته كلها غفلة في غفلة...
صادف أن زرت إحدى العوائل الميسورة هنا في كندا وأصابتني الدهشة عندما وجدتهم في سبات عميق بعيدين عن الخالق عزّ وجلّ حيث لا صلاة ولا دعاء ولا يعون شيئاً من الإسلام ولا السيرة وكأنهم لم يسمعوا شيئاً عن الدين في حياتهم... وعندما طلبت منهم إحضار القرآن فوجئت بأنّه لا يوجد لديهم قرآن، وبما أن زيارتي لهم كانت من أجل حل مشكلة اعترضتهم، انتهزت الفرصة في نصحهم وإرشادهم، وقلت بأنّ الله – سبحانه وتعالى – عندما يحب عبداً يبتليه ليعود إليه، وأنتم فإنّ الله ابتلاكم لتنتبهوا وتستيقظوا من سباتكم وغفلتكم عنه – سبحانه وتعالى –. يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11)، فلابدّ أن تبدءوا بالصلاة وتحاولوا أن تقرءوا بعض الأدعية وتقرءوا القرآن لتكون حياتكم سعيدة مع الله ولا سعادة من دونه...
فهل توجد غفلة أكثر من هذا... مسلمون خلا بيتهم من القرآن وإن وجد فهو للحفظ والزينة لا للتعلم والتدبر والقراءة، ولا صلاة يؤدوها وإن أديت فهي لإسقاط الواجب لا أكثر، وقد صدق سبحانه وتعالى حين قال: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم/ 7).
وقد وصف سبحانه وتعالى الإنسان في سورة العصر وأقسم بالعصر – وهو عصر النبي (ص) وعصر ظهور الإسلام على المجتمع البشري وظهور الحق على الباطل كما ورد في تفسير الميزان حيث قال عزّ من قائل: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر)، والمراد بالإنسان هو جنس الإنسان أي إن كل إنسان يسير ويتجه نحو الخسر، والخسر هو الذي تفسره الآية الكريمة (.. قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الزمر/ 15). ثمّ يستثني سبحانه المؤمنون من هذه الخسارة وهم الذين آمنوا بالله واليوم الآخر والذين تكون أعمالهم ترجمان لإيمانهم، إضافة لذلك فهم يتواصون بالحق وباتباعه ويتواصلون بالصبر على البلاء والمصائب وقضاء الله وقدره.
إذن أهم أسباب الغفلة هي اتباع الهوى وحب الدنيا والشهوات وكذلك الذين يحبون الشهرة والجاه والمنصب، فهم يزورون الحقائق ويكتمون الحق ويرفعوا إنسانا ويضعوا آخرا وهكذا من الأمور التي تأتي نتيجة للهوى. وقد قال عز من قائل: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف/ 28).
فالمفروض عدم إطاعة من يتخذ هواه سبيلاً يسلكه، لأنّه سوف لن يحقق إلا الضياع والحسرة والندامة ولأنّ الهوى مخالف للإيمان دائماً وأبدا.
ليس فقط عدم الإيمان بالله سبحانه وتعالى من مصاديق الغفلة، فقد نجد من يؤمن بالله تعالى ولكنه كافر بما جاء به رسوله محمد (ص) من ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) رغم ثبوته لديه بالدليل القاطع والبرهان الساطع والعقل والنقل، وهكذا في باقي الأمور التي يختصم فيها وتكون الحجة عليه لا له، فيحاول أن يغفل عنها أو يتغافل ويبقى على باطله ويهيم ويسرح، والله – سبحانه وتعالى – يقول: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف/ 179).
وعلاج الغفلة إنما يكون بالإيمان بالله عزّ وجلّ ورسوله وكل ما جاء به محمد (ص) وولاية أمير المؤمنين علي بين أبي طالب – عليهما السلام – والإعراض عن التمسك بالدنيا الفانية وترك الشهوات وأن يكثر الإنسان من ذكر هادم اللذات وهو الموت، فعن حبيب الله محمد بن عبدالله (ص) إنّه قال: "أكثروا من ذكر هادم اللذات"، فقالوا: ما هادم اللذات يا رسول الله، فقال: ذكر الموت. وكذلك المداومة على ذكر الله عزّ وجلّ فعن علي أمير المؤمنين (ع) قال: "بدوام ذكر الله تنجاب الغفلة".
وعن رسول الله (ص): "يا أبا ذر هم بالحسنة وإن لم تعملها لكي لا تكتب من الغافلين"، وعن أمير المؤمنين (ع): "استعينوا على بعد المسافة بطول المخافة، فكم من غافل وثق لغفلته وتعلل بمهلته فأمل بعيدا وبنى مشيدا، فنقض بقرب أجله بعد أمله، فاجأته منيته بانقطاع امنيته".
وكذلك بمحاسبة النفس فعن علي (ع): "من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر"، وعنه (ع): "أو لستم ترون أهل الدنيا يصبحون ويمسون على أحوال شتى، فميت يبكى وآخر يعزى، وصريع مبتلى، وعائد يعود، آخر بنفسه يجود، وطالب الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وعلى أثر الماضي ما يمضي لباقي".
اللّهمّ اجعل عواقب أمورنا خيرا واجعل ألسنتنا بذكرك لهجة وقلوبنا بك متيمة ولا تكتبنا من الغافلين برحمتك يا أرحم الراحمين.
*مونتريال – كندا
المصدر: مجلة الإيمان/ السنة السابعة – العدد الحادي والثمانون لسنة 1419هـ
ارسال التعليق