• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العدالة من منظور ثقافي

محمد محفوظ

العدالة من منظور ثقافي

لعل من البديهي القول أنّ العدالة بآفاقها المختلفة، وأطرها المتعددة، وعناوينها المتكاملة، تشكل روح الإسلام وجوهره. وأنّ جميع مفاهيم الإسلام وقيمه، قد ركزت أهدافها وغاياتها على ضوئها، ومن أجلها، وذلك في جميع أنظمة الإسلام وتشريعاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية. انطلاقاً من هذه الحقيقة، نجد أنّ الإسلام يحارب العنصرية، ويعتبرها مخالفة لأسس وبديهيات الإسلام. فالناس سواسية في كل شيء. وجعل معيار التفاضل أمراً كسبياً، يتمثل ويتجسد في عنوانه العام في كلمة (التقوى) إذ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1). ومن هنا نجد الإسلام يحذر من اتباع الهوى والشهوات، باعتبارهما نافذتين من نوافذ الابتعاد عن العدالة وتعطيلاً لحركة التفكير السليم في حياة الإنسان. وقد عبر الشاطبي في موافقاته عن ذلك بقوله: ما جاءت الشريعة إلا لتخرج الناس عن دواعي أهوائهم". فالعدالة هي روح الإسلام وجوهره، وحينما تنتشر في أرجاء أي مجتمع، فإنها تزيل كل عوامل التأخر، وأسباب التنافر والتعصب، وتؤكد التعاون بين أبناء المجتمع الواحد في مختلف المجالات، وتعمق روح الإخاء والمواطنة الصادقة بين أبناء الوطن الواحد. والعدالة ليست دعوة أخلاقية، تتجه فقط إلى تهذيب النفوس ونقاء القلب والسريرة، بل هي خريطة عمل متكاملة تستوعب جميع جوانب حياة الإنسان. ففي علاقة الإنسان مع نفسه، ينبغي أن يكون عادلاً، كما علاقة الإنسان بنظيره الإنسان بحاجة إلى العدالة القائمة على المشترك الإنساني وأخلاقية التسامح وحسن الظن. فالعدالة ليست محصورة في جانب واحد، بل هي تشمل جميع الجوانب في العلاقات الأسرية والاجتماعية والتجارية والاقتصادية والثقافية والسياسية... والمجتمع الذي تسوده العدالة، هو المؤهل ذاتياً وموضوعياً، لاجتياز عقبات التخلف وتذليل صعاب الانحطاط، لأن عين أبنائه دائماً على هدف التقدم وتتطلع للبناء الحضاري. وفي إطار الحركة الثقافية بمنابرها المختلفة وأطرها المتعددة والمتنوعة نفهم قيمة العدالة متجسدة في النقاط التالية:

1- إنّ العدالة في بُعدها الثقافي، تقتضي تكوين العلاقات وفتح الجسور وتحقيق مفهوم التعارف مع الثقافات الإنسانية المختلفة. لأنّها لا تشكل الشر المطلق، أو الخطأ المحض. بل هي ثقافات إنسانية، تشكلت عبر تجربة طويلة، لذلك فإنّ الانغلاق عنها، يعد ظلماً لتلك الثقافة، لأنها إنجاز إنساني عام، بإمكاننا الاستفادة من عناصرها بما يخدم وضعنا وراهننا. وتكوين العلاقات والتعارف مع المدارس الفكرية والثقافية الموجودة في الساحة. ليس من أجل الدخول في حوار لاهوتي يتجه إلى الإفحام وتسجيل النقاط، وإنما من أجل تحقيق مفهوم التعارف الثقافي المتبادل، الذي هو التجسيد العملي لمفهوم العدالة في الدائرة الثقافية. فالتعارف الثقافي، لا يتحقق بمعرفة القشور والفروع والنتائج لتلك المدارس فقط. وإنما نحققه عن طريق التعمق المعرفي في أصول الثقافات الإنسانية، وفهم بنيتها الأصيلة من مصادرها المباشرة.. حتى لا نقع أسرى الاسقاطات الأيديولوجية. وينبغي أن نتذكر في هذا الإطار، أن آفة العدالة في إطار التقويم الثقافي والحضاري، هي القيام بعملية تعميم أفكارنا وإسقاط منظوماتنا العقدية على واقع ثقافي غير واقعنا، وعلى ساحة غير الساحة المتأثرة بشكل مباشر بتلك المنظومة العقدية.. لأنّ المجتمعات الإنسانية تتفاوت في متطلباتها وأولوياتها.. وعملية الاسقاط الأيديولوجي، تعني عدم الاعتبار بهذه الأمور، وتغييباً للبعد التاريخي ودوره في إنضاج الأفكار وبلورة الثقافات، فالعدالة الثقافية تقتضي مراعاة هذه الأمور والقضايا في تحديد المواقف، وتقويم الأفكار والثقافات.. فتجاوز هذه الأمور يعد ظلماً صريحاً لمسيرة ثقافية ضخمة نختزلها في مواقف سريعة، أو كلمة غامضة، أو تصور مطلق لا يخرجنا من دائرة الفهم الضبابي أو الفهم المنقوص الذي لا يصح معه إتخاذ موقف او اعتباره معياراً للتقويم. 2- الرغبة الحقيقية في تطوير الذات وتوسيع آفاقها المعرفية، والاستفادة من معارف الآخرين وإنجازاتهم. والاعتقاد الجازم بأنّ الإنسان مهماً علا كعبه فهو لا يمتلك المعرفة المطلقة والحقيقة الخالصة. بل إن معرفته هي معرفة نسبية تغتني بالحوار والتفاعل وعدم التكبر، والتواضع للعلم والمعرفة، والتعلم من الآخرين، وإن كانوا أدنى منه مرتبة وحسباً. فالعلم والمعرفة ليسا صناعة فردية فقط، بل يشترك الجميع بتفاعلهم وتثاقفهم وحوارهم في صنعهما. لهذا فإنّ النحباس في إطار الذات، والانغلاق على معارفها، بدعوة التمييز أو امتلاك ناصية المعرفة اليقينية، ليس من العدالة في شيء. يشير إلى هذه المسألة الدكتور "الجابري" بقوله "وهذا الاعتقاد بالضلال على جميع المخالفين هو الدوغمائية بعينها، والدوغمائية موقف يغري بأنّه سهل يقوم على تبسيط الأمور، والأخر بعدد قليل من المبادىء أو الأصول العامة والنظر من خلالها إلى العالم تماماً كمن يرى الغابة من خلال شجرة واحدة"[1] فليس بمقدورنا أن نجزم بموقف ما أو قناعة فكرية ما، على ضوء معلومات قليلة، لا تكفي لإصدار حكم سليم أو الوصول إلى قناعة فكرية ثابتة. 3- العدالة الثقافية تعني الحوار والثقة بالنفس واحترام الرأي الآخر. والابتعاد عن سلاح التسقيط والتخوين والتكفير. وكما قال الامام "محمد عبده" (1849-1905م): إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، ولا يجوز حملة على الكفر. "والبداية في الحوار هي احترام كل طرف لنظيره وتسليمه الضمني بأن ما لدى الأنا لا يعلو على ما لدى الآخر والعكس صحيح بالقدر نفسه.. فالحوار لا يعرف العلاقة بين الأعلى والأدنى بل يعرف العلاقة بين الأكفاء. هؤلاء الذين يعرفون أنّ العقل هو أعدل الأشياء توزعاً بين الناس كما قيل عن "ديكارت" الفيلسوف، وناتج الحوار هو ناتج الفعل الجدلي، تغيير نوعي في الأطراف المتحاورة، المتقابلة، المتعارضة، تغيير يجعل من نقطة النهاية مخالفة لنقطة البداية حتماً، ذلك لأن فعل الحوار نفسه كفعل الجدل، يؤلّف بين عناصره المتقابلة الواقعة بين أطرافه المتعارضة ويصوغ منها ما يستوعب الأطراف كلها ويتجاوزها في آن، صانعاً بذلك بداية أخرى لحوار آخر لا يكف عن التحول والتولد"[2]. ومن متطلبات العدالة أيضاً الانفتاح على جميع الاجتهادات الثقافية والفكرية في الأُمّة لانتخاب أصوبها وأصلحها، والابتعاد عن الاعتبارات السوداء التي تمنع عملية الانفتاح على الاجتهادات المطروحة في الساحة. وفي إطار الانفتاح، لابدّ من تجاوز المحن النفسية والتاريخية والفكرية حتى نصل إلى مرحلة سامية، من الفهم العميق لمختلف مدارس الاجتهاد الفكري والتعاون البناء. وبالتالي فالعدالة الثقافية تؤدي إلى التراكم المعرفي، وتكثيف الوعي في الوسط الاجتماعي للأجواء الحيوية التي توفرها قيمة العدالة في الحقل الثقافي. وجماع القول: هذه بعض عناوين التعدد والتنوع المتوفرة في الساحة العربية والإسلامية، وكيف أن مفهوم الوحدة الإسلامية، لا يقصي هذه الحقائق ولا يحاربها في وجودها وآفاقها الطبيعية. وإنما هو يثريها بمضامين حضارية وآفاق عالمية. فلا وحدة فعلية وصلبة بلا تنوع يثريها، ولا تنوع فعال وبناء بلا ناظم للوحدة. فالدين الإسلامي كما طالب بالوحدة واعتبرها من أهدافه العليا، كذلك حافظ على حالات التنوع والتعدد الطبيعية المتوفرة في مجاله العربي والإسلامي. وأهم ما قام به في هذا الإطار، هو غرس مضامين إسلامية في هذه الحالات، بحيث تكون منسجمة والسياق الحضاري العام للفضاء العربي والإسلامي.   الهامش:   [1]- المسألة الثقافية، د. محمد عابد الجابري ص121، سلسلة الثقافة القومية (25) مركز دراسات الوحدة العربية – لبنان.

[2]- هوامش على دفتر التنوير – جابر عصفور – ص265، المركز الثقافي العربي – لبنان.

المصدر: مجلة الكلمة/ العدد 21 لسنة 1998م

ارسال التعليق

Top