يقوم البنّاء بوضع الحجر فوق بعضه ثمّ يستخدم الطين كملاط ويستفيد من الحديد كمساند فينهض البناء ويمسك بعضه بعضاً في نوع من التعاون، فهل إنّ التعاون بين أفراد النوع البشري بهذا المستوى من البساطة؟ وعلى مستوى أرقى من ذلك فإنّ بعض الحيوانات كالنحل وبعض الحيوانات المفترسة تعيش على شكل جماعات وقد قُسمت الأعمال فيما بينها بشكلٍ يدعو إلى الحيرة والإعجاب، حتى أنّ بعضها ليفوق الإنسان دقة ونظاماً، ومع كلّ هذا فإنّ حياة الإنسان أرقى بكثير بل لا يمكن مقارنتها بحياة تلك الحيوانات. لماذا؟ الجواب أنّ كلّ ذلك النظام الذي يسيّر حياة الحيوان إنما ينبع من الغريزة تماماً، كما هو الحال في أعضاء البدن كحركة الدم أو خفقان القلب، فهناك نوع من الجبر والتسيير الصارم الذي لا يقبل المعارضة، أما الإنسان فإنّه يمتاز بالحرية والاختيار، ولذا يتوجب توزيع الأعمال بين الأفراد ولكن عن طريق الانتخاب والتشخيص وسيادة نوع من النظام في ذلك. وهنا يكمن الفرق الكبير بين الإنسان والحيوان، ذلك أنّ الإنسان يواجه طريقين أو يقف على مفترق طريقين حيث يتوجب انتخاب أحدهما، أمّا الحيوانات الاجتماعية من قبيل النمل والنحل فإنّها لا تمتلك ولا تعرف سوى طريق واحد وهو الغريزة.
قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد/ 8-10)، والنجدان هنا يعبران عن طريقي الحقّ والباطل، طريق يأخذ به نحو قمة الجبل، وطريق ينحدر به نحو الهاوية (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) (الإنسان/ 2).
وهذا هو امتياز الإنسان على غيره، وعلى هذا ينهض القانون والأخلاق، ومن هنا تنطلق رسالات الأنبياء وكتب السماء لتوضيح الأمر ووضعه الحقيقة أمام الإنسان كما تصرّح بذلك سورة الحج المباركة حيث تبيّن عواقب ونتائج كلا الاختيارين. إنّ الهدف من وراء بعثة الأنبياء وإنزال كتب السماء هو إقرار التوازن في المجتمع البشري وإرساء قواعد العدالة فيه، ذلك أنّ الحرية التي يتمتع بها الإنسان قد أنتجت كماً هائلاً من القوانين والآداب والسنن المتناقضة جعلت الإنسان بحاجة إلى توجيه وإرشاد.
لو كان الإنسان كسائر الحيوانات الأخرى يسير وفق ما تمليه غريزته، ويستجيب لوحيها كدقات القلب وحركة الدم وإيعاز العصب وكما تقوم به الأنسجة والعظام من وظائف، لما احتاج المجتمع البشري إلى قوانين تنظم حياته ولما ترتب على عمله ثواب ولا عقاب ولما كان مورداً للخطاب.
إنّ هذه الحاجات إنما نجمت عن الحرية والاختيار اللذين يمتاز بهما الإنسان، وهذه الحرية هي التي رفعته فوق مصاف الملائكة، ذلك أنّ الملائكة لا يتمتعون بهذا الامتياز ولا يعرفون سوى طريق واحد فقط هو العبادة والطاعة.
أمّا الإنسان فهو وحده الذي يمكنه أن يحلّق في سماء الكمال حيث الملأ الأعلى ويمكنه أن ينحط إلى أسفل سافلين حيث الاستغراق في المادة. وكلّ هذا يتوقف على إرادته وتصميمه في الاختيار أو الانتخاب.
المصدر: كتاب سلوك وأخلاق الإسلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق