• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحج.. شعاره العمل والوحدة

عفيف النابلسي

الحج.. شعاره العمل والوحدة

   ◄قال تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج/ 27-28).

فكرة الحج هي فكرة تمهيدية وصورة مصغّرة عن يوم القيامة، بل قل هي القيامة الصغرى، وهذه الفكرة تقوم بدور تذكيري كبير لإعادة الوضع الإنساني إلى الدائرة الوسط.

فهي أوّلاً: تثير بنفس الإنسان حالة القرب من النهاية، والتي تجعل الإنسان يراجع حساباته في الظروف الصعبة، ويتراجع عن أمور كثيرة، ويتنازل عنها لحساب المستقبل.

وثانياً: تيعد إلى الإنسان ذاكرة الإنسانية في نفسه، بل قل العبودية الصحيحة؛ لأنّ البيئة الاجتماعية خلقت فيه ميلاً حسيّاً ونفسيّاً إلى عبوديات كثيرة، فهو مستغرق في أشكال العبوديات يهتف لها ويعمل من أجلها ويفلسفها ويدعو إلى العمل تحت شعاراتها، كما نسمع أو نقرأ عن أشكال متعددة وعناوين متنوعة من فلسفة انجرار الإنسانية إلى عبودية البشر والحجر والشجر والذات والهوى والجند والرئاسة والقومية والعرقية والأصالة والعراقة والكرامة والمصلحة، فهو عندما يحرم ويلبّي ويصلّي وينوي ويطوف ويسعى ويقصر ويقف ويبيت ويرجم ويذبح ويحلق، يستشعر عظمة الله في نفسه، ويستصغر كلّ الآلهة المصطنعة وأنصاف الآلهة الذين جعلوا أنفسهم أرباباً تُعبد من دون الله.

نعم، في مناسك الحج يتجاوز الإنسان ذاته ويهاجر كهوفها المظلمة ويترك أنانيته وكبرياءه؛ ليحقق أفضل المنطلقات الجديدة لها، أو قل ليبني ذاته من جديد، ويركز وجوده من جديد ويؤمن ذاته من جديد. ويعلي ذاته من جديد؛ لأنّه كما ساهم في إنزال الذات وإسقاطها من لباس الكبرياء والعظمة والأنانية كما أعلى شأنها وأقام بناءها على أتمّ أساس وأكرم مستقبل.

ثالثاً: أنّ الحج يثير في النفس فكرة التجرّد والصعود إلى العلو حيث الشوق الكلي والاستغراق المجموعي في أُنس القداسة حيث للنفس أشواق تتجاوز فيها المعاني التي تعرفها عبر الحب والعلم والمجد والأمر والنهي والكرامة، ولا يتم ذلك إلا من خلال المعاناة والقرب المعنوي، الذي يجعل دائرة الذات أقرب إلى دائرة الاتحاد الكلي.

لا يدرك الشوق إلا من يكابده *** ولا الصبابة إلا من يعانيها

رابعاً: الحج على مستوى الدائرة الشخصية أنفع عمل شاق لراحة النفس يكتسب الإنسان فيها قوّة ومناعة وطاقة روحية وإضاءة نفسية تعكس صورته وطاقته على حياته الفردية والعائلية والاجتماعية، ويتحوّل الفرد من خلال هذا السلوك إلى أُمّة؛ لأنّه يحقّق جوهر العبودية، ولم يصل سيّدنا إبراهيم (ع) إلى هذا المستوى الرفيع من السلوك، أو قل لم يتحوّل إلى أُمّة إلا بعد أن مرَّ بمرحلة الاحتراق الكامل والانصهار التام بنار المحبّة الإلهية (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ) (النحل/ 120).

خامساً: عندما يصل الإنسان إلى المستوى العالي، ويطهر هذه الذات الأمّارة بالسوء ينتقل إلى حبّ الآخرين ويعمل من أجل إسعادهم، فهو يذوب جوعاً وشوقاً في محبتهم وخدمتهم، ويعمل جاهداً من أجل راحتهم، وإذا أصبح الإنسان كذلك، ذابت من نفسه كلّ الفوارق القومية والعرقية والقبلية واللونية، ونظر إلى بقية المسلمين بمنظار عالمي لا يفرّق بين أرض وأرض وجنس وجنس وعرق وعرق ومذهب وآخر وعاد هذا الفرد يشكِّل أمّة بكلِّ ما لها من أحاسيس ومشاعر عامة وطموحات وتطلّعات كبيرة.

سادساً: عندما يحجّ الإنسان بوعي سوف يشعر أنّه كان معزولاً عن أهله ومحبّيه، وأنّ له اخوة إذا استحكمت علاقته الطيبة معهم سوف يكون علاقة مع الوشائج الثقافية على مستوى طموحات الأُمّة ثقافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ومن الأخطاء أن يحاول بعضٌ جرّ الناس لنفسه بدل أن يجرّها لربّه، ويقدِّم لها ثقافةً شخصية بدل أن يزوّدهم بثقافةٍ إلهية.

لأنّه عندما يحجّ ويرى هذه الحشود البشرية الدولية العالمية كلّها تلتقي في الكعبة المشرّفة وتؤدِّي نفس المناسك، وتعبِّر المناسك عن مدلول وحدوي كبير سوف يشعر الحاج بأدائه لهذه الفريضة أنّه ملّ الزمن وملّ التاريخ وملّ المستقبل، وأنّ المعاناة التي يلاقيها من طواغيت زمانه ما هي إلّا مشقّة صغيرة، وبعدها الراحة الكبرى في وصول الإسلام المحمّدي الأصيل.

سابعاً: أنّ تأمّلات المسيرة الاجتماعية من خلال التصور الإسلامي سوف تظهر بشكل أبرز وأوضح: لأنّ المجتمع الإسلامي المجتمع النخبة يعيش حالة الانصهار الكامل في المشاعر والعواطف والشعائر، وهذا المجتمع المتماسك القوي، والذي يتفاعل مع ربّه وأوليائه في هذه الرحلة هو الذي سوف ينقل هذا التفاعل من خلال عملية تلقيحية تنتج زروعاً نامية الثمار في الحقل الاجتماعي الكبير. وأفضل وسيلة لتربية الأُمّة التعليم السلوكي، الذي يجسِّد الفكرة عملياً من خلال صبر القيادة أو صلابتها أو ذوبانها في الحقِّ.

وما كانت المسيرة الإسلامية في حياة الرسول الأقدس لتنتصر لولا وجود المجتمع القدوة صاحب السلوك النبيل والفارق في الإيثار والمحبة وخدمة الناس، وكذلك ما كانت المسيرة الإلهية لتنتصر لولا وجود عناصر ذابت في الوحدة والأُمّة وأعطت كلَّ ما عندها، وتنازلت عن الكثير الكثير من وجودها وحضورها في المسرح وتحت الشعاع.

ثامناً: أنّ المدخل السياسي المهم لحركة الأُمّة يؤخذ من قوّتها وتمسّكها بشعائرها ومقدّساتها، وأنّه بلغ من حفاظ الأُمّة على مقدّساتها أن تبذل النفس والنفيس للوصول إليها، فهاهم المسلمون اليوم وقبل اليوم يستجيبون لنداء الله، ويأتون على كلِّ ضامر ومن كلِّ فجّ عميق في الجو والبر والبحر، ليعلنوا موقفاً موحّداً وهدفاً موحّداً وثقافة موحّدة وشعائر موحّدة.

وعلى الأُمّة في هذا المجال أن تضع القيادة الموحّدة، وتتّخذ المواقف الموحدة من أعدائها، وتحدّد العداوات على ضوء المرحلة أو على ضوء الهدف.

 

المصدر: مجلة ميقات الحجّ/ العدد 12 لسنة 2000م

ارسال التعليق

Top