إنّ أهمية ممارسة الحرية، باعتبارها الاختيار الحر، والاقتناع الذاتي، تضعنا في مأزق يتمثل في حدود هذه الحرية، والتصور السائد لدى العلماني المتغرب، بوصف الحرية وكأنّها بلا حدود. وعندما نتكلم عن حرية النخبة، السياسية والاقتصادية والثقافية، تصبح الإشكالية جداً خطيرة، فهل النخبة تتمتع بحرية بلا حدود؟! وهل يصح ذلك؟!
الواقع يؤكد أنّ الدعوة إلى الحرية المطلقة، ليست عملية، ولا هي منطقية. لأي تصور مطلق للحرية، يعني حدوث صدام بين الممارسين للحرية، لأنّ كلاً منهم يمارس حقه بلا حدود، وبالتالي يجور على حقوق الآخرين، مما يولد صراعاً بين الممارسات الحرة، وتضارباً وتعارضاً في توجهاتها. وكذلك، فإنّ الحرية المطلقة، تعني أنّ كل فكرة جائزة، ولها حقوق الممارسة وفرصها. ولكن الواقع، أي واقع بشري، لا يتحمل كل الأفكار والممارسات. ففي أي اجتماع بشري، يلزم وجود قدر من الاتساق والترابط، هو جزء أصيل في وجود (الاجتماع) نفسه.
وفي الممارسة السياسية، لنا وقفة، حول حدود الحرية وحدود الممكن. ونلاحظ مثلاً، أنّ الدول الغربية، والتي تلتزم بالحضارة الغربية من حيث المبدأ، لا تعرف الحرية المطلقة في السياسة، بل ـ على العكس من ذلك ـ تعرف تجريم بعض الأطروحات السياسية. فالحضارة الغربية ـ كنموذج عام ـ أفرزت العديد من الأطروحات السياسية، منها اليميني واليساري. وعلى الجانب اليميني، نجد الليبرالية والرأسمالية المتطرفة والنازية. وعلى الجانب اليساري، هناك الاشتراكية الديمقراطية، واشتراكية الحزب الواحد، والشيوعية. ولم نشهد حتى الآن، نظاماً يسمح بكل البدائل، ويعطيها الحق في ممارسة الدور السياسي. فلا نجد دولة بها أحزاب شرعية لأقصى اليسار واليمين، مروراً بكل الدرجات الوسطى. ففي روسيا الشيوعية، كانت الرأسمالية جريمة، وفي أمريكا الرأسمالية كانت الشيوعية جريمة. وفي ألمانيا الديمقراطية، ما زالت النازية جريمة.
ومعنى ذلك، أنّ كل دولة تحدد اختياراتها، في مجال ما، يسمح بقدر لا بأس به من التعدد والتنوع، ولكن لا يسهم بالحدود القصوى للتنوع. والنموذج الحالي لروسيا، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، شديد الأهمية في هذا المجال، لأنّ الوضع الراهن لها، يظهر عدداً من التيارات السياسية النازية والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، وهي حالة نادرة وليست نموذجية، وفي الواقع هي حالة تفكك وانهيار وفوضى، والأقرب أنّها حالة ما قبل تحديد اختيارات الدولة في المستقبل، بعد أن تخلت عن اختياراتها السابقة، أي الشيوعية كحل وحيد.
معنى ذلك، أنّ في أية دولة، تعرض التيارات السياسية، بشكل أو آخر، ثم تتجه الجماعة السياسية إلى تحديد الاختيارات المقبولة، والتي يستمر بينها تداول السلطة والتنافس السياسي. ومعنى ذلك، أنّ هناك اختيارات مرفوضة، وهي اختيارات يتم في الأغلب تحريمها سياسياً، فتصبح أحزاباً غير شرعية، لا يسمح لها بالعمل تحت مظلة القانون.
ومن الواضح أنّ عملية الاختيار السياسي، تتكرر عبر فترات زمنية، وغالباً ما تشكل البداية وكل بدايات جديدة. ففي ألمانيا مثلاً، كانت النازية أحد الاختيارات التي لها حق العمل وتداول السلطة مع غيرها، وبعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت النازية محرمة، وتمثل قوى غير شرعية.
بهذا المعنى، يصبح هناك أكثر من مرحلة للاختيار، الأولى هي مرحلة لاختيار الشرعي من غير الشرعي، حيث يتم عزل بعض القوى عن ممارسة السياسة. والثانية هي مرحلة اختيار بين القوى الشرعية، وتتم على فترات متتالية، لتحقق تداول السلطة. وإذا مرّ المجتمع بظروف تغير من أحوال وحساباته، أو مر بأزمات أو انهيارات، فإنّه يعود مرّة أخرى للمرحلة الأولى الأساسية ثم دواليك.
الاختيار السياسي بهذا، اختيار أساسي يلقى القبول من الجميع، أي بالاتفاق العام، أو الإجماع، ثم اختيارات فرعية تختلف فيها وعليها التيارات السياسية الشرعية. وبدون الاتفاق العام، لا يتحقق الاختيار الفرعي. فعلى المجتمع أن يحدد أولاً اتفاقاته العامة، التي تعبر عنه كوحدة كلية لها وجودها وتماسكها، ومن ثم يستطيع أن يسمح بتداول السلطة، داخل إطار هذا الاتفاق العام.
وبدون الاتفاق العام، يمر المجتمع والدولة بحالة فوضى سياسية شاملة. لأنّ تداول السلطة هنا يعني (تداول السلطة) و (تداول النظام)، إن صح التعبير. فقبل الوصول إلى اتفاق عام حول البدائل الممكنة، تصبح كل البدائل متاحة وفاعلة، ولكن تداول السلطة بينهما غير جائز بالهدف المقصود منه. ولنتخيل مثلاً، دولة تمر بحكم شيوعي، ثم رأسمالي، ثم اشتراكي، ثم نازي، خلال عقدين من الزمن. مثل هذه الدولة لن توجد أصلاً كدولة، لأنّ التغير الجذري في النمط السياسي، سوف يحطم بناء الدولة وتماسك المجتمع.
ذلك في الغرب، فماذا عنا؟!
الواقع أنّ ما نمرّ به في العالم العربي والإسلامي، يصل لحد أكثر خطورة مما سبق. ففي الغرب هناك اختيار حضاري، لحضارة الغرب نفسها، بقيمها الأساسية، مثل الفردية والمادية والرفاهية ومجتمع الوفرة وغيرها. أي أنّ الدولة الغربية حددت اختياراً حضارياً، من خلال اتفاق وإجماع عام، يسود كل دول الغرب، فهو اتفاق عام وأساسي داخل كل دولة، وبين الدول أيضاً. وهذا الاتفاق هو أساس وجود ما يسمى بالحضارة الغربية، وهو أيضاً أساس وجود التقدم الغربي، والعلم الغربي، وكل هذه الإنجازات وغيرها.
معنى ذلك، أنّ الاختيار الحضاري، هو اختيار بديهي، ولا يطرح للمناقشة بشكل علني وصريح. لأنّ الاختيار الحضاري عملية معقدة، يمرّ بها المجتمع خلال سنوات عديدة، ويحددها في النهاية، من خلال صراعات وحوارات وإبداعات، تستغرق سنين عديدة. ومن خلال الاختيار الحضاري، ينتقل المجتمع إلى تحديد الاختيارات السياسية.
والاختيار الحضاري أيضاً هو اختيار بين بدائل. ففي الحضارة الغربية، هناك بدائل حضارية، ونماذج مرحلية للحضارة الغربية. وفي العصر الحديث، فإنّ الغرب اختار نموذج العلمانية الغربي، ورفض نموذج الحكم بالحق الإلهي الغربي أيضاً. بهذا يصبح الاختيار الحضاري متغيراً عبر مراحل التاريخ. ثم داخل كل اختيار حضاري، يختار المجتمع بدائل سياسية، ويغيرها مرة ومرات داخل نفس المرحلة الحضارية. ثم تتغير المرحلة الحضارية نفسها، وهكذا دورات داخل دورات.
ولكن هل يمكن أن يمرّ المجتمع بمرحلة اختيار بين الحضارات؟ أو هل يمكن أن يحدد المجتمع عدة اختيارات حضارية تتداول السلطة؟!!
هذا في الواقع، وهم وخيال، ولكنه حقيقة في بلاد العرب والمسلمين. فالغرب لم يختر أن يكون ذلك، فأصل هويته ليست موضع تساؤل، ولكنه اختار أو أنجز مرحلة حضارية، ثم كل دولة فيه تحدد بدائلها السياسية الشرعية عبر فترات مرتبطة بالأحداث والظروف. أما نحن، فنمرّ الآن بمرحلة نختار فيها بين الحضارات نفسها، ونناقش شرعية اختيار حضارة في مواجهة أخرى.
وعلى صعيد النخبة، من وكلاء الغرب، سنجد أنّهم اختاروا الحضارة الغربية، وممارسة الحرية في نطاق حضارة الغرب. وبالتالي، أصبحت البدائل السياسية، هي التيارات السياسية الغربية. والاختلاف بين نخب الغرب المحليين، حول السماح بكل البدائل الغربية السياسية، أو تحديد اختيارات منها. أي السماح بالشيوعية حتى الرأسمالية المتطرفة، أو اختيار نماذج قريبة من بعضها. والغريب أنّ هناك، بين وكلاء الغرب، اختلافاً آخر في تحديد الاختيارات: فبعضهم يرى أهمية إقصاء الحضارة العربية الإسلامية بكل تياراتها، وغيرهم يرى أهمية إعطاء الشرعية لأي تيار عربي وإسلامي يمكن أن يتكيف مع النموذج الحضاري الغربي، ويرضى بشروطه!!
ذلك في ظني، منتهى الفوضى، ومبلغ التشتت والتفكك. لأنّنا لم نحدد الحضارة، ولا الاختيار الحضاري، ولا جملة البدائل السياسية في كل فترة. والأهم، أنّنا نسأل عن أمر غير تاريخي، ومعاد لقانون التاريخ والجغرافية، وهو أية حضارة نتبنى؟! ولا يوجد شعب يسأل هذا السؤال، فالحضارة لا تختار، لأنّها موجودة بفعل المكان والزمان والإنسان.
والحقيقة أنّ المشكلة التي نعاني منها، هي صراع حقيقي في مجال الحرية. ففي أية أمة، لا يجوز أن نمارس الحرية خارج اتفاقها الحضاري، وفي أية مرحلة زمنية، لا يجوز ممارسة الحرية خارج الاتفاق العام المرحلي السياسي. والمشكلة العربية الإسلامية المعاصرة، هي أزمة الصراع بين حرية النخبة، وحرية الأمة. وأظن أنّ الحرية غير مطلقة ـ كما سبق وأشرت ـ ولكني أتراجع لأقول إنّ حرية الأمة مطلقة في اتفاقها وإجماعها. فالأمة يمكن أن تجمع وتتفق على ما تريد، وهي حرية مطلقة، لأنّ الأمة لا تجمع على غير ما تؤمن به، ولا غير مصلحتها. ولكن حرية النخبة غير مطلقة، بل هي مشروطة بما تتفق عليه الأمة. لأنّ النخبة، وخصوصاً وكلاء الغرب، يمكن أن تختار ما يهدم الأمة نفسها.
الأمة بحضارتها، شرط لأية ممارسة للحرية، وثوابتها دستور يلتزم به الجميع، لأنّ اتفاقها وإجماعها، هو القرار السياسي الأول. لهذا ننادي بحرية الأمة، من نخبتها المتغربة، وسيادة اختيار الأمة، على اختيار وكلاء الغرب. وليس لأحد أن يظن في ذلك تعارضاً مع الحريات، لأنّه لن تقوم لنا قائمة، نحن نفتح ممارستنا لأي بديل، ونتساءل حتى عن حضاراتنا، ونختار بين حضارتنا وحضارة الآخرين وكأنّها اختيارات ندية متاحة، ونساوي بين مقدساتنا ومقدسات الآخرين. بل أكثر من ذلك، فما ننادي به من حرية سياسية، حسب رؤى وكلاء الغرب، يفرض على الأمة اختيار غير حضارتها، ويهمش ثوابتها لصالح ثوابت الآخرين، وينزع من الأمة حريتها في اختيار نفسها، وهو اختيار تلقائي فطري، لصالح تمتع النخبة المتغربة بالحرية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق