• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

«وحده المالك»

«وحده المالك»

◄تساؤلات للوصول إلى الحقيقة:

يتميّز الأسلوب القرآني في حديثه عن تركيز العقيدة في النفس بإثارة أسلوب التساؤل الذي يدفع الإنسان ليقف أمام الكون بكلِّ ظواهره على أساس أنّ هناك مَن يسأله عن خالق كلِّ الظواهر الكونية، فيقول سبحانه وتعالى: (قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (المؤمنون/ 84-89)، لابدّ لكلّ إنسانٍ عندما يُطرح عليه سؤال، أو عندما يطرح على نفسه سؤالاً أن يطوف بعقله في كلِّ الاحتمالات التي تصلح أن تكون جواباً على هذا السؤال أو ذاك، ثمّ يبدأ لينفي هذا الاحتمال أو ذاك، لتقف النتائج على الجواب الحاسم الذي ما بعده احتمال. هنا، عندما يقف الإنسان على الأرض ويرى ما فيها من مخلوقات حيّة كجنسه من بني البشر، أو من حيوانات أو حشرات موجودة على الأرض أو في الهواء وفي أعماق الأرض والبحار، أو من نبات يملك حياة النموّ وإن لم يملك حياة الوعي، ويرى الجمادات من صخور وجبال، والماء الذي يتفجّر من الينابيع ويتحوّل إلى أنهار وبحار، ويرى الكواكب من شمس وقمر وما إلى ذلك. وبعد هذا التطواف يتساءل: لمن الأرض؟ هل هي لهذا الزعيم ولذاك الرئيس؟ هذا لا يملك الأرض، ولا يملك تكوين الأرض، وإنّما يملك سلطة فيها. هل هي لتلك القوة أو تلك؟ يأتيه الجواب بالنفي. وتسطع أمامه الحقيقة، لتجيبه بأنّ الأرض ومَن وما فيها هي لله الذي خلق كلَّ شيء. وبعد أن يقتنع من خلال جولته الفكرية بأنّ الأرض وكلّ ما فيها هي لله وليس لغيره، أفلا يتذكّر ما هي مسؤوليته؟ فإذا كان هو ما ومَن حوله لله، ألا يتذكّر ربّه ومسؤولياته أمامه؟ لماذا يبقى غافلاً وناسياً لما أمره به سبحانه ولما نهاه عنه. فالإنسان عندما يواجه الحقيقة الإلهية من خلال ما يعيش في الأرض مما يثبت ويتحرّك، فإنّه لابدّ أن يشعر بأنّ الله لم يخلقه عبثاً، ولذا عليه أن يعرف موقع ربّه من نفسه، وموقعه من ربّه ليحدّد لنفسه من خلال ذلك كيفية تحرّكه وسيره على هدى الله (قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) (المؤمنون/ 84-85)، وإذا قالوها قل (أفَلا تَذَكَّرُون) لماذا تعيشون الغفلة عن الله تعالى (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (المؤمنون/ 84)، مَن الذي خلق السماوات وما فيها من كواكب وعوالم ومخلوقات، مَن هو ربُّ العرش العظيم؟ مَن؟ وهنا يطوف ذهنك من جديد لتقول، فلانٌ ربُّ السماوات، فلانٌ رَبُّ الأرض، ويطوف مع ذهنه، كما طاف إبراهيم (ع) في جولته الذهنية والفكرية (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (الأنعام/ 76-79)، وعند ذلك عرف ربَّه، وأدرك أنّ كلّ كبير مهما كانت عظمته فليس هو الله، ولا يمكن أن يكون ربّاً للإنسان أو للكون.

 

نداء الفطرة:

وهنا تنطلق فطرة الإنسان من أعماقه لتصرخ (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (المؤمنون/ 87)، إذا كان الله سبحانه بهذه العظمة وهو ربُّ السماوات السبع وربُّ العرش العظيم، وهو ربُّ الأرض ومَن فيها أفلا يدفعكم ذلك إلى أن تخافوا هذه الربَّ من موقع عظمته وقدرته وحكمته، ومن موقع علمه وتدبيره، ألا يُشعركم ذلك بالتضاؤل والتصاغر أمامه؟ (أفلا تَتَّقُون) ألا تحسبون حسابه في أعمالكم وتخافون عقابه عندما تنحرفون عن خطِّه وتبتعدون عن أوامره ونواهيه؟

ويعود السؤال مجدّداً (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (المؤمنون/ 88)، كان التساؤل في البداية (لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا) (المؤمنون/ 84)، وثانياً (مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (المؤمنون/ 86)، وثالثاً (مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (المؤمنون/ 88)، ولن يأتيك جواب الحقيقة إلّا بأنّ الله وحده هو الربُّ والخالق والقادر والمهيمنُ على الأمر كلِّه لا سواه، فكلُّ شيءٍ مخلوقٌ ومملوكٌ له (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (المؤمنون/ 88)، فهو سبحانه الذي يُغيث ولا يستطيع أحدٌ أن يغيث منه، وهو وحده يكفي ولا يقدر أحدٌ أن يكفي منه، ووحده الذي ينصر، ولا ينتصر أحدٌ منه على الإطلاق، وهو تعالى الذي يحمي ويجير برحمته مَن يشاء، ولا يستطيع أحدٌ هاربٌ منه سبحانه أن يجيره أحدٌ آخر..

وبعد سيل هذه التساؤلات الردّ (سَيَقُولُونَ لله) ليس هناك غير الله مَن يملك كلَّ شيء، لأنّ الناس الذين يملكون إنما يملكون ما ملّكهم الله (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (المؤمنون/ 89)، فإذا انجلت الحقائق أمامكم وأدركتم بأنّ الله بيده مُلكُ السماوات والأرض، وبأنّه يُجير ولا يُجار عليه، فكيف تتعامون عن الحقيقة وتتصرفون عن الله إلى غيره بفعل السّحر الذي يترك تأثيره على وعيكم وبصائركم.

وقد ألقى الله تعالى عليهم الحجّة من خلال عقولهم التي يجب أن تدرك الحقّ، وكان ذلك ببعث الأنبياء الذين حملوا إليهم رسالة الحقّ من خلال وحي الحق (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (المؤمنون/ 90)، فيما يتحدّثون به وما يعلنون من الكفر والشرك (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون/ 91)، وهنا يدخل القرآن الكريم في إبراز معتقدات التيارات المضادّة التي جعلت لله ولداً شريكاً له.. وما حاجة الله إلى الولد؟ البشر هم بحاجة للولد لأنّه يمثل امتداداً وقوّة لهم، أما الله الذي خلق الكون كلّه فما حاجته للولد؟ (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) (المؤمنون/ 91)، فلو كان معه شريكٌ (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ) (المؤمنون/91)، لكان لكلّ إله موقعه وعظمته ولوقع الصراع وخرب الكون (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (المؤمنون/ 91)، ولكننا نرى أنّ المخلوقات كلّها تخضع لإله واحد، وليس هناك علّوٌ لإله على إله، لأنّه لو كان هناك علّوٌ لفسدت السماوات والأرض، ولكننا نرى السماوات والأرض في منتهى الصلاح والدقة من ناحية الخلق (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون/ 91)، عمّا يصفون له من الولد أو الشريك (عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (المؤمنون/ 92)، هو الذي يعلم الغيب كما يعلم الحسّ ويعلم الشهادة، لأنّ كلّ شيء حاضرٌ أمامه (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك/ 14).

فالإنسان الواعي الذي يعي التصوّر الحقيقي عن الله، هو الذي يختزن في داخل نفسه عظمة الله من خلال دراسته لطبيعة الكون، وإذا اختزن في نفسه ذلك تذكّر الله واتّقاه وانفتح عليه، وعندما تمتلأ نفسه بالله، فرغت من كلِّ شيء غير الله سبحانه وتعالى، وهذا هو المعنى والأساس في قوة إيمان المؤمن، والقاعدة في توازنه وتربية عقله وشخصيته. ►

ارسال التعليق

Top