• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

فلسفتا الإعلام الحر

محمود يوسف السماسيري

فلسفتا الإعلام الحر

أوّلاً: الفلسفة الليبرالية

تشكّلت الملامح العامّة لفلسفة الإعلام الليبرالي – مثلها في ذلك مثل باقي الفلسفات الإعلامية – تبعاً لمسلمات الكوزمولوجيا العلمانية وغاياتها. أمّا ملامحها الدقيقة، فقد تشكّلت تبعاً للافتراضات الأساسية التي قالت بها الفلسفة الليبرالية، وذلك فيما يتعلّق بطبيعة الإنسان، ومدى أهليّة هذه الطبيعة للتمتع بالحرّية، وطبيعة الدولة – باعتبارها الكيان العام الذي يعيش الإنسان ويمارس حرّياته في إطاره – وطبيعة العلاقة بين الإنسان والدولة، ومدى انعكاس ذلك على حرّيات الفرد، والحدود التي يسمح للدولة التدخل في حرّيات الفرد في إطارها، وطبيعة الحقيقة وكونها متاحة للجميع وليست حكراً على أحد دون غيره، بشرط استخدام الفرد عقله استخداماً سليماً.

ولما كانت الفلسفة الليبرالية ترى الطبيعة الإنسانية طبيعة خيرة، وأنّ الوصول للحقيقة أمر متاح للجميع، فقد نادت بضرورة إتاحة الحرّية لكلّ فرد ليعبِّر عمّا يراه حقيقة، وأن يمتلك الوسائل التي يراها كافية لإيصال رؤيته للحقيقة للآخرين حتى يمكن الإستفادة منها.

وإذا ما ألقينا نظرة سريعة على أهمّ التطورات التي أدّت لخروج الفلسفة الإعلامية الليبرالية من رحم الفلسفة الإعلامية السلطوية التي كانت تسود أغلب الدول الأوروبية حتى نهاية القرن الثامن عشر، نجد أنّ الكوزمولوجيا العلمانية التي تشكّلت في ظلها الفلسفة الاجتماعية الليبرالية، لم تكتمل ملامحها إلّا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. أمّا القرون السابقة عليه بدءاً من القرن الخامس عشر، فهي قرون انتقالية في حقيقتها، إذ أنّ الحركات الإنسانية والبروتستانتية والعقلانية أخذت تعمل عملها خلال فترة الانتقال هذه في اتّجاه تقويض نظرة القرون الوسطى إلى العالم وعناصره، لتحل محلها النظرة الحديثة، وقد اكتملت السيادة للفلسفة الليبرالية – والتي تشكّلت في ضوئها الفلسفة الإعلامية الليبرالية – باكتمال عملية الانتقال من كوزمولوجيا العصور الوسطى إلى الكوزمولوجيا العلمانية الحديثة.

وإذا كان لبُناة النظرية الاجتماعية الليبرالية أمثال جون لوك، مونتسكو، رسو، فولتير، ديرو وغيرهم، دور غير مباشر في بناء فلسفة الإعلام الليبرالي، فإنّ هناك من الكُتّاب والمفكِّرين مَن لهم دور مباشر في تشكيل ملامح هذه الفلسفة الإعلامية، ومن أهمّهم: الشاعر البريطاني جون ملتون، والقاضيان مانسفيلد، وبلاكستون، واللورد كامدن، والسير توماس أيرسكين، وتوماس جفرسون، والفيلسوف جون ستيوارت مل.

وقد مرّ الأساس الذي تستند إليه حرّية التعبير – وهي الركيزة الأساسية التي قامت عليها فلسفة الإعلام الليبرالي – بعدّة مراحل. فقد استندت في المرحلة الأولى إلى أساس ديني، وفي مرحلة ثانية إلى أساس طبيعي، وأخيراً استندت إلى الأساس النفعي.

1-  الأساس الديني:

كان أساس حرّية التعبير عند ملتون ومعاصريه – والذي كتب كتاباً كاملاً يدافع فيه عن حرّية الصحافة وأسماه (أربوجيتكيا) في 1644م – هو أساس ديني، فالربّ – وهو ربّ طهري – يريد أن تكون للناس صحافة حُرّة حتى يستطيعوا كشف الحقيقة.

2- الأساس الطبيعي:

وهو الأساس الذي نجم عن التخلي عن الفكر الديني الذي أفسح مكانه لنظرة الكوزمولوجيا العلمانية. وبناءً على هذا الأساس، اعتبرت حرّية التعبير حقّاً من الحقوق الطبيعية للإنسان مثلها مثل باقي الحقوق الطبيعية اللصيقة بالطبيعة الإنسانية. وقد وسّع الليبراليون من نطاق مفهوم الحرّية، فبينما نظر إليه ملتون على أنّها مجرد التحرُّر من الترخيص الحكومي، فقد نظر الليبراليون إليها على أنّها منع للتدخل الحكومي بأشكاله كافة. وبينما أنكر ملتون حرّية التعبير على أولئك الذين يختلفون حول المسائل الأساسية، كان الليبراليون على النقيض، فقد كانت الحرّية بالنسبة لهم تعني الحقّ في المعارضة حتى حول المسائل الأساسية، وحتى شكل الحكم نفسه ينبغي أن لا يسلم من المعارضة، ولا ينبغي للدولة أن تتدخّل ولو كان ذلك إنقاذاً لنفسها.

وبينما كان ملتون يؤيِّد فرض القيود على بعض أنواع الموضوعات مثل الإلحاد والتجديف، فقد سمح الليبراليون بنشر كلّ شيء تقريباً بالرغم من إقرارهم لبعض قوانين الفتن والعنف والبذاءة.

وقد كان لهم أيضاً مفهومهم المختلف عن الحقيقة، فبينما كان ملتون يرى أنّ الحقيقة هي إرادة الربّ الطهري، ذهب الليبراليون إلى أنّ الحقيقة هي اكتشاف القوانين التي تحكم سير الكون المنسجم.

3- الأساس النفعي:

كان التطور الثالث في ركيزة حرّية التعبير على أيدي النفعيين وعلى رأسهم (جون ستيوارت مل) الذي أيّد في كتابه (عن الحرّية) حرّية التعبير لا على أساس طبيعي، وإنّما على أساس المنفعة، حيث رأى أنّ الأصل في حرّية التعبير أنّها أمر نافع للمجتمع الإنساني، والعكس صحيح.

وترتكز دعواه لحرّية التعبير على أساس نفعي، على أربعة حجج كبرى نوجزها فيما يلي:

أوّلها: أنّنا إذا أسكتنا رأياً فقد نخفي حقيقة.

وثانيها: أنّ الرأي الخاطئ قد يحتوي بداخله على جزء ولو صغير من الحقيقة، ولابدّ من معرفته للوصول للحقيقة كاملة.

وثالثها: أنّه حتى ولو كان الرأي المتقبل عموماً هو كلّ الحقيقة، فإنّ الناس لن يعتنقوه، على أُسس عقلية، إنّما كتحيز، ما لم يضطروا إلى الدفاع عنه.

ورابعها: أنّه ما لم تتعرّض الآراء الشائعة للمناقشة من آن لآخر، فإنّها تفقد حيويتها وتأثيرها في السلوك والأخلاق.

هذه هي أهمّ التطورات التي شهدتها فلسفة الإعلام الليبرالي حتى استقرت على هذه الصورة.

والواقع أنّ تطبيق هذه الفلسفة أوضح الكثير من جوانب الخلل والقصور التي تشوب طروحاتها، فقد أصبح كثير من الصحف – في ظل هذه الفلسفة – تمثل خطراً على الأخلاق العامّة، ذلك أنّها لم تتورّع عن نشر أي مادة إعلامية تزيد من توزيعها ومن ثمّ تجلب لها المزيد من الإعلانات والأرباح، كما أنّها أصبحت أداة في أيدي المعلنين وأصحاب رؤوس الأموال لتحقيق مصالحهم الخاصّة، بصورة تتعارض في كثير من الأحيان مع الصالح العام الذي كان ينبغي أن تخدمه أوّلاً. كما أنّها مثّلت أداة من أدوات مقاومة التغيير الاجتماعي.. وما إلى ذلك من سلبيات ومآخذ نجمت عن تطبيقها في أرض الواقع.

 

ثانياً: فلسفة المسؤولية الاجتماعية

قد يبدو للوهلة الأُولى أنّ الانتقادات التي تعرّضت لها وسائل الإعلام في ظل الفلسفة الليبرالية، هي التي دفعت إلى ظهور فلسفة المسؤولية الاجتماعية، والواقع أنّ هذا صحيح إلى حدٍّ ما. وذلك لأنّ هذا النقد ما كان له أن يثمر فلسفة متكاملة، لولا تضافر عدة عوامل أخرى معه أدّت لظهور النظرية الجديدة.

ويمكن أن نزعم أنّ المحرِّك الفاعل نحو هدم بعض مقولات الفلسفة الإعلامية الليبرالية – والذي جعل المناداة بإيجاد فلسفة جديدة أمراً ملحاً – هو التغير الذي أصاب الفلسفة الاجتماعية الليبرالية والذي كان لابدّ أن يمتد إلى الفلسفة الإعلامية باعتبارها جزءاً منها.

وقد كان العامل الفاعل وراء حدوث هذا التحوّل في الفلسفة الاجتماعية الليبرالية، هو ظهور نظريات علمية جديدة زعزعت الأُسس التي كانت تقوم عليها هذه الفلسفة. فقد تحدّت أفكار التطور، والفيزياء الجديدة، تصوّر نيوتن للكون كنظام أبدي لا يتغيّر، كما فرض علم النفس الحديث بنظرية فرويد والمدرسة السلوكية، حصاراً حول العقلانية (وهي من أهم المبادئ التي ارتكزت عليها الليبرالية). كما هاجمت العلوم السياسية المعاصرة، تقاليد القانون الطبيعي وما ينشأ عنه من حقوق طبيعية، كما أثار علماء الاقتصاد والاجتماع في مراجعتهم للفردية في الفكر الليبرالي، الشكوك حول وجود سوق حُرّة مفتوحة سواء (للسلع أو الأفكار)، كما أنّ المبدأ الاقتصادي الكلاسيكي (دعه يعمل دعه يمر) أنكره معظم الاقتصاديين المعاصرين، وأنكر في المجال التبطيقي تقريباً من قبل كلّ الأُمم الصناعية.

ويمكن أن نقول وبشكل مجمل أنّ هذه الفلسفات والأفكار المستحدثة أدّت بالفلسفة الليبرالية التقليدية إلى إعادة النظر في افتراضاتها الأساسية فيما يتعلق برؤيتها لطبيعة الإنسان، والتي هي ركيزة الفكر الليبرالي، وبالتالي إعادة النظر فيما يتعلق بطبيعة الدولة التي تتوافق مع سمات الطبيعة الإنسانية، وأيضاً الشكل الأمثل للعلاقة بينهما في ضوء الفهم الجديد لهذه الطبيعة، وأخيراً إعادة الليبرالية النظر في طبيعة المعرفة أو الحقيقة، ومدى نزاهة الفرد في البحث عنها والعوامل التي تعوق التوصل إليها، وقد رافق هذه التغيرات الفكرية في الافتراضات الأساسية للفلسفة الليبرالية – والتي كان انتقالها للفلسفة الإعلامية الليبرالية أمراً حتمياً – وعدّة عوامل أخرى جعلت من إدخال تعديلات على الفلسفة الإعلامية أمراً ضرورياً، ومن هذه العوامل:

* ازدياد قوة تأثير الصحافة كنتيجة لتطورها تكنولوجياً.

* ظهور وسائل إعلامية جديدة، كالراديو، والتلفزيون، والسينما ذات فاعلية وتأثير كبير ممّا جعل الحاجة إلى وضع ضوابط ومسؤوليات لهذه الوسائل أمراً ضرورياً.

* ظهور تطورات كبيرة في أساليب الدعاية ممّا سهّل إمكانية استغلال الجماهير والتحكُّم فيها عن السابق.

* ظهور أشكال تحريرية جديدة، وتحوّل تأثير الصحافة من الرأي إلى الخبر.

وقد أدّت هذه التطورات إلى ضخامة تأثير تجاوزات وسائل الإعلام بشكل جعل من الضروري وضع ضوابط وقواعد تضع حدوداً لممارسات هذه الوسائل. وقد كانت المبادرات الأُولى لوضع هذه القواعد نابعة من داخل وسائل الإعلام نفسها، وذلك من خلال:

* إقامة الاتحادات المهنية ووضع ضوابط للعمل الصحفي من خلال مواثيق الشرف الصحفية، ودساتير العمل الإذاعية والسينمائية.

* كتابات عدد من الصحفيين الأخلاقيين الذي رصدوا تجاوزات وسائل الإعلام، وعملوا على فضحها أمام الرأي العام كنوع من الضغط على هذه الوسائل للكف عن هذه التجاوزات.

* إقامة عدد من المؤتمرات التي دعت إليها الاتحادات الصحفية، وهيئات محرري الصُّحف، والتي ساهمت في وضع المزيد من القواعد والتنظيمات لمهنة الصحافة.

ورغم أنّ كلّ هذه الخطوات التي نبعت من داخل وسائل الإعلام كانت خطوات فعّالة في سبيل الوصول إلى فكر إعلامي جديد، إلّا أنّ هذا الفكر لم ينتظم في شكل فلسفة جديدة ومتكاملة للصحافة إلّا في عام 1947م الذي صدر فيه تقرير "لجنة حرّية الصحافة" التي تألفت من ثلاثة عشر عضواً معظمهم أكاديميين برئاسة (روبرت هتشنز) مستشار جامعة شيكاغو، وبتمويل لدراساتها من مجلة (تايم) ودائرة المعارف البريطانية، وقد صيغت نظرية المسؤولية الاجتماعية في كتاب أعدته اللجنة كاملة بعنوان "صحافة حرّة ومسؤولة"، وفي دراسة أخرى لوليم هوكنج، أحد أعضاء اللجنة البارزين، بعنوان "حرّية الصحافة.. إطار المبدأ". وقد تمّ شجب تقرير اللجنة على الفور من قبل جميع الصُّحف، إلّا قلة منها وباستثناءات نادرة، ووصف المحررون والناشرون التقرير على أنّه كتاب رسمي لقيود الحكومة على الصحافة.

وقد ساهم الإنجليز أيضاً في تدشين الفلسفة الجديدة، وذلك من خلال التقارير التي أعدتها "اللجنة الملكية البريطانية لشؤون الصحافة" وهي اللجنة التي دُعيت للنظر في شؤون الصحافة فاجتمعت لهذه الغاية مرّات عديدة، على فترات تاريخية متقطعة. وكان من الطبيعي أن يُطلق على نظرية المسؤولية الاجتماعية التي أسهم الأمريكيون والإنجليز في تشكيل مقولاتها "نظرية أنجلو أميركية".

وقد حظيت هذه الفلسفة بالرفض من قبل أغلب الممارسين الإعلاميين، وحظيت على الجانب الأكاديمي بقبول واسع، ليس فقط من قبل باحثي الإعلام الغربيين، بل وأيضاً من قبل الباحثين العرب.

ولما كانت هذه الفلسفة هي أحدث ما أنتج الفكر الغربي الوضعي في مجال الفلسفة الإعلامية، فقد كان من الطبيعي أن تصبح هذه الفلسفة الأكثر قبولاً من قبل بعض الباحثين العرب اللاهثين وراء كلّ ما هو غربي جديد، حتى أنّنا نجد أنّ هناك من الباحثين العرب مَن نلمس في بعض كتاباته تبنياً للفكر الإسلامي، يدعو لتبني هذه الفلسفة بالشكل المطبق به في الغرب.

 

المصدر: كتاب فلسفات الإعلام المعاصرة

ارسال التعليق

Top