العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله
صحّة القلب هي أن تنبض مشاعره وأحاسيسه في الخطّ المتوازن الذي ينفتح على الخير بكلِّ ما له من معنى.
مرض القلب:
في ما يعيشه الإنسان في حياته، نوعان من الصحّة، وفي مقابلهما نوعان من المرض.
1- صحّة الجسد، وهي تتمثَّل في أنّ كلّ أجهزة الإنسان تتحرّكُ بشكلٍ طبيعيٍ، بحسب القوانين التي أودعها الله فيها، حيث لكلِّ من الدماغ والعينين والأذنين واليدين والرجلين والمعدة والقلب... لكلِّ واحدٍ من هذه الأعضاء دورٌ معين حدّد الله له فيه خطوطه بكلِّ حركته في إدارة الجسد في الحياة الإنسانية. وفي مقابل هذه الصحّة الجسدية، هناك مرضٌ جسدي يتمثّل بانحراف كلِّ جهاز من أجهزة الجسد عن وظيفته في مسارها الطبيعي، وعن القوانين التي أودعها الله فيه.
2- صحّةُ الداخل الإنساني، فللإنسان عقلٌ يُنتج الفكر والثقافة، ويدرك حُسن الأشياء وقبحها، وهناك القلب الذي ينبض في داخل الإنسان بالمشاعر والأحاسيس، وهُناك في وعي الإنسان تطلّعاتٌ وأهدافٌ تتحرّك في ما ينفتح به الإنسان على تخطيط حياتِهِ. وصحّة العقل تنطلق من انسجامه مع خطوط الفكر الموضوعي الذي يدرس الأمور بشكلٍ متوازنٍ دقيق؛ ليضع كلّ مسألةٍ في موقعها الطبيعي، وليصل إلى النتائج التي يراها صحيحةً، لكي يبني عليها الإنسان حركته، إقداماً إو إحجاماً أو تحفّظاً. وصحّة القلب هي أن تنبض مشاعره وأحاسيسه في الخطّ المتوازن الذي ينفتح على الخير بكلِّ ما له من معنى. أما المرض الداخلي، فهو انحراف العقل عن مساره الطبيعي، بحيث يختلط لدى الإنسان الحقّ بالباطل، فلا ينفتح على الحقِّ في إدراكاته، وإنما ينغلق على الباطل. وربما يتمثّل المرض القلبي بتمازج الخير والشر في مشاعر الإنسان وأحاسيسه. وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذا المرض الداخلي الذي يصيب الإنسان، والذي عانى النبيّ (ص)، في دعوته إلى الإسلام وفي حركته لتركيز الواقع، من الذين أصيبوا به، ولاسيّما في المدينة، وذلك عندما التقى بالمنافقين الذين شكّلوا مجتمعاً منحرفاً متحركاً في سبيل إرباك الدعوة الإسلامية وحركة بناء الدولة. هؤلاء الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة/ 14).
مرض النفاق:
وقد اعتبر الله سبحانه وتعالى النفاق من الأمراض الداخلية المستعصية التي تعرض على القلب، ويراد به في القرآن منطقة الوعي الداخلي، التي يمتزج فيها الفكر بالإحساس وبالشعور وغيرها من حركة النفس، والتي تُعرض على العقل، فتنفتح بالإنسان على المتاهات في ما يفكِّر فيه وفي ما يخطِّط له. فإذا نفذت إلى قلوب هؤلاء، فإنك تكتشف حالةً مرضية؛ فالعقل لا يفكّر بشكلٍ سليم، والقلبُ لا ينبض بشكل متوازن، والوعيُ لا ينفتح على مطالع النور؛ بل يعيش في كهوف الظلام: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (البقرة/ 10)؛ لأنّ الصحّة الداخلية النفسية للإنسان لابدّ من أن تنطلق من خلال حركة العقل في ما يدركه، فالإنسان عندما ينفتح بعقله على أيّة فكرة وعلى أيّة عقيدة من العقائد، فإنّ من الطبيعي أنّه إذا اقتنع بهذه الفكرة ورأى أنها حقّ، فإنه يلتزمها ويوجِّه حياتهُ كلَّها في اتجاهها، وهكذا إذا أراد أن ينتمي إلى أيّ عقيدة أو أيّة فكرةٍ، فإنّه لا ينتمي إليها إلا إذا اقتنع بها واعتبرها حقيقةً من حقائق العقيدة، أو حقيقةً من حقائق الثقافة، فالانتماء عنده لابدّ من أن يرتكز على قاعدةٍ تنطلق من الفكرة التي يؤمن بها العقل من خلال إدراكه للحقّ.
وعلى ضوء هذا، فإنّ الصحة النفسية والداخلية تتمثَّل في المؤمنين، لأنهم حرّكوا عقولهم فأدركوا من خلالها الإيمان بالله، فانفتحوا على التوحيد في ألوهيته، وامتدّوا من خلال التوحيد إلى وحدانيته في العبادة وفي الطاعة؛ وبذلك كان سلوكهم في الخارج مطابقاً لاقتناعهم والتزامهم الفكري والعقيدي في الداخل؛ فليست هناك ازدواجية؛ فهم يؤمنون بوحدانية الله ويلتزمونها في حياتهم، فالوحدانية متداخلة في العقل وفي الواقع. وهذا ما يجعل مسألة الانتماء مطابقةً لمسألة الاقتناع الفكري.
أمّا المنافق، فإنّه بحسب سلوكه العمليّ، يُظهر الانتماء إلى الإسلام، وينخرطُ في الأوضاع العامّة التي يتحرّك فيها المسلمون في المجتمع الإسلامي؛ ولكنّه، في الواقع الخفيّ من حياته، عندما يجتمع مع الناس الذين يلتقي معهم بالأفكار المنحرفة، فإنّه يظهر انتماءه إلى الكُفر. فهذه الحالة تمثّل حالةً مرضية؛ لأنّ هناك ازدواجية بين ما هو العقل في ما يفكّر، وبين ما هو السلوك في ما يتحرك فيه الإنسان، فليست هناك وحدة في الداخل الإنساني. ونحن نعرف أنّ الصحة الداخلية تفرض أن تكون أجهزة الوعي والفكر والسلوك متطابقة بعضها مع بعض، وتتحرّك في انسجامٍ كامل، لا يُفرض على جهازٍ منها حركةً تناقض ما تتطلّبه الأجهزة الأخرى.
الرِّياء العقيدي:
ولذلك، ركَّز الله سبحانه وتعالى على هؤلاء الذين يمثِّل رياؤهم أخطر أنواع الرِّياء، وهو الرّياء في أصول العقيدة؛ لأنهم يُبطنون الكفر ويُظهرون الإيمان، وقد تحدّث الله عنهم في أكثر من آية، منتقداً سلوكهم المنحرف الذي يوجّهونه ضدّ المؤمنين، فيقول تعالى: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ) (الأنفال/ 49)، بمعنى أنّ هؤلاء المسلمين مخدوعون في التزامهم الديني؛ ولكنّه سبحانه وتعالى يؤكد في المقابل أنّ هؤلاء هم من المؤمنين الذين يتوكّلون عليه ويُرجعون كلّ أمورهم إليه ويلتزمون الخط المستقيم بإيمانهم به وفي حركتهم في خطِّ الإيمان: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال/ 49).
ويُحدِّثنا الله سحبانه وتعالى عن أولئك الناس الذين ابتلوا بمرض القلوب، فعندما كانت تنزل سورة على النبيّ (ص)، ممّا كان يوحي به الله سبحانه وتعالى إلى رسوله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليوجِّههم إلى الأخذ بأسباب الخير والحقِّ والعدل، حتى ينطلق الناس في الخطِّ التوحيدي على أساسٍ من العمق الروحي والعمق الفكري والامتداد الإيماني، فكيف كانوا يتصرّفون؟
فيقول تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) (التوبة/ 124)، أي من هو الذي استفاد من هذه السورة؟ ومن الذي أعطته هذه السورة وعياً جديداً في مسألة الإيمان؟! إنّهم يتساءلون تساؤل الإنسان الساخر لا تساؤل الإنسان المؤمن الجدّي؛ لأنّهم لو كانوا جدّيين في المسألة، لاستغرقوا في كلّش آيات هذه السورة، وتفهّموا كلَّ معانيها، وانفتحوا على كلِّ آفاقها، والتزموا بكلِّ ما فيها من مواعظ ومن حكم ومما يقود الناس إلى الخير كلّه وإلى الحق كُلِّه. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (التوبة/ 124)، هؤلاء الذين كانوا يحاولون أن يستمعوا إلى النبيّ (ص) عندما ينزل الوحيُ عليه، ليلتقطوا كلَّ آية، وليتفهَّموا ما فيها من معانٍ ومن أحكام، ليهتدوا بذلك، وليتقربوا من الله سبحانه وتعالى في ما يريده لهم من زيادة في الإيمان ومن انفتاح واعٍ على توحيده. (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهم المنافقون، هؤلاء الذين لا يؤمنون بالوحي ولا يؤمنون بالقرآن؛ لأنهم يحملون العُقدة في نفوسهم تجاه كلِّ سورةٍ يتلوها النبيّ (ص) على الناس من حوله ليوجّههم إلى ما تشتمل عليه من العلم والحكمة والخير، أمّا هؤلاء (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) (التوبة/ 125)؛ لأنّ عقدتهم التي يعيشونها في أنفسهم تجاه المؤمنين، سوف تزداد كلّما ازداد هؤلاء إيمانا، (وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة/ 125)؛ لأنّهم كانوا يعيشون الكفر في نفوسهم وقلوبهم وأفكارهم. ويحدِّثنا الله عن مرضى القلوب الذين عاشوا مع النبيّ (ص) في وقعة الأحزاب: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا) (الأحزاب/ 11-12)، بحيث كانوا يحاولون أن يخلِّلوا المجتمع في هذه الأزمة القاسية التي حدثت للمسلمين، عندما انطلقت الأحزاب لمهاجمة المدينة بهدف تدميرها واستئصال الإسلام كله والمسلمين كلهم، ولذلك عندما عاش هؤلاء هذا النوع من الزلزال الأمني، انطلق هؤلاء المنافقون للتشكيك في ما وعد الله به المسلمين، وفي ما وعد به الرسولُ المسلمين. وقد تحدّث القرآن الكريم عن الذين في قلوبهم مرضٌ، فمنهم أولئك الذين يتعاملون مع النساء من خلال الريبة، أو من خلال الفكرة المنحرفة المنفتحة على الشهوة.
قال تعالى: - في خطابه للنبيّ – (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) (الأحزاب/ 32)، أي تحدَّثْنَ بشكلٍ طبيعي مع الناس الذين تحتجن إلى الحديث معهم، ولا ترقِّقنَ أصواتكن أو كلماتكنّ، بحيث يستثير ذلك حالة الشهوة لدى هؤلاء؛ لأنّ من الناس من لا يفكّر إلا من خلال خلفيّة الشهوة لديه: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (الأحزاب/ 32).
وقد حدّثنا الله عن هؤلاء المنافقين، لأنّه سبحانه لن يخفي نفاقهم، بل سوف يخرجه من خلال ما يتمثّل في ذلك من الحقد: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) (محمّد/ 29).
العلاج الروحي:
من خلال ذلك كلّه، نعرف أنّ هناك أمراضاً نفسية وأمراضاً روحية يمكن أن تصيب الإنسان في حياته، وقد تتمثّل في النفاق الذي يختلف فيه جانب الظاهر عن جانب الباطن؛ وهذا هو أبرز مواقع الرياء، وهو أخطرها؛ لأنّه رياءٌ في العقيدة، وليس مجرد رياء في العمل. ولذا نقول إنّ هذه الأمراض، سواء كانت أمراضاً جسديةً أو أمراضاً داخلية، لابدّ للإنسان من أن يعمل على علاجها؛ لأنّه إذا لم يعالج الأمراض الجسدية، فربّما تؤدي إلى إنهاء حياته؛ ويجب على الإنسان إنقاذ حياته من التهلكة. وكذلك، فإنّه إذا كان مبتلىً بمرضٍ داخليٍ، فإنّه يجب عليه أن يعالجهُ؛ لأنّ الأمراض الداخلية، ولا سيّما التي تتّصل بالعقيدة أو بعلاقة الإنسان بالله، أو التي تتصل بالواقع العملي الذي يعيشه الإنسان في مجتمعه؛ إنّ مثل هذه الأمراض ربّما تؤدّي إلى غضب الله وسخطه، وإلى فقدان صفاء الإيمان، وإلى أن ينال في الآخرة عذاب الله، كما رأينا ذلك في الرياء، في ما قدّمناه من حديثٍ، لأنّ ما يتحرّك به الإنسان من رياء في الجانب الاجتماعي أو في الجانب السياسي، فإنّه قد يتركُ تأثيره على المجتمع، فيسيء إلى نفسه وإلى المجتمع؛ فلابدّ له من أن يعالجه معالجةً روحية، بحيث يدرك بأنّه لابدّ في كلِّ ما يتحرك به، سواء كان تحرّكاً عبادياً، أو في عملية الإصلاح الاجتماعي، أو في عملية الإنقاذ السياسي أو ما إلى ذلك، لابدّ من أن يدرك بأنّ عليه أن لا يعيش الازدواجية بين ما يؤمن به وبين ما يتحرّك فيه، وأنّ عليه أن لا يخدع الناس في أن يُظهر لهم أنّه على خير ولكنه في الواقع يختزن الشر.
إنّ علينا أنّ نعالج الأمراض الداخلية كما نعالج الأمراض الجسدية؛ لأنّ الأمراض الجسدية قد تؤدي بالإنسان إلى موت الجسد، أما الأمراض الداخلية، فتؤدّي بالإنسان إلى موت الروح وموت الإيمان؛ وهذا من أخطر أنواع الموت الذي قد يصيب الإنسان.
المصدر: كتاب الندوة/ رقم السلسلة (18)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق