• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحرّية الاقتصادية وتدخل الدولة

حمدي المزين

الحرّية الاقتصادية وتدخل الدولة

1- أكثر القضايا جدلاً وتأثيراً:

إنّ موضوع الحرّية الاقتصادية وتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، هو من أكثر القضايا جدلاً وأكثرها تأثيراً، خاصّةً في عصرنا الحديث الذي رفع شعار التنمية الاقتصادية، فتختلف الآراء والمواقف فيما إذا كانت هذه التنمية هي مسئولية الدولة والقطاع العام، وما يستتبع ذلك من آثار خطيرة تتمثل في التوسع أو التضييق في نطاق كلّ من الملكية الخاصّة والملكية العامّة، وبعبارة أخرى في حجم التأميم ومجالاته.

وتبدو أهمية هذا الموضوع في أنّه يتعلق بأسلوب معالجة المشكلات الاقتصادية، وهل هو الأسلوب الفردي أو الرأسمالي ممثلاً في الحرّية الاقتصادية وتشجيع القطاع الخاص، أم هو الأسلوب الجماعي أو الاشتراكي ممثلاً في تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وسيطرة القطاع العام؟

ولا شك أنّ لكلّ من الأسلوبين: الأسلوب الفردي متمثلاً في الاقتصاد الرأسمالي، والأسلوب الجماعي متمثلاً في الاقتصاد الاشتراكي، مزاياه وعيوبه، ولا يُرجح أحدهما على الآخر سوى ظروف كلّ مجتمع، أو بعبارة أدق - في نظرنا - لا يُرجح أسلوب على آخر سوى اختيارات الفئة الحاكمة وأهوائها.

ولذلك سنرى أنّ هناك أسلوباً ربانياً متميزاً لا يتأثر بالأهواء والأغراض الذاتية، ألا وهو الأسلوب الإسلامي في معالجة المشكلة الاقتصادية، متمثلاً في الاقتصاد الإسلامي الذي يقوم على معايير موضوعية في تحديد مجالات تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي ومدى هذا التدخل، متجنباً منذ أربعة عشر قرناً عيوب ومساوئ الأسلوبين الوضعيين الفردي والجماعي، ومحققاً مزايا كلّ منهما.

2- اختلاف المذاهب والنُّظم الاقتصادية حول حدود التدخل:

في الاقتصاد الرأسمالي: الأصل هو حرّية الأفراد في ممارسة نشاطهم الاقتصادي، والاستثناء هو تدخل الدولة وقيامها ببعض أوجه النشاط الاقتصادي إذا استلزمته الضرورة، ويترتب على ذلك أنّ الأصل هو الملكية الخاصّة إذ هي في نظره مقدسة باعتبارها الباعث على النشاط الاقتصادي وجوهر الحياة، والاستثناء هو الملكية العامّة إذا اقتضت الضرورة أن تباشر الدولة نشاطاً معيناً.

وإنّ تقدير هذه الضرورة من حيث التضييق أو التوسيع من تدخل الدولة وقيامها ببعض أوجه النشاط الاقتصادي أو لجوئها إلى تأميم بعض المرافق، مرده ظروف الزمان والمكان، ولكن يظل الاقتصاد رأسماليأ طالما لم يعد الاستثناء هو القاعدة، ومثال ذلك:

انجلترا وفرنسا، حين تولى الحكم في الأولى حزب العمال، وفي الثانية الحزب الاشتراكي، وتوسعا في تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي واتجها إلى التأميم، ورغم ذلك ظل الاقتصاد الانجليزي أو الفرنسي رأسمالياً طالما ظلت الغلبة للحرّية الاقتصادية وللملكية الخاصّة.

وفي الاقتصاد الاشتراكي: الأصل هو تدخل الدولة وانفرادها بمباشرة النشاط الاقتصادي، والاستثناء هو ترك الأفراد في ممارسة بعض أوجه هذا النشاط، ويترتب على ذلك أنّ الأصل هو الملكية العامّة، والاستثناء هو الملكية الخاصّة لبعض وسائل الإنتاج يعترف بها النظام بحكم الضرورة، إذ الملكية الخاصّة في نظره غير مصونة بدعوى أنّها سبب كلّ المشكلات الاجتماعية.

وهذا الاستثناء قد يضيق أو يتّسع، باختلاف ظروف كلّ مجتمع، ولكن يظل الاقتصاد اشتراكياً، طالما لم يعد الاستثناء هو القاعدة، مثال ذلك رومانيا والمجر، فرغم اتّجاهما إلى الحرّية الاقتصادية والتوسّع في الملكية الخاصّة، فإنّ الاقتصاد الروماني أو المجري يظل اشتراكياً طالما ظلت الغلبة لمبدأ التدخل والتأميم.

- وفي الاقتصاد الإسلامي: الحرّية الاقتصادية للأفراد وتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي – كلاهما أصل يتوازنان، إذ لكلّ منهما مجاله بحيث يُكمّل كلاهما الآخر، وكلاهما مُقيّد وليس مطلقاً، ويترتب على ذلك أنّ الاقتصاد الإسلامي يقر الملكية المزدوجة: الخاصّة والعامّة، وكلاهما كأصل يُكمّل الآخر، وكلاهما ليس مطلقاً بل هو مقيّد بعدة قيود باعتبارهما أمانة واستخلافاً ومسئولية، مما أحال كلاً من الملكية الخاصّة والعامّة إلى مجرد وظيفة اجتماعية أو شرعية يسأل عنها الفرد أو الدولة.

ومن هنا كانت التنمية الاقتصادية في الإسلام، هي مسئولية الفرد والدولة معاً، بحيث لا يغنى أحدهما عن الآخر. بل إنّ الإسلام في اعترافه للملكية سواء كانت خاصّة أو عامّة، وفي نظرته إليها وتنظيمه لها، إنما أقامها باعتبارها وسيلة إنمائية لتعمير الكون بقوله تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود/ 61). أي كلّفكم بعمارتها. بحيث تنتفي أو تسقط شرعية الملكية سواء كانت خاصّة أو عامّة، إذا لم يُحسن الفرد أو الدولة استخدام هذا المال استثماراً أو إنفاقاً في مصلحته ومصلحة الجماعة.

3- حدود الحرّية وتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي في الإسلام:

في مجال النشاط الاقتصادي، الدولة في الإسلام ليست عنصراً بديلاً ولا منافساً للأفراد، وإنّما هي مجرد عنصر مُكمّل. فإذا كان (فرض كفاية) على الأفراد القيام بكافة أوجه النشاط الاقتصادي الذي يتطلبه المجتمع فإنّه إذا عجز الأفراد عن القيام ببعض أوجه هذا النشاط كاستصلاح الصحارى ومد خطوط السكك الحديدية وإقامة المصانع الثقيلة كالحديد والصُّلب، أو إذا أعرض الأفراد عن القيام بعض أوجه النشاط التي قد لا تحقق لهم ربحاً كإنتاج الأسلحة الحربية، أو إذا قصّروا في القيام ببعض أوجه هذا النشاط كعدم كفاية المدارس والمستشفيات الخاصّة، أو انحرفوا في استغلالها، فإنّه في مثل هذه الأحوال يصير شرعاً (فرض عين) على الدولة أن تتدخل وأن تقوم بأوجه هذا النشاط. وواضح أنّ هذا التدخل ليس مصادرة أو معارضة أو منافسة لحرّية الأفراد أو حقّهم في القيام بمختلف أوجه النشاط الاقتصادي، وإنّما هو للتكامل والتعاون من أجل تحقيق الصالح العام بحيث يجب أن يوزن ذلك التدخل في سببه وفي مداه بقدر ما تقتضيه الضرورة أو المصلحة. ومن هنا يتبيّن أنّ الدولة الإسلامية لا تملك أن تصادر أو تؤمم نشاطاً فردياً لمجرد شهوة أو التزام مبدأ التأميم، بل لابدّ أن يثبت انحراف هذا النشاط وإضراره بالصالح العام، كما يجب أن يُنظر في تعويض أصحابه إذ لا يجوز شرعاً أكل أموال الناس بالباطل. وثمة صور أو مجالات يفترض فيها الإسلام تدخل الدولة ابتداءً ومقدماً، ومن قبيل ذلك ضمان حد الكفاية لا الكفاف لكلّ فرد، باعتباره حقّاً إلهياً مقدساً يعلو فوق كلّ الحقوق، وبدونه لا تستقيم عبادة، ومن ثم أقام له الإسلام منذ أربعة عشر قرناً مؤسسة خاصّة هي مؤسسة الزكاة التي هي بالتعبير الحديث (مؤسسة الضمان الاجتماعي). ومن قبيل ذلك أيضاً تحقيق التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع، والعدالة في توزيع الثروات والدخول، بقوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (الحشر/ 7). وإذا كان الإسلام قد أقر الملكية الخاصّة وحماها إلى حد قطع يد السارق، فقد وضع لها قيوداً عديدة، ليس فحسب من حيث اكتسابها والتزاماتها، وإنّما - أساساً - من حيث مجال وكيفية استعمالها، مما لا نجد له مثيلاً في أي نظام للمرافق الأساسية وكافة الأراضي التي لا مالك لها، بل استخدمت صوراً جديدة للملكية العامّة لم تكن موجودة من قبل كالمساجد والأوقاف وأراضي الحمى والأراضي المفتوحة، ويرفض الإسلام كمبدأ سياسة تقوية القطاع العام على حساب القطاع الخاص، أو العكس إذ كلاهما بمثابة رئتي المجتمع بحيث لا يتصوّر أن يتنفس برئة واحدة أو برئتين غير متوازنتين. والتنمية الاقتصادية في الإسلام هي مسؤولية الفرد والدولة معاً، وهي تنمية (شاملة) و(متوازنة) (دعامتها الإنسان نفسه). ومن ثم لا يقبل الإسلام (تنمية رأسمالية) تضمن حرّية التعبير، ولا تضمن لقمة الخبز، وتقتل حرّية التعبير. كما يستلزم الإسلام توازن جهود التنمية، فلا يقبل أن تنفرد بالتنمية المدن دون القرى، أو أن تستأثر الصناعة بالتنمية دون الزراعة، أو أن يركّز على المشروعات الإنتاجية دون الخدمات والتجهيزات الأساسية، أو تقدّم الكماليات أو التحسينات على الضروريات أو الحاجات... إلخ من الأخطاء العديدة التي وقعت فيها مختلف الدول العربية والإسلامية مقلدة دون وعي تجارب شرقية أو غربية، غافلة أو جاهلة الصيغة الإسلامية بضرورة التوازن الإنمائي، كما أنّ غاية التنمية الإسلامية الإنسان نفسه، لا تستعبده المادّة شأن التنمية الرأسمالية، وإنّما مُحرراً مُكرماً يعمر الدنيا ويحييها بالعمل الصالح ليكون بحقّ خليفة الله في أرضه، فيسعد في الدنيا ويفوز بجنّة الله في الآخرة.

 

المصدر: كتاب الإسلام دين الحرّية    

ارسال التعليق

Top